لا يمكن فصل فوز النائب المنتخب في استحقاق 2022 النيابي عن قضاء زغرتا في دائرة الشمال الثالثة عن تجربة تحالف “شمالنا” السياسي الاجتماعي الحقوقي الذي كان سباقاً في تشكيل لائحة موحّدة من روحية 17 تشرين تتنطّح للمنافسة في واحدة من أكبر الدوائر الانتخابية. وتتأتّى فرادة التجربة من المعركة التي تمّ خوضُها في وجه أربع قوى سياسية تقليدية وذات باع طويل في العمل السياسي “على الطريقة اللبنانية”، لمنافسة أربعة مرشحين محتملين لمعركة رئاسة الجمهورية: رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع والنائب ميشال معوض، وريث رئيس الجمهورية الأسبق رينيه معوض.
ولذا فإن الترحيب بفوز الدويهي (مواليد 1975) جاء على ضفتين: ترتبط الأولى بالنهج الجديد في التعاطي الذي فرضه تحالف “شمالنا” وآليات عمله السياسي، والثانية بجوّ النائب الجديد نفسه من رفاق انخراطه في محطات يذكرها الدويهي كمنعطفات أساسية في عمله السياسي من حراك النفايات (2015) إلى معركة “كلّنا بيروت” في مواجهة السلطة في الانتخابات النيابية (2018) والتي كان له دور فيها كأحد مديري حملتها الانتخابية، وصولاً إلى 17 تشرين وحضوره في ساحات بيروت وطرابلس وصور ودوره في مجموعة “زغرتا تنتفض”.
ويتكرّس بُعد خرق “شمالنا” عبر الدويهي عبر أداء هذا التحالف الذي كان سبّاقاً في وضع آلية اختيار مرشحيه بطريقة تحترم خيار الناخبين، فنظّم “شمالنا” انتخابات تمهيدية أهّلت الدويهي نفسه والمرشحة في انتخابات 2022 أيضاً شادن الضعيف (كممثليّن لحركة أسس) إلى خوض الاستحقاق عن مقعد زغرتا برغبة المقترعين أنفسهم، وصولاً إلى دور التحالف عينه في إعطاء نموذج صارخ لمجموعات منبثقة من روحية 17 تشرين 2019 تولي الأهمية لضرورة التوحّد وخوض المعركة يداً واحدة في وجه منظومة السلطة، وهو ما انسحب على العديد من الدوائر. وتجلّى أداء “شمالنا” في تحالف أربع مجموعات تغييرية في المنطقة وهي “أسس” في زغرتا، “الفكر الحر” في بشري، “مجتمع الكورة المستقل” في الكورة، و”المجتمع البديل” في البترون. ومن هنا يعتبر الدويهي نفسه نائباً عن “أسس” التي شارك في تأسيسها، وفي الآن نفسه نائبَ “تحالف شمالنا” كونه يمثل الأقضية الأربعة.
حاك الشاب والنائب المنتخب عن قضاء زغرتا ميشال الدويهي (مواليد العام 1975)، سجادة وصوله إلى الندوة البرلمانية بمثابرة الساعي إلى تحقيق هدفه. ويمكن القول إنه كان حاضراً عندما حانت الفرصة المناسبة وسمح الجو العام في البلاد لوصول نوّاب جدد خارج اصطفافات أحزاب السلطة. وعلى الرغم من ترشحه إلى الانتخابات النيابية في اللحظة الأخيرة “كما قال”، إلّا أنّ مسار دراسته وانخراطه في العمل السياسي والشأن العام يشي بأنّه يحضّر للسير على طريق النيابة قبل سنوات، والتأسيس للبنية العلمية والمعرفية التي تسهّل فهمه للتركيبة السياسية في لبنان ومنطقته، فكانت أطروحة الدكتوراه التي نالها الدويهي من الجامعة اليسوعية بعنوان: “تاريخ الأحزاب اللبنانية في أقضية زغرتا، بشري والبترون 1943 حتى 1978”. وساهمت دراسته هذه، هو المحاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ومناهج البحث في الجامعة الأميركية في بيروت AUB، في فهمه للمنطقة كدائرة متكاملة، وإيقاع عشائرها وعائلاتها وزعاماتها، فـ “جزء من الدكتوراه هو استكشاف التاريخ السياسي للقضاء وربطه بالأقضية الأخرى التي هي بشري والبترون”، بحسب الدويهي.
بين بيروت وزغرتا
ترعرع الدويهي في كنف عائلة مؤلفة من أب “زغرتاوي” وأم “طرابلسية” وشقيقتين، وعلى الرغم من سكن العائلة في بيروت والتحاقه بمدارسها، إلّا أنّه لم ينقطع يوماً عن زغرتا التي كان يقصدها في نهايات الأسبوع والإجازات المدرسية. وكان لوالده د. شوقي الدويهي، المتخصّص في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية واليسوعية، تأثيره على وعي الدويهي الابن ونظرته إلى الأمور بعين الباحث: “تأثير الوالد الأساسي كان بطريقة رؤيتي للأمور، ولم يفرض عليّ شيئاً في حياته، ولم يقل لي يوماً هذا صح وهذا خطأ”.
