مُذكّرة حول المعايير الدولية لمنظّمة الإنتوساي: أسئلة وأجوبة دعمًا لمساعي إصلاح ديوان المحاسبة في لبنان


2025-02-13    |   

مُذكّرة حول المعايير الدولية لمنظّمة الإنتوساي: أسئلة وأجوبة دعمًا لمساعي إصلاح ديوان المحاسبة في لبنان
رسم رائد شرف

في إطار عملها على تشخيص الإشكالات في تنظيم ديوان المحاسبة نصًّا ومُمارَسة، استعانت “المفكّرة القانونية” بخبرة القاضية عائشة بن بلحسن في هذا المجال. ننشر هنا المُذكّرة التي حرّرتها لهذه الغاية، نظرًا إلى أهمِّيتها في تعزيز المعرفة في لبنان والمنطقة العربية في هذا المجال. 

تمهيد

تتمثّل التوجيهات والإصدارات المهنية المنظِّمة لعمل الأجهزة العليا للرقابة[1] في التصريحات والإعلانات الرسمية للمنظّمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (الإنتوساي)[2]، والتي تستند إلى الخبرة المهنية الجماعية لأعضائها وتقدّم البيانات الرسمية حول المسائل المتعلّقة بالرقابة على القطاع العام وتضمّ:

مبادئ الإنتوساي INTOSAI – P: التي تحدّد الدور والوظائف التي يجب أن تطمح إليها الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة، وهي وثائق غنية بالمعلومات المفيدة بالنسبة إلى الحكومات والبرلمانات، وكذلك إلى الأجهزة والجمهور العام، ويمكن استخدامها كمرجعية في إطار عملية تحديد الصلاحيات الوطنية للأجهزة العليا للرقابة.

المعايير الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسب ISSAI: هي المعايير الدولية الرسمية للرقابة المالية على القطاع العام، ترتكز على مجموعة أساسية من المفاهيم والمبادئ التي تحدّد الرقابة المالية على القطاع العام ومختلف أنواع الواجبات والالتزامات المدعومة من المعايير الدولية (ضمان جودة العمليّات الرقابية، تعزيز مصداقية تقارير الرقابة بالنسبة إلى المُستخدِمين، تعزيز شفافية العمليّة الرقابية، تحديد مسؤولية المُراقِبين بالنسبة إلى الأطراف المعنية الأخرى، تحديد مختلف أنواع العمليّات الرقابية ومجموعة المفاهيم ذات الصلة التي تقدّم لغة مشتركة للرقابة على القطاع العام).

إرشادات الإنتوساي GUID: التي وضعتها المنظّمة لدعم الأجهزة العليا للرقابة والمُراقِبين الأفراد في مجال تطبيق المعايير الدولية عمليًّا. وتستند الإرشادات إلى الخبرات الجماعية وأفضل الممارسات في المجالات الرقابية والتنظيمية للأجهزة الأعضاء.

أوّلًا: في المبادئ العامة لاستقلالية الأجهزة العليا للرقابة حسب المعايير الدولية لمنظمة الإنتوساي

تعتمد منظّمة الإنتوساي والأجهزة الأعضاء في تحديد الأولويّات في الإصلاحات الدستورية والتشريعية لعمل الأجهزة على مبادئ المنظّمة INTOSAI – P التي تضمّ مبادئ تأسيسية ذات أهمِّية تاريخية، وبخاصّة وثيقة “إعلان ليما”[3] أو المبدأ الأوّل (1)، التي تُعَدّ وثيقة تأسيسية ذات أهمِّية تاريخية، وقد عُدَّ الإعلان، منذ إقراره حتّى اليوم، “الوثيقة العُظمى” Magna Carta للرقابة الحكومية؛ وكذلك وثيقة “إعلان مكسيكو بشأن الاستقلالية”[4] أو المبدأ 10، التي تشتمل على ثمانية مبادئ جوهرية لاستقلالية الأجهزة، وتُعتمد ضمن التشريعات المُنظِّمة لها كمعيار ومُحدِّد لاستقلاليتها.

