ورد على جدول أعمال الهيئة العامة للمجلس النيابي القادمة (12 و13 تشرين الثاني) بند يتصل بمنح المحامين والموظفين والمساعدين القضائيين قضاة أصيلين، درجات عالية (درجة عن كل ثلاث سنوات خدمة) وهو اقتراح القانون الرامي إلى تعديل المادتين 77 و78 من قانون القضاء العدلي. استباقا لحصول ذلك، نظّمت الهيئة الإدارية لنادي قضاة لبنان بتاريخ 1 تشرين الثاني 2018 مجموعة ملاحظات من باب تنبيه النواب إلى خطورة هذا الاقتراح وانعكاساته السلبية على العمل القضائي. إذ تذكر “المفكرة” بملاحظاتها التي كانت حررتها سابقا حول هذا الاقتراح، يسرها جدا أن تنشر ملاحظات النادي التي تشكل باكورة أعماله في هذا المجال، وهي أعمال نأمل أن تتطور تأمينا لمشاركة القضاة في إصلاح العدالة.
للتذكير، أودع مؤسسو النادي بيان تأسيسه في 30 نيسان 2018 لدى وزارة الداخلية. كما انتخب النادي هيئته الإدارية الأولى المكونة من القضاة موقعي المذكرة وهم القضاة ندين رزق ورحمزة شرف الدين ومحمد فواز وبلال بدر وكارلا شواح ومحمد رعد ويحيى غبورة ونجاة أبو شقرا وفيصل مكي وزاهر حمادة فضلا عن رئيسة الهيئة أماني سلامه. (المحرر).
يطرح مجلس النواب على جدول أعمال الجلسة العامة المقبلة اقتراح القانون الرامي إلى تعديل المادتين /77/ و/78/ من المرسوم الاشتراعي رقم 150/1983 (قانون القضاء العدلي).
إن اقتراح القانون المذكور يثير الملاحظات التالية:
جاء في اقتراح القانون أن المحامين أو الموظفين أو المساعدين القضائيين يستفيدون من درجة عن كلّ ثلاث سنوات خدمة فعلية، وهذا يخلّ بمبدأ المساواة ويتعارض مع النصوص القانونية السابقة كافة كما مع اجتهاد مجلس شورى الدولة:
إن أصحاب العلاقة، بدخولهم القضاء مباشرةً بدون معهد، يكونون قد استفادوا من سنين خدمتهم، ولا يجوز لهم قانوناً الاستفادة من سنين الخدمة هذه مرة أخرى. وعلى سبيل المقارنة، فإن القانون رقم /426/ تاريخ 6/6/2002 الذي أجاز تعيين قضاة من بين المحامين نصّ في مادته الثالثة على ما يلي: «خلافاً لأيّ نص آخر، إن القضاة الأصيلين في كلّ من القضاء العدلي والإداري الذين مارسوا قبل انتسابهم إلى القضاء مهنة المحاماة أو وظيفة مساعد قضائي أو وظيفة في الإدارات والمؤسسات العامة تتطلب الإجازة في الحقوق والذين ما زالوا في الخدمة ولم يستفيدوا من درجات تدرج سابقة، يعطون درجة تدرّج عن كل ثلاث سنوات من تاريخ قيدهم في الجدول العام للمحامين…».
فيتبين من النص القانوني المار ذكره أن نية المشترع اتجهت، وفق ما يقوله المنطق وانسجاماً مع مبدأ المساواة، على أن لا يستفيد أصحاب العلاقة مرتين من سنيّ خدمتهم، فينالون هذه الدرجات فقط متى كان دخولهم “عادياً إلى السلك القضائي”.
واستناداً إلى هذا النص وهذا المنطق، صدرت ثلاثة قرارات وقف تنفيذ عن مجلس شورى الدولة بالأرقام 54/2005-2006 و55/2005-2006 تاريخ 23/11/2005 و127/2005-2006 تاريخ 9/1/2006 قضت بوقف تنفيذ قرار استفادة ثلاثة من القضاة من هذه الدرجات في حين أنهم دخلوا إلى القضاء الإداري دون معهد وعيّنوا مباشرة مستشارين في الدرجة الأخيرة.
إن منح المحامي درجة عن كل ثلاث سنوات قضاها في المهنة يتعارض بشكل صارخ مع مبادئ وأصول التدرج في القطاع العام، طالما أن ممارسة المحاماة، وهي مهنة حرّة، تختلف جذرياً عن التدرج في السلطة القضائية؛ إذ أن ضمّ الخدمات وما يمكن أن يستتبعه من إعطاء درجات استثنائية يتمّ في حال الانتقال بين الأسلاك والإدارات في القطاع العام وليس بين المهن الحرة من جهة والإدارة أو القضاء من جهة أخرى.
إن نص الاقتراح لحظ صراحةً استبعاد من سبق وأُخرج من معهد الدروس القضائية، إلّا أنه لم يأتِ على ذكر من سبق وتقدّم عدّة مرّات إلى امتحان الدخول إلى المعهد دون نجاح، فكيف لمن رسب عدّة مرات بالدخول إلى المعهد أن يلتفّ على هذا الشرط ويعود ويقدّم طلب الانتساب إلى السلك القضائي مباشرةً متذرعاً بسنيّ خدمته ويصبح قاضياً في حين أنه عجز عن ذلك بالطرق العادية؟ وهذا يتناقض مع الأسباب الموجبة لهذا الاقتراح حول كيفية جذب أصحاب الكفاءة إلى القضاء فعلاً.
إن العبرة من صدور القانون المقترح هو استقطاب الكفاءات العالية إلى القضاء، وهذا الأمر إيجابي بالمبدأ، ولكن هذه الكفاءات لا تبرز عادة من خلال تسع سنوات فقط من الخبرة (من ضمنها سنوات التدرج الثلاث للمحامين).
إن الأسباب الموجبة للقانون ترتكز على أنه من الضروري أن يعطى المحامون والموظفون والمساعدون القضائيون حوافز لاستقطابهم إلى السلطة القضائية، ثم يأتي نص إحدى مادتي الاقتراح غير متجانس مع الأسباب الموجبة ويمنح المحامين والموظين الذين سبق وولجوا القضاء درجات. فمن هذه الناحية يأتي النص متناقضاً مع الأسباب الموجبة لأن من بات قاضياً منذ سنين لا جدوى للحديث عن استقطابه، علماً أنه ارتضى شروط المباراة واحتفل بنجاحه حينها وقبض على أعماله بالشكل المطلوب، فكيف يُبرَّر اليوم تمكينه من اجتياز العشرات من زملائه أو المئات منهم.
إن محاولة التعليل بأن من سبق وولج القضاء من المحامين يجب أن يأخذ درجات أسوة بالقضاة الذين أخذوا من المحامين في منتصف تسعينات القرن الماضي، لا يمكن أن تستقيم لا قانوناً ولا منطقاً، ذلك أن القياس لا يكون إلا على صواب وعلى أصل، ولا يكون على خطأ ولا على استثناء. وبالفعل، فقد تم تبرير إعطاء الدرجات حينها بالحرب الأهلية التي عصفت بالوطن وأفرغت معهد الدروس القضائية، ففرغت العدلية من القضاة في الدرجات الوسطى والأعلى، الأمر غير المتحقق البتة اليوم (مع التأكيد على أن ثمة من هو جيد ممن دخلوا إلى القضاء أو غيره ولكن تبقى أن الطريقة استثنائية وشاذة وبالتالي لا يمكن القياس عليها).
إن تحفيز من هم خارج السلطة القضائية لولوجه، يستتبع، ولو عن غير قصد، تيئيس وإحباط من هم في داخلها، وقد بذلوا الغالي والنفيس ليرتقوا التدرج القضائي، بظروف معروفة ومردود لا يقارن بما يكون المحامي قد جمعه إن كان متفوقاً (وإن لم يكن فما حاجة القضاء به). علماً أن القضاة يعملون في ظروف أقل ما يقال فيها أنها صعبة، ويتحمّلون القبض على الجمر في بلد يصعب فيه الفصل بين الناس لأسباب ليس هنا موضع شرحها التفصيلي.
إن المقارنة مع الدول الأنكلوساكسونية حيث يمكن للمحامي أن يصبح قاضياً في منتصف العمر لا تجوز البتة، إذ أن مفهوم السلطة القضائية هناك مختلف، كما أن مفهوم مهنة المحاماة مختلف. ففي تلك الدول يُنتخب القاضي مباشرة أو بشكل غير مباشر، ولا يجوز نقله ولا تخفيض راتبه (بل ثمة نص دستوري على المحافظة على الراتب، أي زيادته بحسب غلاء المعيشة على الأقل) وهو ينتخب لولاية محددة أو يعيّن من منتخب لمدى الحياة، فلا يضطر إلى مجاملة أو محاباة، ويختار المهنة محبة وليس حاجة إلى سلطة، لأن من هو في السلطة ومن ليس فيها يحصّل الحقوق عينها ويقوم بواجباته، على عكس واقع حالنا الذي نأمل أن يتغير؛ وإن تغير، فقد نصل إلى وقت يصبح فيه الاقتراح محبذاً وضرورياً.
