مُنتِجَات زيت الزيتون في تونس: سَواعد نسائية مقصيّة من نصيبها


2025-01-21    |   

مُنتِجَات زيت الزيتون في تونس: سَواعد نسائية مقصيّة من نصيبها
مصدر الصورة: فتحي بلعيد (أ.ف.ب)

في صباحٍ خريفي باردٍ، حيث تُصافح أشعة الشمس الأولى وجه الأرض بخجل، تَجتمع النساء العاملات في القطاع الفلاحي طيلة أيام موسم جني الزيتون في رحلة شاقّة يحدوها الأمل والتّعب؛ الأمل في أن يَعمّ عليهن الرّزق من موسم الخير، والتعب من المخاطر والجحود الذي يُرافق صانعات الذهب الأخضر طيلة أطوار عَملهن في هذه المنظومة العسيرة التي تأكل ثمار الجهد وتَنسى من بَذلَه. 

يتميّز موسم جني الزيتون بطقوس مميزة، حيث يتحول في الفلاحة العائلية غير المعدة للتصدير وذات الطابع المعاشي إلى احتفال شعبي بالأهازيج وأغاني البادية ويرتبط بالتبرّك والصلوات والمناجاة طلبا لسقوط الأمطار، لتغسل الغصون وتُنعشها حتى يكون العام “صابة” (وفير الحصاد) على أصحابه من مزارعين ومالكي زياتين، وعلى عائلاتهم التي تشارك في هذا الموسم.

أما في غراسات الزياتين الكبرى المُعدة للتصدير تُعدّ النساء أدوات إنتاج في هذه المنظومة. تبدأ رحلة موسم جني الزيتون باجتماع العاملات في مكان متفق عليه مسبقا ثم ينتظرنّ قدوم شاحنة قديمة تُقلهنّ إلى حقول الزيتون، حيث تسير في طريق ريفية وعرة وأحيانا جبلية مليئة بالمنعرجات والمخاطر إلى أن تتراءى أمامهن تلك الأشجار العالية بعروشها المتناثرة.  هذه الأشجار التي خضبتها أيادي المزارعات الكادحات تُمثل شهادة حية على سنوات من العرق والعمل المضني.

يشكّل جني الزيتون جزءا من سلسلة الأعمال المنزلية التقليدية التي تقوم بها النساء، وهو مبني على تقسيم تقليدي للعمل، تتفاوت فيه الأدوار الجندرية وتُمنح فيه خصوصية مختلفة للدور الإنتاجي للمرأة الذي يمتزج مع الدور الإنجابي، ولذلك فهو يعكس نوع من العمل غير المرئي للنساء، خاصة منهن المنتميات لعائلات الفلاحين الصغار.

قطاع مؤنث جاحد لجهود نسائه

عائشة، ذات 42 سنة متزوجة وأم لطفلين إحدى العاملات في قطاع الزيتون بمدينة تبرسق من ولاية باجة (شمال غرب تونس)، تصف يومها للمفكرة قائلة: “نتسلّل عند الفجر، ونستغلّ ظهور خيوط الضوء الأولى الفضية، لنَركب شاحنات قديمة يُوفّرها أصحاب الحقول حتى تُوصلنا إلى بساتين الزيتون، فتسير بنا مسرعة وتشق الظلام والطرقات الوعرة. ترتجف أيادينا داخل القُفّازات المهترئة وتهتز أجسادنا طيلة الطريق من شدة البرد ولا بديل عن هذه الظروف، فأنا أُعِيل عائلتي وزوجي صاحب إعاقة عضوية ولا يملك مورد رزق قار”. قصة عائشة هي واحدة من مئات القصص المختلفة في ظروفها والمتشابهة في قسوتها وصعوبتها.

في مواكبة لأعمال الجني داخل الحقول التي عاينّا بعضها؛ يبدأ العمل فور الوصول، وتتناثر أصوات السلام والتحية، ثم تَصعد النساء على السٌلّم، عادة يتم اختيار الأصغر سنًّا منهن خصوصا مع عدم وجود الرجال. تنطلق السواعد في نثر الزياتين، ثم يتعالى صوت صاحب الحقل قائلا “هاتوا الأكياس”. تُسارع أيدي النساء المنتظرات تحت أشجار الزيتون في جَمع الحبات السوداء المتساقطة كزخات المطر، ثم تقمن بتقليبه وتنقيته، ويبدأن جمعه في أكياس ثقيلة. إثر إتمام هذه المهام يُحمَل الزيتون إلى المعصرة ليصبح زيتًا ثمينًا يُحقق الربح لصاحب الأرض، بينما تظل النساء تكدَحن دون أن يعترف لهن أحد بمقدار العمل والجهد الذي بَذلنه. 