وبالنسبة إلى الأجهزة العليا للرقابة ذات الطبيعة والوظائف القضائية، تعتمد المنظّمة كذلك في تحديد الأولويّات الدستورية والتشريعية لعملها على وثيقة حديثة الوضع نسبيًّا مُقارَنة بالمبادئ التأسيسية لإعلان ليما (1977) وإعلان مكسيكو (2007)، وهي وثيقة “المبدأ 50: مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة”[5] (2019) التي تتضمّن اثنَي عشر مبدأ تلائم خاصِّيات المهامّ القضائية المُسنَدة إلى الأجهزة العليا للرقابة. وأقرّت الوثيقة التأسيسية أنّه ينبغي استيعاب المبدأ 50 في إطار المبادئ التأسيسية للإنتوساي، وكذلك المبادئ المنصوص عليها في المعاهدات والاتّفاقيات الدولية المُطبَّقة في مجال القضاء.

وقد نصّ إعلان ليما Lima Declaration الذي يهدف إلى التأسيس لرقابة مستقلّة على أعمال الحكومة على أنّه لا يمكن للأجهزة العليا للرقابة، على غرار ديوان المحاسبة في لبنان، أن تؤدّي مهامّها إلّا إذا كانت مستقلّة عن الجهات الخاضعة للرقابة، أي عن السلطة التنفيذية (والحكومة) بشكل أساسي؛ ولا يكتفي الإعلان بتحقيق الاستقلالية فحسب (عمليًّا وبالمُمارَسة)، فهو يشترط أيضًا أن يتمّ إرساء هذه الاستقلالية في التشريعات ضمانًا لديمومتها وحمايةً للجهاز من التغيُّرات في محيطه ومن التأثير الخارجي.

1- إعلان ليما (1977):

يتضمّن إعلان ليما الشروط الآتية للاستقلالية:

الرسم البياني عدد 1: متطلِّبات استقلالية الأجهزة العليا للرقابة حسب إعلان ليما لمنظّمة الإنتوساي، وتضمّنت المادّة 2 من إعلان ليما المبادئ التفصيلية لاستقلالية الأجهزة العليا للرقابة، واستقلالية الأعضاء والمسؤولين فيها، والاستقلال المالي لها، والتي نفصّلها في ما يأتي:

  • متطلِّبات استقلالية الأجهزة العليا للرقابة:

لا يمكن للأجهزة العليا للرقابة أن تضطلع بمهامّها بصورة موضوعية وفعّالة إلّا إذا كانت مستقلّة عن الوحدة الخاضعة للرقابة، وفي مأمن من التأثير الخارجي. وبالرغم من أنّه لا يمكن لأجهزة الدولة أن تكون مستقلّة عنها استقلالًا كاملًا، بوصفها جزءًا من الدولة ككلّ، فإنّه ينبغي للأجهزة العليا للرقابة أن تتمتّع بالاستقلالية الوظيفية الضرورية لإنجاز مهامّها.

ويجب أن ينصّ الدستور على إنشاء الأجهزة العليا للرقابة، وعلى الدرجة الضرورية من استقلاليتها، على أن يتمّ تقديم التفاصيل المتعلّقة بذلك في النصوص القانونية؛ وينبغي، بالخصوص، أن توجد محكمة عليا تضمن الحماية القانونية المناسبة ضدّ كلّ تدخُّل من شأنه أن يمسّ باستقلالية الجهاز الأعلى للرقابة وسلطاته الرقابية.

  • استقلالية الأعضاء والمسؤولين في الأجهزة العليا للرقابة:

اعتبر إعلان ليما أنّ استقلالية الأجهزة العليا للرقابة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باستقلالية أعضائها، وعرّف الأعضاء بأنّهم “الأشخاص الذين تُوكَل إليهم مهمّة اتِّخاذ القرارات باسم الجهاز، ويُعتبَرون مسؤولين عن هذه القرارات أمام جهات أخرى”، بمعنى أنّهم أعضاء هيئة مُشترَكة لها الحقّ في القرار، أو رئيس هيئة عليا للرقابة إذا كانت رئاسة هذه الهيئة مُوكَلَة إلى شخص واحد. ويجب أن تكون استقلالية الأعضاء مضمونة أيضًا بـنصّ الدستور، وكذلك ينبغي، وبوجه خاص، أن ينصّ الدستور على إجراءات العزل من الوظيفة، وألّا يكون في هذه الإجراءات مساسٌ باستقلالية الأعضاء، وأن تتوافق طريـقة تعيين الأعضاء أو عزلهم مع نصوص الهيكل الدستوري للبلد المعني.

كما يجب ألّا يتأثّر مُوظَّفو وأعوان الأجهزة العليا للرقابة، في حياتهم المهنية، بالضغوط التي يمكن أن تمارسها الهيئات الخاضعة للرقابة، وأن لا يكونوا تابعين لتلك الهيئات.