إن من بين القضاة كثر ممن هم أهل للاضطلاع بالمهام، والمعهد يؤهل حوالي مئة قاضٍ كل ثلاث سنوات، وبالتالي لا يوجد نقص ملحّ وفوري يستوجب معالجة استثنائية، بل أن تشكيلات قضائية واحدة متميّزة مع توزيع عمل متميّز يغيّر الحال إلى أفضل مآل.
إن زيادة الانتاجية ليست مرتبطة بزيادة استثنائية لعدد القضاة، وإنما بتأمين بيئة قضائية ملائمة من النواحي الإدارية واللوجستية وأماكن العمل، فالمعالجة الفورية يجب أن تنصب على هذه النواحي قبل التفكير في إدخال قضاة عبر طرق استثنائية.
إن الطريق الطبيعي لاستقطاب القضاة هو عبر سلوك معهد الدروس القضائية المعني بالتدريب الذي يخضع له قضاة المستقبل وهذا ما يجب المحافظة عليه وتعزيزه والتركيز عليه:
فالقضاة المتدرجون يخضعون لثلاث سنوات دراسية في المعهد (سواءً كانوا متخرجين حديثاً من كلية الحقوق أم كانوا من المحامين العاملين أو من حملة الدكتوراه)، وكل سنة تُقسّم إلى دورتين،
إن المعهد باعتباره معهداً عالياً بعد كليات الحقوق، لا يقتصر دوره على تلقين الدروس النظرية، بل على شرح المواد القانونية الواردة في معظم القوانين العامة والخاصة، انطلاقاً من حالات عملية وتطبيقية بحيث يتمّ تدريب القاضي المتدرج على حسن فهم المواد القانونية وتفسيرها لتطبيقها على الوقائع المعروضة أمامه، كما يتمّ تأهيله من الناحية العملية لتولّي العمل القضائي بإلحاقه في المحاكم على اختصاصاتها المختلفة فيتدرّب في دورات دراسية خمس على إدارة الجلسات وعلى كيفية البتّ في البريد اليومي وكذلك على منهجية صوغ الأحكام والقرارات، بحيث يتعامل مع القضايا المطروحة على المحكمة من منظار القاضي وليس من منظار أحد الطرفين فيها،
يُكلَّف القضاة المتدرجون إعداد دراسات قانونية حول مسائل موضع اختلاف في اجتهادات المحاكم أو حول مسائل قانونية عرضت على المحكمة أو المحاكم التي ألحق بها ومناقشة الحلّ الذي اعتمدته المحكمة مع مسبباته القانونية انطلاقاً من واقعات كلّ قضية، ما يزيد في قدرة القاضي المتدرّج على التحليل توصلاً إلى تفسير النصوص القانونية بشكل سليم، وتلك الأعمال تخضع لتقييم يُضاف إلى علامة النجاح،
بالتزامن مع ما تقدّم، يخضع القضاة المتدرجون إلى امتحانات في كلّ دورة من دورات السنوات الثلاث وعليهم أن يحصّلوا معدّل النجاح وهو 12/20،
يخضع القضاة المتدرجون لمزيد من التأهيل من الناحية السلوكية أيضاً التي يوليها المعهد أهمية قصوى (حسن التصرف والجهد المبذول والمناقبية والحضور اللائق…)، ويؤخذ موضوع السلوكية في الاعتبار في تحديد علامة تقييم القاضي المتدرّج،
يشارك القضاة المتدرجون في ندوات متخصصة حول مواضيع اجتماعية واقتصادية وقانونية ينظّمها المعهد ويجريها خبراء وطنيّون وأجانب،
وخلاصة القول، لا يتخرّج من المعهد إلّا القضاة المتدرّجون المؤهّلون لتولّي العمل القضائي، من النواحي الأخلاقية والعلمية، وهكذا، تتوضّح أهمية هذا التدريب على صعيد تأهيل القاضي المتدرّج وانعكاسه على العمل القضائي مستقبلاً وتالياً على حسن تطبيق العدالة التي ننشدها جميعاً.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.