أما فاطمة، 48 سنة متزوجة وأم لأربعة أطفال، تعمل في حقل زيتون بولاية جندوبة، فتصف عملها للمفكرة قائلة: “منذ أكثر من 20 سنة وأنا أعمل في حقول الزيتون. نقوم بأعمال الجني ثم التنظيف والعصر اليدوي، أيدينا تتورّم من كثرة العمل، وأُعاني آلاما مزمنة في الظهر بسبب الانحناء المفرط أثناء الجمع. ورغم كل ذلك الشقاء فإن هذا العمل لا يُؤَمّن لنا قوتنا الكافي، فأصحاب الأراضي غالباً ما يتجاهلون حقوقنا ولا يعطوننا مقابلاً عادلاً، رغم أننا من يُنتج هذه الثروة والأرباح.” وتتابع حول مخاطر العمل قائلة: “العديد من العاملات تعرضن لحوادث الطرقات بسبب سرعة سائق الشاحنة وعدم اكتراثه بسلامة الراكبات، نشعر بجحود. وعرقنا يذهب هباءً”. 

يتميز قطاع الزيتون في تونس بحضور لافت للعمالة النسائية مقابل هجرة الرجال له، بسبب ضعف الأجر، ورغم أهمية الدور الذي تضطلع به العمالة النسائية ومساهمتها الهامة في ضمان صمود القطاع الفلاحي ومقاومته للأزمات، إلا أنها إلى اليوم تُمثل الحلقة الأضعف في سلسلة القطاع، حيث تعمل من دون حقوق ولا تغطية اجتماعية وصحية، وتواجه الاستغلال والعنف بكل أشكاله، وفي هذا الإطار تؤكد دراسة ميدانية نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادي والاجتماعية صدرت في أفريل 2023 أن “العمالة النسائية تكتسح القطاع الفلاحي بنسبة تفوق 90 بالمئة في بعض الولايات خاصة في مواسم الإنتاج الفلاحي.”

وتُوضّح حياة العطّار المكلفة بملف العاملات الفلاحيات في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمفكرة أن “عدد الوفيات والجرحى جراء حوادث الشاحنات بَلغَ إلى حدود 2024 نحو 85 حادثا، ونجم عنها وفاة 64 عاملة وإصابة 944 أخرى” وتشير العطار إلى أن 49 حادثا منها تم تسجيلها بعد صدور ”القانون 51 لسنة 2019 المتعلق بتنظيم نقل العملة والعاملات في القطاع الفلاحي والأمر الترتيبي عدد 724 لسنة 2020 المتعلق بأساليب تطبيقه.” وهو نص تشريعي استهدف القضاء على أساليب النقل العشوائية للعاملات. 

    جدول توضيحي لتطور حوادث النقل التي تعرضن لها العاملات الفلاحيات

وتَرصُد دراسة أنجزَها الاتحاد العام التونسي للشغل، صدرت في أكتوبر 2020، نوعية الأمراض والمخاطر التي تتعرض لها العاملات، حيث تُظهر أن النسبة الأعلى من الحوادث تتمثّل في الجروح بـ41 بالمئة، تليها الرضوض بنسبة 29 بالمئة، ثم حالات الإغماء بـ17 بالمئة، والكُسور بنسبة 8 بالمئة، فضلا عن حوادث أخرى ناجمة عن العمل كنزيف الأنف والإجهاض. إضافة إلى أمراض مزمنة ومضاعفات صحية كالتهاب مفاصل العمود الفقري وضغط الدم والسكري والربو والحساسية وغيرها. مما يعني أن ترسانة القوانين التي تم إصدارها لتحسين ظروف النقل وحدها لا تكفي إن لم تعقبها إجراءات عملية وفرض رقابة شاملة على القطاع الذي يخضع أصلاً إلى نمطية جندرية مبنية على تمثل اجتماعي تقليدي للأدوار. 

