في 14 كانون الثاني من العام 2016، دخلت مجموعة من الناشطين في حملة “بدنا نحاسب” لمقابلة وزير البيئة آنذاك (محمّد المشنوق)، ولمتابعة مجموعة من الشكاوى، كانت قد قدمّتها الحملة، وهي الشكاوى المتعلّقة بأزمة النفايات والتلوّث التي أدّت إلى حراك صيف 2015. وبعد مرور سنوات على الحراك، تبلّغ ناشطو تلك الفترة العديد من الدعاوى المقدّمة من قبل النيابة العامّة، والتي ما زالت التحقيقات والمحاكمات سارية في شأنها حتّى الآن.
في هذا السياق، كانت النيابة العامّة قد ادّعت على 15 شابّا (وهم: وارف سليمان، علي محمود، صادق بحلق، عبد القادر البي، محمد أدعيس، رشيد عميرات، حسين الموسى، محمد حرب، واصف الحركة، بيار الحشاش، جاد العريضي، هاني خيّاط، سامر حامد، وهادي المنلا) بتهمة مخالفة أحكام المادّتين 346 و347 من قانون العقوبات، باعتبار أنّ دخول هؤلاء الشباب إلى وزارة البيئة في كانون الثاني من العام 2016 كان اقتحاما يهدف للقيام بأعمال شغب. وفي جلسة ثالثة في هذه الدعوى، مثل 11 شابّا من أصل 15 مدّعى عليهم أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا في 3 تشرين الأوّل. وكان سبق إرجاء جلسة المحاكمة مرتين لعدم حضور جميع المدّعى عليهم بسبب عدم إبلاغ الجميع أو لطلب استمهال من قبل المدّعى عليهم لتعيين محامين.
حضر هذه الجلسة جميع المدّعى عليهم باستثناء بيار الحشّاش ومحمّد أدعيس وجاد العريضي الذين حضروا الجلسة السابقة، ووارف سليمان الذي تمت محاكمته في الجلسة السابقة. حضر الأستاذ وليد أبو دية ممثّلا نقابة المحامين عن المدّعى عليه المحامي واصف الحركة. وحضرت المحامية فداء عبد الفتّاح عن محمّد حرب، والمحامية فادية الحامد عن سامر حامد (التي قدّمت للقاضية مرافعة خطيّة عن موكلّها)، والمحامي نائل قائدبيه عن كلّ من هاني فيّاض وجاد العريضي.
وافق المدّعى عليهم الحاضرون على طلب القاضية بالاستماع إلى إفادة المحامي واصف الحركة على أن يصدّق الآخرون على إفادة الحركة أو يزيدون عليها. أشار الأخير في إفادته بأنّ توجّه المدّعى عليهم الخمسة عشر إلى وزارة البيئة كان نتيجة تصريح وزير البيئة في الإعلام، الذي دعا الناشطين لزيارة الوزارة من أجل مناقشة مطالبهم. وكان هؤلاء الشباب متواجدين في وسط بيروت لمواكبة جلسة مجلس الوزراء التي كانت ستعقد حينها، ولكنّها لم تنعقد. وأكّدت القاضية عبير صفا في محضرها، وتبعا لإفادة واصف الحركة، على أنّ قرار دخول الناشطين إلى مبنى الوزارة جاء “بشكلٍ عفويّ، ومن دون اتّفاق مسبق”، وأنّه “لم يواكب وجودهم في مكتب الوزير أي ضوضاء أو صراخ أو توجيه شتائم أو شعارات أو تهديد أو أيّ أعمال مخلّة بالأمن والطمأنينة، أو ما يعرف بأعمال الشغب بالمفهوم القانونيّ”.
