الجنس أمر حسّاس على الصعيد الشخصيّ والجماعيّ في كلّ المجتمعات ولذلك ينبغي مقاربته بالكثير من الرويّة. المثليّة ظاهرة موجودة عبر التاريخ البشريّ في جميع البلدان وجميع الشعوب دون استثناء؛ وموقف المجتمعات من المثليّة ليس ثابتًا، ولا هو واحد عبر التاريخ، إذ لم يتعرّض المثليّون (ما اتُّفق على تسميته مجتمع الميم)، ذكورا وإناثًا، دائمًا للاضطهاد عند جميع الشعوب. فالسكّان الأصليّون في أميركا الشماليّة، مثلًا، لم يقفوا موقفًا اضطهاديًّا من أصحاب الهويّات الجنسيّة المختلفة، بل قبلوهم في المجتمع كما هُم، كذلك لم يُضطهد المثليّون عموما خلال أزمنة مختلفة من حُكم الإمبراطوريّات العربيّة الإسلاميّة. لكن يهمّنا موقف الناس من منطقتنا اليوم، أكانوا في بلادهم الأصليّة أم في بلاد الاغتراب, لا نريد في هذه المقالة أن نخوض في مواضيع شائكة مثل تبنّي المثليّين للأولاد، ومحتوى المناهج الدراسيّة ولأيّة فئات عمريّة، بل نودّ التركيز على أمر أبسط بكثير: ما هو الموقف الإنسانيّ والإيمانيّ الذي ينبغي اتّخاذه من هذه الظاهرة الإنسانيّة ألا وهي المثليّة؟
المثليّة علاقة
ينطلق معظم المناوئين للمثليّة من اعتقادهم بأنّ الممارسة الجنسيّة المثليّة هي شأن إراديّ يختاره الإنسان بديلًا عن الممارسة الجنسيّة مع الجنس الآخر؛ وبما أنّ كلّ ما يتعلّق بالإرادة هو أمرٌ فيه أخذ وردّ، وبالتالي حكم قيميّ، يرفض هؤلاء هذه الممارسة على أساس أنّها «انحراف» عن أصل مسجّل في بيولوجيا الإنسان.
الفكرة عامّة هي أنّ الإنسان مخلوق ثنائيّ الجنس ذكر وأنثى، ولكن قبل الخوض في النقاش نريد أن نذكّر بوجود تنويعات أخرى يولد عليها الإنسان مثل الناس ثنائيّي الجنس. بالتأكيد، البيولوجيا الجنسيّة للإنسان، ككلّ المخلوقات، تهدف إلى التوالد واستمرار النوع البشريّ، ولكن ينبغي ألّا نخلط بين البيولوجيا وبين الممارسة الجنسيّة الواعية الحرّة، مثليّة كانت أم غير مثليّة. فالممارسة الجنسيّة هي علاقة بين شخصين وليست مجرّد بيولوجيا، وكونها علاقة فإنّها قضيّة تبقى في إطار الحرّية الشخصيّة للشخصين، ولا دخل لأحد في ماهيّة وطبيعة العلاقات الحّرة البعيدة عن القهر التي يريد أن ينشئها إنسان واعٍ مع آخر.
التوالد هو بيولوجيّ أمّا الممارسة الجنسيّة فهي علاقة شخصيّة لا تهدف إلى التوالد بالضرورة، وهي ممارسة قد يهدف بواسطتها أن يتجاوز الإنسان هدف الإشباع الغريزيّ البحت بهدف تعميق علاقة لقاء حبّي أو لا، هذا شأن شخصيّ لكلّ إنسان ونقاشه خارج موضوع بحثنا هنا. من هنا علينا أن نُقارب المثليّة من زاوية العلاقة الشخصيّة وليس من زاوية التوالد البيولوجيّ و«الانحراف» المزعوم عنه. والأفضل أن تكون المقاربة واقعيّة بشيء من التواضع والحكمة.
المثليّة واقع بشريّ
الواقعيّة تقتضي أن نلاحظ أنّ المثليّة واقع بشريّ لا يحول ولا يزول، فهو حاضر في كلّ المجتمعات على مرّ العصور، وتشير الإحصائيّات، بشكل لا لُبسَ فيه، أنّ التوجّه الجنسيّ المثليّ موجود في كلّ مجتمع، والتزايد الشكليّ لنسبة المثليّين مع الوقت في بلدان مختلفة يدلّ على صراحة أكبر في التصريح والتعبير عن الميول الجنسيّة دون خوف من عنف جسديّ أو معنويّ أو قانونيّ. وإن أصغينا بالفعل وبجدّية إلى المثليّين لوجدناهم يقولون بشكل لا لُبس فيه أنّ مثليّتهم هي توجّه لا إراديّ إلى الجنس نفسه، أيّ أنّها ليست نتيجة خيار شخصيّ يمكن تغييره بالإقناع، أو الحوار، أو الضغط الاجتماعيّ، أو القوانين، وغير ذلك. بالطبع يمكن القول أنّه ولو كان عملا إراديّا حرّا بين شخصين ناضجين فما شأن المجتمع بهم، ولكنّنا هنا نريد التأكيد أنّ المعطيات تقول بأنّه توجّه لا إراديّ.