تراتبية جندرية تعيد إنتاج الهيمنة الأبوية

تُوضح الأستاذة الجامعية والباحثة في دراسات الجندر، أمال قرامي، في مقابلة لـلمفكرة القانونية أن ”تواجد النساء بأعداد كبيرة في قطاع جني الزيتون يُظهر أن هذا العمل يُعد الخيار الأكثر أمانًا لتأمين لقمة العيش. في ظل غياب بدائل اقتصادية وسياسات تضمن العدالة الاجتماعية، بحيث يُصبح العمل في الفضاء المفتوح ومع الجماعة ملاذًا يتماشى مع القيم المجتمعية والتمثلات الثقافية التي تربط النساء بالطبيعة والعطاء، ما يدفعهن إلى قبول هذا الواقع تجنبًا للمخاطرة والوصم الاجتماعي”. وتضيف قرامي أن “هذا الواقع يعكس تراتبية جندرية تُكرّس تقسيمًا تقليديًا للأدوار، حيث يؤدي غياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية إلى هشاشة تجعل النساء خاضعات لبنى الهيمنة الذكورية. وهكذا يصبح العمل في هذا المجال خيارًا قسريًا يفتقر إلى أي شكل من السيطرة أو التمكين بسبب غياب الفرص المتكافئة.” تبعا لذلك يُثبت هذا الوضع فاعلية الهيمنة والتحيزات الذكورية التي تؤبّد بالضرورة وضعية الهشاشة. 

في السياق ذاته، تُحدّد أمال قرامي أوجه التمييز والتراتبية التي تحكم علاقة الجنسين في بيئة العمل الفلاحية، إذ تشير إلى أنها “تُعيد إنتاج الأنماط الأبوية السائدة في المجتمع، حيث يحتل الرّجل موقع أعلى السلم، رمزًا للسلطة والسيطرة، ما يمنحه حق إصدار الأوامر وتحديد القرارات. في المقابل، تُترَك المرأة في موقع أسفل السلم، لتؤدي دورها في التبعية، حيث تقتصر مهامها على الامتثال والتنفيذ دون قدرة على التعبير أو المطالبة بتوزيع مُنصف للعمل. هذا التباين يُعيد إنتاج أنماط الهيمنة الأبوية، سواء في فضاء العمل أو الحياة الخاصة، ممّا يُعزز خضوع النساء لسلطة مادية ومعنوية ورمزية.”

عند الحديث عن الشأن الفلاحي عادة ما يتم التركيز على كلفة الإنتاج والإحصائيات وشبكات التوزيع وهو ما توثقه عديد الأمثلة من الخطابات الرسمية للساسة، فيما لا يتم التطرق لوضعية النساء إلاّ عند وقوع حوادث خطيرة، ما يعكس تهميش دورهن. وعلى صعيد المخاطر الصحية والنفسية لهذا العمل، توضح قرامي أنّ “العاملات يعانين من ضغوط نفسية كبيرة، إذ يواجهن تحديات في إتمام العمل ضمن المهلة الزمنية المفروضة عليهن، يُضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية للإجهاد الجسدي وسوء التغذية أو تعفن الطعام بفعل عدم حفظه في أماكن باردة، نظرا لأن غالبية العاملات تُؤثِرن عن أنفسهن في رعاية أسرهن وتوفير القوت على الاهتمام بصحتهن الشخصية. وهو سلوك ناتج عن التنشئة الاجتماعية التي تخضع لها الفتيات، حيث يُطلب منهنّ تحمل مسؤولية رعاية الأسرة والتضحية من أجل الآخرين”. علاوة على تعرضهن لمخاطر جلدية بفعل أشعة الشمس الحارقة أثناء الصيف دون استعمال المراهم اللازمة لحماية البشرة وكذلك التعرّض لتأثيرات مبيدات الآفات والمواد الكيميائية الزراعية التي تؤثر على الجهاز التنفسي وتتسبّب في مضاعفات صحيّة.

النسوية البيئية صمام الأمان المناخي 

على اعتبار وجُودِهن وتعاملهن مع الطبيعة، تدفع العاملات الفلاحيات الكلفة الأكبر من التغير المناخي في عالم يشهد تغيرات بيئية مرعبة، حيث يواجهن أثر التصحر وتغير المناخ ونقص المياه نظرا لاعتمادهن على الموارد الطبيعية للحصول على الماء والحطب. في هذا السياق، تُشير فرانسواز دوبون (Françoise d’Eaubonne)، أول من أطلقت مصطلح “النسوية البيئية” في كتابها “الإيكولوجيا السياسية للتغير البيئي: ربط وجهات نظر النسوية بالإشكاليات الزراعية 1974”، إلى أن “النّساء يمتلكن القدرة على قيادة ثورة بيئية، استنادًا إلى الروابط الطبيعية التي تجمعهن بالطبيعة” وفق تصورها.