إلى جانب مقابلة الوزير لمناقشة المطالب المتعلّقة بحلّ أزمة النفايات التي طالت بيروت والمناطق الأخرى، كان هدف دخول ناشطي حملة “بدنا نحاسب” إلى الطابق الثامن في مبنى العازارية (حيث مكتب الوزير) حسب الحركة هو متابعة شكاوى قدّمتها اللجنة القانونيّة في الحملة لوزارة البيئة وغيرها من الوزارات المعنيّة (الصحّة والصناعة). وقد أوضح الحركة أنّه لم يتمّ البتّ في هذه الشكاوى حتّى تاريخ جلسة المحاكمة، مع أنّها كانت تتضمّن تقارير عن التلوّث والإصابات السرطانيّة. طلب الناشطون من رئيسة الدائرة في الوزارة، والتي قابلتهم فور دخولهم، مقابلة الوزير الذي كان متواجدا في مكتبه، ومتابعة الشكاوى التي كان يحمل واصف الحركة أرقامها. وبعدها، فوجىء الناشطون بعد انتظار دام لأكثر من عشر دقائق بانقطاع الكهرباء، وإغلاق المكاتب في الطابق واستئذان رئيسة الإدارة بالخروج. ومن بعدها دخل قوى الأمن الداخلي وأبلغوا الموجودين بقرار يقضي بإخراجهم بالقوّة من مكتب الوزير. وهذا ما حصل. فقد أخرج الناشطون مكبّلين من المكتب بعدما تم إنذارهم بوجوب الخروج بطريقة “تهديديّة قاسية”.
وعن سؤال القاضية عن الاعتداء على عنصر في القوى الأمن الداخليّ حسبما ورد في الادّعاء، أجاب المدّعى عليهم بالنفي، خاصّة أنّهم كانوا مكبّلي الأيدي في حين أنّ العنصر المعتدى عليه كان على الطريق العام، وليس في مكتب الوزارة. وركّزت القاضية صفا في استجوابها على الهدف من الدخول إلى الوزارة، وعن طريقة التصرّف في المكتب حيث مكتب الوزير، مستفهمة عمّا إذا كان الهدف احتجاجا على قرارٍ إداريّ للسلطة. وبناء على ما سبق، حدّدت القاضية جلسة إصدار الحكم في 30 كانون الأوّل 2019، بعدما طلب الحاضرون كفّ التعقبات المساقة ضدهم.
وفور خروجهم من الجلسة، أعرب واصف الحركة والمحاميتان فداء عبد الفتّاح وسامية حامد عن تفاؤلهم بقرار كفّ التعقّبات عن موكّليهم.
وبعد الانتهاء من الاستجواب ، كان من اللافت أن خاطبت القاضية المدّعى عليهم وموكلّيهم الحاضرين وغيرهم من الناشطين ب “قراءة موادّ القانون جيّدا قبل القيام بأيّ نشاط مطلبيّ” لمعرفة حدود الإدانة مشيرة إلى أنّه “في شعرة بين الإدانة وعدم الإدانة”. وشدّدت على هذه الفكرة قائلة “ما تخلّوا الواحد يمسكّون من إيدكن اللي بتوجعكن”. كذلك أشارت إلى اهتمامها الدائم بتوفير جوّ مريح في جلسات المحاكمة التي تقوم بها، داعية جميع المتقاضين إلى التخلّي عن الفكرة السائدة عن الشخصيّة القاسية وغير المنصفة للقضاة المكلّفين البتّ في دعاوى تقدّمها النيابة العامّة.
يُذكر أن القاضية عبير صفا كانت أصدرت أربعة أحكام كفّت التعقّبات عن ناشطين في حراك 2015، معتبرة أنّ أفعالهم كانت ضمن سياق مرحلة “استياء عامّ” في لبنان سببها أزمة النفايات وما تبعها من أزمات بيئيّة واجتماعيّة أخرى، دفعتهم إلى النزول إلى الشارع والتعبير عن استيائهم. وكانت المفكرة قد اعتبرت أنّ هذه الأحكام تعكسُ “تصوّرا لافتا للوظيفة القضائيّة” لأنّها ارتكزت إلى حماية الحقوق والواجبات، مغلبة إياها على كرامات بعض المعنيين.