خلال حراك 2015، كان حضور القضاة خجولا. آنذاك، ترقّب العديد من القضاة تطوّر الأمور ليكونوا مع الناشطين في الساحات العامة، وبخاصة بعد مظاهرة 29 آب 2015. إلا أن تطور الأمور ذهب في اتجاه معاكس: فمن جهة، انحسر الحراك سريعا، تحت وقع الملاحقات التي باشرتها النيابة العامة أمام المحكمة العسكرية فانتهت الأمور إلى تصوير القضاء على أنه أداة قمعية بخدمة السلطة الحاكمة. ولم يتبرأ القضاء من هذه الصفة إلا بعد صدور العديد من الأحكام التي انتهت إلى تبرئة ناشطي الحراك بعد سنوات من بدء ملاحقتهم، على اعتبار أنهم كانوا يعبرون عن حال استياء عام ويهدفون إلى الدفاع عن المجتمع. ومن أهم هذه الأحكام، سلسلة من الأحكام الصادرة عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا في 2018، علما أن عددا من المحاكمات ما تزال مستمرة أمامها حتى هذه اللحظة. وكان من المؤثر جدا حسبما نقلته “المفكرة” أن القاضية صفا خاطبت المدعى عليهم في إحدى هذه القضايا من منصة المحكمة منذ أقل من أسبوعين، طالبة منهم التخلي عن الصورة النمطية التي ربما طبعها لديهم ادعاء النيابة العامة عن القضاء.

في 2019، اختلف الوضع تماما، بفعل الحراكات الاعتراضية التي خاضها القضاة في فترة 2017-2019 وصولا إلى إنشاء نادي قضاة لبنان. وعليه، لم يمضِ 24 ساعة على بدء حراكات 2019 حتى برز دور جديد للقضاة، دور يؤمل منه أن يشكل مدماكا لبناء دولة الغد.

نادي قضاة لبنان ثمرة حراك قضائي طويل

فبين 2017 و2019، شهد القضاء عددا من الحراكات في مواجهة السلطة الحاكمة، وقد تكللت هذه الحراكات بتحقيق حلم العديد من القضاة الإصلاحيين، وهو إنشاء جمعية للقضاة (نادي قضاة لبنان)، جمعية تشكّل إطارا لتضامنهم ومنبرا للدفاع عن أنفسهم في مواجهة سياسات الصمت والعزلة والاستفراد، وذلك في نيسان 2018. وقد نجحت هذه الجمعية بعد مضي قرابة سنة من إنشائها في اجتذاب أكثر من 20% من القضاة. ويجدر التذكير هنا، اعترافا بأهمية حراكات القضاة وبما حققوه، إلى أن أيا منها لم يكن سهلا وأنهم تعرضوا لتدابير لا تقلّ بشاعة عن التدابير القمعية المعزوة إلى هيئات قضائية والتي تكتنزها ذاكرتنا. فقد اصطدم القضاة على طول حراكاتهم، بمجموعة من المسلمات والتقاليد المهنية، فضلا عن اصطدامهم بمعارضة شديدة لم تُخفِ طابعها التهديدي، من عدد من السلطات والهيئات ابتداء، من مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل وانتهاء بنقابتي المحامين، على خلفية أن وجود النادي بما يشكله من خطاب إصلاحي وتصور إنساني للوظيفة القضائية يشكل خروجا عن موجب التحفظ وفتنة داخل القضاء. كما لم تخلُ محاولات النيل من النادي من الاتهامات التقليدية التي غالبا ما  استهدفت أي حراك إصلاحي، وهي أنه ممول من منظمات مدنية، رغم أن النادي لا يتلقى أي تمويلات خارجية وهو ممول باشتراكات أعضائه حصرا.

وبذكاء وحسن دراية، نجح مؤسسو النادي في تجاوز هذه العقبات، بحيث حصلوا على العلم والخبر في أواخر كانون الثاني 2019، ليكتسبوا في غضون أقل من سنة من تأسيسهم صفة العضو في الاتحاد الدولي للقضاة والعضو المؤسس في الاتحاد العربي للقضاة. وفيما تميز تنظيم النادي منذ بدايته باعتماد آليات ديمقراطية غير هرمية لاتخاذ القرار، فإن خطابه تميز بطابعه الاستقلالي ولكن أيضا وهذا هو الأهم بانفتاحه على قضايا المجتمع والتضامن معها. فعلى نقيض مجمل التقاليد المهنية التي كانت تحبس القضاة في أبراج عاجية، أطلقت الجمعية العمومية للقضاة في أيار 2019 بدفع من أعضاء النادي، نداء للشعب اللبناني بوجوب دعم القضاة في معركتيه لتحقيق الاستقلالية ومكافحة الفساد. وقد هيأت طبعا هذه الحراكات، بنجاحاتها وزخمها، النادي لرفع سقف طموحاته تدريجيا في اتجاه التحول إلى فاعل أساسي في ثورة 2019.

نادي قضاة لبنان بخدمة الشعب: شهادة وتعهد

وبالفعل، في غضون أقل من 24 ساعة على بدء الحراك الشعبي، صدر بيان عن نادي قضاة لبنان تحت عنوان “آن الأوان أن نكون كلنا للوطن”. وقد جاء البيان هو أيضا عالي النبرة على صعيد معركتي الاستقلالية ومكافحة الفساد.

فعلى صعيد المعركة الأولى، طالب البيان مجددا ب “إقرار قانون معجّل باستقلالية السلطة القضائية” مؤكدا تمسكه بوجوب منحه ضمانات تشريعية. وإذ طالب على صعيد معركة مكافحة الفساد بسلسلة اجراءات أبرزها “إزالة درعي الحصانة الوظيفية والسّرية المصرفية” و”استرداد المنهوب من أموال الناس”،  فإنه كان من اللافت مطالبته “بإصدار تشكيلات قضائية في أقرب وقت يُسلّم فيها أكفأ القضاة وأكثرهم استقلالية وصلابة وشجاعة المراكز الجزائية الأساسية… بما يضمن ملاحقة جديّة لمختلسي المال العام ومتابعة المحاسبة الذاتية القضائية، بطريقة متأنّية، غير متردّدة، شفّافة تصل إلى خواتيم موضوعية”. وإذ يشكل هذا المطلب الأخير شهادة بأن القيمين على هذه المناصب لا يقومون بعملهم جدّيا، فهو يدعو بشكل شبه صريح إلى تغيير النائب العام المالي علي ابراهيم المسؤول الأول عن التحقيق ومباشرة الادعاء في قضايا الفساد. وتأكيدا على هذه الشهادة والمطلب، يلحظ أن القاضي ابراهيم باشر ادّعاءات في عدد من القضايا الكبرى مثل قضية أوجيرو وسوكلين، انتهت في غالبها إلى الحفظ بعدما تبين ضعف الأدلة والتحقيقات الحاصلة فيها.

وفي يوم الأحد الماضي (20/10)، عاد النادي ليدلي بتصريح على صفحة الفايسبوك شكل هو الآخر شهادة بقدر ما هو يعلن برنامج عمل. ففيما شكل مطلبه بوقف التدخل في عمل القضاء وكل ما يحول دون قيامه بمحاسبة الفاسدين شهادة على مدى رواج هذا التدخل، فإنه دعا في الآن نفسه إلى إقرار سريع لقوانين استقلال السلطة القضائية واسترداد الأموال المنهوبة ورفع السرية المصرفية وإلغاء الحصانات التي تعيق االملاحقة والمحاكمة. واللافت أن القضاة شدّدوا في نهاية تصريحهم على أن أي ورقة إصلاحية تخلو من هذه البنود تبقى بمثابة مخدر مؤقت وناقصة وستعيد إنتاج الأزمة.

الموقف الثالث والذي نشر على صفحة النادي صدر يوم الإثنين (21/10)، وقوامه مطالبة هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان بتجميد حسابات المشاركين في السلطة والقضاة وكبار الموظفين والتحقيق في مصادر أموالهم ضمن مهل قصيرة.