 ومن هذا المنطلق ترى النسوية البيئية في العديد من مراجعها أن “تغيّر المناخ العالمي هو نتيجة مباشرة للاستغلال غير المستدام لموارد الأرض، وترى أن هذا النّمط من الاستغلال يعكس السّمات الأساسية للنظم الاجتماعية الأبوية”. ولذلك تدعو إلى تبنّي أنماط إنتاج واستهلاك مستدامة، تحقق انسجامًا مع البيئة الطبيعية وتحترم النظم البيئية. كما تدعم التحول نحو “اقتصاد الحياة” القائم على مبادئ الاقتصاد الدائري، الذي يُلغي الاستغلال ويشجع الزراعة المستدامة، مع تعزيز المساواة في توزيع الأدوار الاجتماعية بين النساء والرجال. 

في ظل التحديات البيئية الراهنة، ترى الأستاذة في علم الاجتماع والناشطة النسوية فتحية السعيدي أن: ”النسوية البيئية تُمثّل استجابة نسوية لمواجهة التحديات البيئية والتغير المناخي. تقوم هذه الرؤية على إدراك الترابط الوثيق بين النظم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتسعى إلى تجاوز النظم الهرمية المبنية على الاستغلال. إذ تدعو إلى بناء علاقة متناغمة مع الطبيعة تقوم على الرعاية والاحترام لجميع الكائنات الحية، سواء البشرية أو غير البشرية، وترفض الهيمنة على النساء والطبيعة لتحقيق المكاسب.”

وتعتبر السعيدي في معرض حديثها لـلمفكّرة أن “النسوية البيئية تدعو إلى اللامركزية في عمليات صنع القرار، وتُشجّع التشاركية وإشراك الفئات المهمشة، وعلى رأسها النساء، فهي مفهوم ينظر إلى البيئة من منظور نسوي يرفض السيطرة الذكورية والتقسيم التقليدي للعمل، ويهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والبيئية.”

      قطاع يرزح تحت تركة ثقيلة 

تعود إشكاليات القطاع الفلاحي إلى مشاكل هيكلية. وفي هذا السياق تُشير فتحية السعيدي إلى أنه: “خضع إلى إدارة بنمط تقليدي، متأثرًا بتراكم سياسات عمومية فاشلة منذ الاستقلال إذ لم تُعالج هذه السياسات القضايا الهيكلية التي تعيق تطور القطاع، مثل الإشكاليات العقارية وسوء استغلال الأراضي المملوكة للدولة. وقد تفاقم هذا التهميش تدريجياً نتيجة إخفاقات أبرزها تجربة التعاضد الزراعي، التي أفضت إلى التفريط في العديد من الأراضي والضيعات الفلاحية” على حد تعبيرها.

وتُوضح السعيدي أن: “التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها تونس منذ السبعينات أدّت إلى نزوح العمالة نحو المدن سعياً وراء فرص في القطاع الصناعي أو غير المنظم، مما أضعف مساهمة الزراعة كقطاع اقتصادي أساسي. ورغم أن مجلة الشغل تنص على عدم التمييز في الأجر، إلا أن العاملات في المجال الفلاحي مازلن يعانين من فجوات كبيرة في الأجور وغياب التغطية الاجتماعية، نتيجة الطبيعة الموسمية للعمل الزراعي وتَقطّعه”. 

وتُلفِت السعيدي إلى أن: “هذه الإشكاليات لا تقتصر على العمال فقط، بل تشمل الفلاحين أنفسهم، الذين تفتقر الغالبية العظمى منهم إلى تغطية اجتماعية مناسبة”. وتعزو محدثتنا قصور القطاع إلى غياب سياسات تنموية شاملة تُوازن بين الإنتاج الزراعي والصناعات التحويلية، وتُعزز الحقوق الاجتماعية لكل العاملين والعاملات.

وسط تسارع وتيرة التغيرات المناخية المقلقة يظل التعامل مع القضايا النسائية الفلاحية تعاملا سطحيا، حيث يخضع للانطباعية والتسليع المعرفي في ظل طغيان الأنظمة النيوليبرالية وسيطرة الرأسمالية المعولمة التي تسببت في خلق بيئة من الدمار جَعلَت من استغلال النساء عنصرا أساسيا داخل نظام الهيمنة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني