أمس، أصدر نادي قضاة لبنان أول بياناته، وقد نعى فيه إحدى مؤسسيه القاضية ماري دنيز المعوشي (رئيسة هيئة الاستشارات والتشريع). يُذكر أن مؤسسي نادي قضاة لبنان أودعوا بيان تأسيس جمعيتهم في 30 نيسان 2018 لدى وزارة الداخلية، وأن الراحلة المعوشي كانت من أبرزهم، بحكم مركزها ودرجتها. ورغم طابعه الحزين كبيان نعي، فإنه يكسر صمت مرحلة ما بعد التأسيس، ويشكّل، بما تضمّنه من وصف لمزايا الراحلة وبحدّ ذاته، إعلانا بارزا يؤمل أن يكرّس دور النادي المستقبلي في المشهد القضائي.
مزايا الراحلة: رؤية تجديدية للأخلاقيات القضائية
هذا ما نستشفه أولا من المزايا التي وصف بها البيان الراحلة المعوشي، والتي عكست نقدا مبطنا ليس فقط لتوجهات الأشخاص القيمين على الشؤون القضائية اليوم والممارسات المعتمدة منهم، إنما أيضا، وبالدرجة الأولى، رؤية تجديدية للأخلاقيات القضائية تحرر القاضي من بوتقة الصمت والعزلة، لتجعله فاعلا في الدفاع عن استقلاله، فردا ومجموعة.
وقد بدا هذا الأمر شديد الوضوح في العبارة ذات الدلالة العالية والواردة في البيان ومفادها أن الراحلة تمتعت ب “الأخلاقيات القضائية الحقيقية”، وهي عبارة تُفهم في هذا المحلّ على أنها نقيض ليس فقط “للأخلاقيات القضائية الزائفة” (أي أخلاقيات من يفعل عكس ما يعلن)، إنما أيضا وخصوصا، “الأخلاقيات القضائية التقليدية” التي ما برح مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل يعلنان تمسكهما بها، وهي الأخلاقيات التي تنكر على القاضي أي دور فاعل في إصلاح القضاء أو الدفاع عن استقلاله.
ومن أهم مواقف المعوشي النضالية التي أبرزها البيان في هذا الخصوص، إيمانها بحقّ تجمع القضاة للدفاع عن كرامتهم واستقلالية السلطة القضائية، وهو إيمان أقرنته بمشاركة زملائها في تأسيس نادي قضاة لبنان. كما أبرز البيان صفاتها القيادية الحميدة، وصوتها الصادح “في الجمعيات العمومية للمطالبة بالحد الأدنى من الحقوق المسلوبة”. وهذه المواقف إنما تعكس بوضوح كلي كما سبق بيانه، الرؤية التجديدية للنادي للأخلاقيات القضائية. فالقاضي المتمسك بأخلاقياته ليس القاضي الصامت والذي يحيا في عزلة، إنما على العكس من ذلك القاضي الذي يتضامن مع زملائه لتحصين القضاء بوجه الممارسات الآيلة إلى المس باستقلاله. ويستكمل البيان هذا الوصف من خلال نعت الراحلة بأنها “صاحبة الإرادة الصلبة التي لا تتزحزح، إرادة العدالة حيث قل نصيرها”، إرادة الاجتماع حيث كثرت الفرقة”.
لم يكتف البيان بما تقدم، إنما مضى في تفصيل عدد من المعارك التي خاضتها الراحلة ضمن مجلس القضاء الأعلى فضلا عن عدد من مواقفها النقدية، وبخاصة بما يتصل بالقرارات المتصلة بإدارة الشؤون القضائية. ومن أبرز هذه المواقف التي كشف عنها البيان ولم تكن معروفة من قبل، رفض المعوشي التوقيع “على مشروع تشكيلات قضائية لم تكن مقتنعة بها”، أو أيضا دعوتها المتكررة لإعادة النظر في التغييرات الحاصلة على مباريات الدخول إلى معهد الدروس القضائية “والتي “ثبت بالتجربة خطؤها”. وغالب الظن أن البيان قصد هنا القرارات الآيلة إلى تهميش دور معهد الدروس القضائية في إعداد المباريات وأيضا النسبة المرتفعة لعلامة الشفهي في المباريات والتي أدّت إلى المس بحيادية المباريات وتغليب كفة المرشحين من أصحاب الوسائط.
وقد تعززت أهمية التذكير بهذه المواقف من خلال ربطها بتجرّد الراحلة وفكرها العلمي المنزّه عن كل غاية شخصية، “هي التي نبذت الشخصانية، وقدمت دوما مصلحة المجموع على ما عداها من مصالح”. فبذلك، بدا البيان وكأنه يوجه نقدا مبطنا لآخرين (لم يسمّهم البيان ولكن يسهل التعرف إليهم) يعملون بخلفيات مختلفة، تغلب عليها الاعتبارات والمصالح الشخصية.
بيان يكرس حق القضاة بإنشاء جمعيات وبالتعبير
بالإضافة إلى ما تقدم، وبما لا يقل أهمية، عكس البيان تصميم مؤسسي النادي على استكمال اجراءات التأسيس لممارسة حريتهم بالتجمع والتعبير دفاعا عن استقلال القضاء. وقد تمثل هذا الإعلان بشكل واضح في ختامه، حيث عاهد الأعضاء المؤسسون للنادي “الراحلة الكبيرة، بالسير على خطاها ومتابعة النضال لتحقيق حلمها، “استقلال القضاء ومنعته”. وفي الاتجاه نفسه، تضمّن البيان تعهدا ب “إطلاق اسم الراحلة على قاعة اجتماعاته لتبقى ذكراها دائما وأبدا نبراسا ينير طريق الحق والعدل”، بما يؤكد أن النادي وصل إلى درجة متقدّمة من التنظيم، بحيث أصبح لأعضائه مساحة مشتركة يتناقشون ويتداولون فيها في اتجاه تحقيق أهدافهم.
ولإدراك أهمية إصدار البيان في هذا التوقيت بالذات وما تضمنه من خطاب نقدي وتجديدي، يقتضي التذكير بموقفين صدرا مؤخرا عن مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، وذهبا في اتجاه يتنافى تماما مع توجهاته:
الموقف الأول والذي صدر عن مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 14/6/2018 باعتبار إنشاء النادي غير قانوني لتعارضه مع الصلاحية الحصرية المناطة بالمجلس بتمثيل القضاة وإدارة شؤونهم، وأيضا لمخالفته فهم المجلس التقليدي للأخلاقيات القضائية وخاصة لموجب التحفظ، وهو الفهم الذي ينقضه البيان كما سبق بيانه. فمن خلال البيان، أبدى مؤسسو النادي ببلاغة واضحة أنهم يعدّون ناديهم قائما بمجرد إعلام وزارة الداخلية بإنشائه عملا بأحكام تأسيس الجمعيات، من دون أن يكون لموقف مجلس القضاء الأعلى أي أثر على ذلك، فضلا عن تمكسهم بتصورهم التجديدي للأخلاقيات القضائية،
الموقف الثاني، وهو التعميم الذي صدر عن وزير العدل سليم جريصاتي في شهر تموز 2018 بوجوب الامتناع عن “التواصل بأي شأن كان عبر الوسائل كافة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة قبل الحصول على إذن من وزير العدل”. وهو التعميم الذي استكمله جريصاتي بإحالة القاضي المتقاعد (قاضي الشرف) المعروف بكفاءته ونزاهته راشد طقوش إلى مجلس التأديب على خلفية نقده لتسكيت القضاة على هذا الوجه. من هذه الزاوية، أتى البيان بمثابة رفض جماعي لهذا التعميم وتأكيد ضمني على اعتراضات القاضي طقوش والتي قادت إلى ملاحقته.
إذ تعزي المفكرة النادي على فقدان القاضية المعوشي، فهي تقدّر عاليا مضمون بيانه الأول، مؤكدة لمؤسسيه، دعمها التام لحقهم بالتعبير والتجمع، وهو الحق الذي تم تكريسه في اقتراح القانون المقدم منها ومن الإئتلاف المدني لدعم استقلال القضاء وشفافيته، والذي تبناه عدد من الكتل النيابية والنواب المستقلين. فحلم نادي القضاة، هو نفسه حلم المفكرة بتكريس استقلال القضاء ومنعته لما فيه من خير للناس جميعا وهو حلم لا يتحقق إلا ببروز قاض حرّ، قاضٍ مستقلّ بفعل حريته هذه.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.