طالما أنّ الأمر كذلك، فإنّ خوف الأهل من أن يتحوّل أطفالهم إلى مثليّات ومثليّين من جرّاء ملاحظة المثليّة في المجتمع، أو الدراسة عنها في المدارس، هو خوف في غير محلّه، إذ لن ينحو إنسان نحو المثليّة إن كان غير مثليّ بتكوينه، خاصّة أنّ هناك أدلّة، وإن غير حاسمة وربّما لن تكون يومًا حاسمة، حول دور للجينات في المثليّة. وإن كان صحيحا أنّ هناك حالات مثليّة تنشأ نتيجة ظروف اجتماعيّة مختلفة (طريقة تربية)، فتبقى هذه الحالات جدّ استثنائيّة مقارنة بنسبة المثليّة في المجتمع (النسبة هي بين 1% و4.2% في الولايات المتّحدة عام 2022).
إذًا، طالما أنّ الموضوع يتعلّق بتوجّه لدى الإنسان يمارسه أشخاص واعون بحرّية، فإنّنا نعتقد أنّ الحكمة تقتضي أن نقول بأنّ دور الدولة تجاه المثليّين لا يكون بقوانين تُحاكِم وتجرّم العلاقات المثليّة وإنّما بقوانين تحمي المثليّين من الاعتداءات وتنظّم أوضاعهم الاجتماعيّة عند الضرورة. مدى التنظيم ونوعه (تشريع زواج، حقوق بالإرث، إلخ.) قد يختلف عليه الناس في المجتمع، ولكن يحقّ لأيّة مجموعة بشريّة أن تُطالب بتنظيم أمورها في الدول التي تعيش فيها، دون اعتداء أو تنكيل. شكل التنظيم المقبول وزمنه أمران يتطلّبان عملًا وهما متروكان للمستقبل، ولكن يجب أن يُسمح بوجود هكذا مطالب وحمايتها من الدولة. المهمّ للأهالي القلقِين أن يتّضح لهم أنّ أولادهم لن يصبحوا ليسوا ما هم عليه أصلًا.
حول الموقف الدينيّ
أمّا بالنسبة لمَن يعتقد أنّ الإنسان المثليّ سيذهب إلى جهنّم، أكانت ممارسته نتيجة توجّه طبيعيّ أم لا، فهو حرّ باعتقاده. المهمّ أن يتذكّر أنّ لا أحد هو الله، وبالتالي لا أحد مخوّل أن يحوّل حياة البشر إلى جحيم، لا قبل الموت ولا بعده، فالحساب هو يوم الآخرة وبيد الله وحده وليس بيد أحد من البشر. ومَن يضع نفسه مكان الله، ينبغي أن يعيد النظر في نظرته إلى نفسه وإلى إيمانه بوحدانيّة الله. أمّا المؤمنون والمؤمنات، وخاصّة رجال الدين، الذين يقودون رعاياهم، فعليهم الاطّلاع على الوقائع من مجامع المختصّين والأطبّاء، لتثقيف ذواتهم حتّى تنطلق آراؤهم من وقائع وليس من مخاوف نابعة من أوهام.
ألا يفترض الإيمان أن يكون الإنسان واسع الأفق فاهمًا قبل أن يتصرّف؟ ثمّ هل من الإنسانيّة والإيمان أن تستخدم مجموعة وسائل القانون لتمنع وتجرّم علاقة جنسيّة واعية وحرّة بين شخصين لا تؤذي أحدًا؟ هل من الإنسانيّة والإيمان أن تفرض مجموعة على مجموعة بشريّة أن تتصرّف بشكل معاكس لتوجّهٍ طبيعيّ لا يؤذي أحدًا؟ هل يمكن لمن هو غير مثليّ ومناوئ للمثليّة أن يتخيّل أنّ مجتمعا مثليّا يفرض عليه ممارسةً مثليّة؟ ألا يمكن للإنسان أن يضع نفسه في وضع الآخر ولو للحظة ليفهم فداحة الاعتداء الذي تشكّله رغبة التحكّم بتصرّفات البشر في شأن خاص لا يؤذي أحدًا؟ أليست الحرّية شرط الحساب في الآخرة؟
خلاصة
مثليّة البعض لن تغيّر البعض الآخر؛ هناك جهل كبير في موضوع المثليّة يودي بالأكثريّة إلى رغبة بالقيام بما ليس هو معقول، ألا وهو مناهضة واقعٍ غير قابل للتغيّر، هكذا مناهضة لن تصل إلى تغيير في المثليّين، ولن تؤدّي سوى إلى تحامل المجتمع عليهم وتفتح الباب واسعًا على إمكانيّة اضطهادهم، وإلى آلام لا حصر لها. التروّي في هذا الموضوع وتقصّي الحقائق يفتح الباب أمام مقاربات إنسانيّة متّزنة، مقاربات أكثر انسجاما مع المقاصد الأخيرة للإيمان، فليس كلّ رفع للصوت هو محكّ للإيمان، المحكّ هو رفع الصوت لإحقاق الحقّ، والحقّ يجب أن يعتمد على معطيات وليس على تمنّيات وأوهام.