اتّخذ الدويهي قرارات جذرية عدّة حوّلت مسار حياته باتجاه النيابة: القرار الأوّل كان من خلال مسيرته الجامعية، فبعد أن حاز في العام 2003 شهادة الماجستير في الاقتصاد السياسي الدولي من جامعة “برمنغهام” في المملكة المتحدة، وبعد سفره إلى الصين لإنجاز أطروحة الدكتوراه حول الاقتصاد الصيني، اتّخذ الدويهي قراره بالعودة إلى لبنان والتخصّص في العلوم الاجتماعية التي نال فيها شهادة الدكتوراه من الجامعة اليسوعية في العام 2019. “جدّي كان دائماً يقول لي ما تخلّي الدكتوراه تطلع من البيت، لازم تصير دكتور جامعة مثل بيك، كانت زغرتا في دمي فتركت كلّ شيء وعدت أدراجي”.
يقول الدويهي إنّه حين عودته كانت البلاد مقسومة سياسياً بشكل “أحادي” بين 8 و14 آذار، فبدأ مع بعض الأصدقاء في المنطقة البحث في إمكانية كسر هذه الثنائية التي تكرّس مبدأ حكومات ما يُسمى بـ “الوحدة الوطنية” ومنطق المحاصصة: “كان التفكير يتركّز على كيفية إحداث خرق بالأفكار السياسية وطرح أفكار جديدة”. اللحظة التأسيسية الأولى بالنسبة للدويهي لعودة العمل السياسي والحديث السياسي إلى الشارع كانت مع حراك النفايات عام 2015. ويقول: “صار في إعادة فتح آفاق جديدة وأبواب للعمل السياسي بعد ركود، أعاد الحراك للناس وللمتظاهرين ثقتهم بالشارع وبالحياة السياسية ومنها حملة بيروت مدينتي”. ولم تنفصل زغرتا عن النفس الشعبي الذي كان سائداً حينها، فخاض الدويهي وعدد من أصدقائه الانتخابات البلدية ضمن لائحة “الإنماء” في وجه تحالف معوّض وفرنجية وأحزاب زغرتا، “وتعرّف الناس على جمهور آخر وعرفوا أنّ هناك أشخاص آخرين وخيارات أخرى تقول أمورا مختلفة غير السائد”. من هنا بدأت تتشكل ملامح تأسيس حركة “أسس”. في انتخابات العام 2018 النيابية شارك الدويهي كأحد مديري الحملة الانتخابية للائحة “كلّنا بيروت” التي كان أحد مرشّحيها آنذاك النائب الحالي إبراهيم منيمنة.
المحطة التأسيسية الثانية، بالنسبة إليه، كانت في العام 2019 وحراك 17 تشرين، “حراك تشرين أعطى بارقة أمل للجميع”. شارك الدويهي إلى جانب الناشطين، وكان متحدثاً في الساحات حيث اعتلى منبر ساحات طرابلس وبيروت وصور، وشارك في تأسيس مجموعة “زغرتا – الزاوية تنتفض” تعرّف من خلالها على الكثير من أبناء المنطقة الذي كانوا يعبّرون عن سخطهم، على حد قوله.
على الرغم من إيمانه بأهمية دور الأحزاب وتأثيرها الإيجابي في الحياة السياسية والديمقراطية والتقدّم المجتمعي، إلّا أنّه لم ينتسب يوماً لأي من الأحزاب اللبنانية ذلك لعدم اقتناعه بأفكارها وطروحاتها، على حدّ قوله. وعلى مدى سنوات خاض العمل السياسي إما بشكل منفرد أو عبر حملات، آخرها كانت حركة “أسس” التي كان الدويهي أحد مؤسسيها، ومن ثم مرشح “أسس” في “تحالف شمالنا”.
يقول الدويهي: “ترشحت إلى الانتخابات التمهيدية التي نظمها تحالف شمالنا في اللحظة الأخيرة، ثمّة شيء في داخلي قال لي الآن هو الوقت المناسب، لديّ النضوج والخبرة والظرف والمعارف، وأحببت أن أعطي طاقتي للمنطقة ومشروع شمالنا”، ويضيف الدويهي أنّه بسبب الانتخابات التمهيدية كانت “شمالنا” من أولى اللوائح التي سجلت في وزارة الداخلية ولم يدخل أعضاؤها في مناقشات الترشيحات والانسحابات وغيرها، “تشكّلت اللائحة ممّن اختارهم المقترعون”، وكانت شمالنا واحدة من بين سبع لوائح تنافست في دائرة الشمال الثالثة على عشرة مقاعد.
ويتبنّى الدويهي في نهجه الاقتصادي والاجتماعي النموذج الاسكندينافي الذي يجمع بين اقتصاد السوق الحرة والمصلحة الاجتماعية وهو نموذج اجتماعي ديمقراطي يتبنّى الاقتصاد الحر المفتوح على مبادرات الأفراد، وفي الوقت عينه، يحمّل الدولة دورها في حماية الفقراء والمستضعفين، من خلال أداة تستعملها كلّ دول العالم وهي “الضريبة التصاعدية”.
الدويهي نواب التغيير “أقلية” ولا تغيرات كبيرة
شكل الدويهي مع النواب والنائبات “التغييريين” وعددهم 13 تكتلاً يجتمع بشكل دوري لمناقشة القرارات والمستجدات ومحاولة الخروج برأي موحّد. واليوم وبعد مرور أقل من شهر على الانتخابات النيابية، تمكّن الدويهي من أن يكون عضواً في لجنة حقوق الإنسان ولجنة الشؤون الخارجية، وهو يشدد على أنّ المرحلة لا تتطلّب فقط نواباً مشرّعين بل تتعدّاها إلى نواب سياسيين مطلعين على تاريخ البلاد وتكويناته السياسية ومزاج طوائفه، نواب يقفون على سيرورة البلد وتكويناته، يستطيعون التعامل مع كمّ القضايا الواجب طرحها في السنوات الأربع المقبلة ومنها: النظام السياسي والعقد الاجتماعي الجديد الذي يتناسب مع المرحلة، علاقات لبنان الخارجية، بالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بالشق التشريعي والمراقبة والمساءلة والمحاسبة.
من الناحية التشريعية، يعتبر الدويهي أنّ هناك كمّاً من القضايا الواجب الإسراع باقتراح مشاريع قوانين لمعالجتها، والأولوية هي “لوقف النزيف” ومعالجة الأزمة المالية والاقتصادية، عبر قوانين تشريعية تعطي ثقة في الاقتصاد اللبناني منها: الكابيتال كونترول، إعادة هيكلة البنوك، رفع السرية المصرفية، والأهم هو تحديد الخسائر وإقرار قانون استقلالية القضاء. “نريد أن نعرف أين تبخرت أموال اللبنانيين منذ 2017 لغاية اليوم”. ويشدّد الدويهي على ضرورة تحديد من هم صغار المودعين، “لازم نكون منصفين ونحدد سقف تعريف صغار المودعين، وهذه مهمة الحكومة مع صندوق النقد الدولي بكثير تجرّد وواقعية وإنصاف”.
ويعتبر الدويهي أنّه نظراً لكون “نواب التغيير” أقلية في المجلس، وإقرار القوانين يحتاج إلى أكثرية نيابية، فلا بدّ من العمل مع باقي النواب والأطراف “بالقطعة”، والعمل على فرض مقترحات القوانين على الهيئة العامة للتصويت عليها موضحاً: ” نحن انتُخبنا لنشرّع ونكون على قدر المسؤولية وليس لنجلس في الزاوية من دون أن نتحدث إلى أحد، وكلّه تحت سقف مبادئنا ومواقفنا” .
ويقول الدويهي إنه “من الرافضين لبيع أصول الدولة خاصة في ظل حكومة تريد استعمال هذه الحجج للخروج من مأزقها المالي والاقتصادي بالدرجة الأولى”. أما الصندوق السيادي فيعتبر أنه لا يمكن تطبيقه في لبنان لأن لا وجود لفائض في الإيرادات، ويستشهد بتجربة دولة النرويج التي تحفظ أموال فائض إيراداتها في صندوق للأجيال المقبلة، “الصندوق السيادي تؤسسه الدول حين يكون لديها إيرادات عالية ولكن نحن ليس لدينا أي من ذلك”.
وعلى الرغم من تأييده لمنطق الخصخصة، إلّا أنّه يعارض طريقة تنفيذها في لبنان والعالم العربي: “لست ضدّ الخصخصة بالمبدأ، ولكن ليس في ظلّ هذه السلطة والأوليغارشيا الحاكمة التي تستلم تطبيقها وتلزّم المشاريع لابن فلان وشقيق فلان، وفي النهاية نجد أن عدداً معيّناً من الشركات هي التي تستلم كل شيء”.
أخيراً يعتبر الدويهي أنّ نواب “التغيير” على الرغم من كونهم أقلية في المجلس وغير قادرين على فرض تغييرات جذرية، إلّا أنّهم ولغاية اللحظة تمكّنوا من فرض سلوكيات جديدة ومنطقاً ومفردات جديدة في العمل البرلماني، “في اجتماع اللجان طرحنا أموراً جديدة ومنها ضرورة أن تخرج كل لجنة بتوصيات شهرية، وأن تتحمّل الوزارات مسؤولياتها وبدلاً من مناقشة الوزير يجب أن نتحدث عن مساءلة الوزير”. من جهةٍ ثانيةٍ، يعتبر الدويهي أنّ “المجلس يديره عدد من الأفراد هم رؤساء الأحزاب والكتل الكبرى، ولا يهمهم سوى توزيع الحصص والحكي مش مثل الشوفة”.