وبذلك، يكون النادي قد خطا خطوات جدّ هامة في ملاقاة حراكات الناس. وما يزيد من بريق هذه المواقف، هو صمت نقابة محامي بيروت (الملقبة سابقا بأم الحريات) التي تبدو وكأنها اختارت أن تنأى بنفسها عن مجمل الحراكات الحاصلة، وكأنها أمور غير هامة أو لا تعنيها. وقد لاقت مواقف النادي في هذا الصدد ترحيبا واسعا في أوساط الرأي العام، بدليل سرعة انتشار مواقفه في وسائل التواصل الاجتماعي.

أي انتظارات؟ تجدّد الوظيفة القضائية

تبقى المفاعيل العامّة لخطاب نادي قضاة لبنان جدّ هامة. فعدا عن أن من شأنه تعزيز ثقة المجتمع اللبناني بامكانية نهوض مؤسساته ومضاعفة الضغوط على السلطة الحاكمة، يؤمل منه أن يؤثر إيجابا على البيئة المهنية للقضاة وصولا إلى تعزيز التمسك بالاستقلالية بعيدا عن ضبط الذات self-restraint وإرساء تصوّر جديد لدور القاضي يحوّله من قاضٍ موالٍ للقانون والنظام الذي يضعه إلى قاضٍ مُوالٍ بالدرجة الأولى للمجتمع.

ومن دون التقليل من أهمية هذه المفاعيل العامة والتي بدأت ملامحها بالظهور في أعمال القضاة هنا وهنالك، فإن أكثر الانعكاسات المباشرة والملحة لهذا الخطاب تتمثل اليوم في الأعمال القضائية المتصلة مباشرة بالحراك وبضمان حرية التظاهر، على نحو يؤمل تمايزه تماما عما حصل في 2015.

وعليه، وبدل أن تبرز مشاهد الناشطين وهم قيد الملاحقة أمام المحاكم العسكرية والمدنية، يؤمل أن تذهب الهيئات القضائية على اختلافها في اتجاه معاكس تماما. فبقدر ما ينتظر أن تتبنى هذه الهيئات في توجهاتها ما خلصت إليه القاضية عبير صفا لجهة وجوب تبرئة الناشطين على خلفية أن عملهم يأتي في سياق دفاعهم عن المجتمع، بقدر ما ينتظر أن تعمد هذه الهيئات إلى ملاحقة أي استخدام مفرط للعنف ضد المتظاهرين قد يحصل من قبل الأجهزة الأمنية، أو أي اعتداء لمناصري الأحزاب السياسية على المتظاهرين. ويجدر التذكير هنا بأن عددا من مناصري زعماء عدة كانوا اعتدوا على متظاهرين في 2015 من دون أن تحرّك الأجهزة الأمنية والقضائية ساكنا لتوقيفهم أو ملاحقتهم، كأنهم يحظون بما لزعمائهم من حصانات. كما يجدر التذكير بأن هذا النوع من الاعتداءات يقع تحت طائلة عدد من مواد قانون العقوبات: فهي لا تستهدف فقط أجساد المتظاهرين، بل أيضا حرياتهم بالتعبير والتظاهر بما يقع تحت طائلة المادة 329 (فقرة ثانية). هذا فضلا عن كونها ترمي إلى الدفاع عن الفساد والاستبداد.

انعكاس آخر مباشر يؤمل أن يقود خطاب النادي إليه وهو كيفيّة تعامل الهيئات القضائية على اختلافها مع ملفات الفساد العالقة لديها. فعدا عمّا يبثه من تحفيز لجهة نفض الغبار عن هذه القضايا وتعجيل البت بها، يؤمل منه أيضا أن يقود إلى تطوير الاجتهاد، لدى القضاء الجزائي كما المدني والإداري، في اتجاه تضييق مدى الحصانات القانونية وتوسيع صفة الادّعاء بما يتيح لمزيد من المواطنين من التحرك جبها للفساد.

خلاصة

من هذه المنطلقات كافة، يسجل أن نادي قضاة لبنان نجح من خلال مواقفه الحاصلة في التوقيت والاتجاه المناسبين في استرجاع شيء من الثقة العامة بالقضاء وبدوره في بناء دولة الغد. فلنتابع,…