  • الاستقلالية المالية للأجهزة العليا للرقابة:

اقتضى إعلان ليما أن تمنح الأجهزة العليا للرقابة الإمكانيات المالية التي تكفل لها القيام بمهمّتها، وأن تكون الأجهزة العليا للرقابة، إن اقتضى الأمر ذلك، قادرةً على أن تطلب الموارد المالية التي تحتاج إليها مباشرة من الجهاز المسؤول عن الميزانية الوطنية (البرلمان). كما اقتضى أن تكون الأجهزة العليا للرقابة قادرةً على استخدام الأموال المُسنَدة إليها ضمن فصل مُميَّز من فصول الميزانية، حسب ما تراه صالحًا (أي ميزانية خاصة ومُنفصِلة وغير تابعة لهيكل آخر).

وتضمَّنَ المبدأ 12 لمنظّمة الإنتوساي 12 INTOSAI P “قيمة ومنافع الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة – إحداث الفارق في حياة المواطنين”[6] دور الأجهزة العليا للرقابة في تكريس دعائم النظام الديمقراطي تواؤمًا مع روح إعلان ليما، حيث يتمّ إنشاء الهياكل وتمكين المُمثِّلين المُنتخَبين لتنفيذ إرادة الشعب والتصرُّف نيابةً عنهم عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية في ظلّ أيّ نظام ديمقراطي. ويكمُن الخطر في مُؤسَّسات القطاع العام، في ظلّ الديمقراطية، في احتمال أن يُساء استغلال السلطة والموارد، أو أن تكون ضحيّة سوء الإدارة، ممّا يؤدّي إلى ضعف الثقة العامة، وهو ما يمكن أن يقوّض جوهر النظام الديمقراطي ذاته. ولذلك، من الأهمِّية بمكانٍ، حسب المبدأ 12، أن يكون بوسع المواطن مُساءَلة من يمثّله وينوب عنه. ولن يكون من الممكن مساءلة المُمثِّلين المُنتخَبين ديمقراطيًّا إلّا إن كان بوسعهم، هم أنفسهم، مُساءَلة من يقومون بتنفيذ قراراتهم. وتواؤمًا مع روح إعلان ليما، فإنّ من المُكوِّنات المهمّة لدورة المُساءَلة وجود جهاز أعلى للرقابة المالية والمحاسبة، يتّسم بالاستقلالية والفعالية والمصداقية، للتدقيق في إدارة الموارد العامة واستغلالها.

2- إعلان مكسيكو (2007): ثمانية مبادئ تفصيلية لإعلان ليما

جاء إعلان مكسيكو لاستقلالية الأجهزة مُكمِّلًا للوثيقة العظمى Magna Carta إعلان ليما ومُفصِّلًا مبادئَها بجملةٍ من الأحكام التطبيقية التي تهدف إلى توضيحها، والتي تُعَدّ “وضعًا مثاليًّا” لأيّ جهاز أعلى للرقابة مُستقِلٍّ، وذلك عبر تبويبها ضمن ثمانية مبادئ تمّ تنزيلها في إطار تطلُّب الإعلان توفيرَ جهازٍ أعلى للرقابة في كلّ بلد تكون فيه استقلاليته مضمونة بالقانون، من أجل إقامة نظام ديمقراطي سليم.

المبدأ الأوّل: وجود إطار دستوري/نظامي/قانوني مناسِب وفعّال وأحكام تطبيقية واقعية خاصة بهذا الإطار؛ والمطلوب وضع تشريعات تحدّد بالتفصيل مدى استقلالية الأجهزة العليا للرقابة.

المبدأ الثاني: استقلالية رئيس الجهاز الأعلى للرقابة والأعضاء، بما في ذلك ضمان الحفاظ على المنصب والحصانة القانونية أثناء الأداء العادي لمهامّهم؛ ويُعَيَّن أعضاء الأجهزة ويُعاد تعيينهم وإقالتهم وفق إجراءات تضمن استقلاليتهم عن السلطة التنفيذية. ويكون تعيينهم لمدّة كافية ومُحدَّدة حتّى يتمكّنوا من أداء المهامّ المنوطة بعُهدتهم من دون خوفٍ من العقاب. ولتحقيق هذا المبدأ، اقتضى إعلان مكسيكو ضرورة أن تحدّد التشريعات المُطبَّقة شروط تعيين رئيس الجهاز الأعلى للرقابة والأعضاء، وإعادة تعيينهم، وعملهم، وتقاعدهم وإقالتهم (يمكن أن تكون مُضمَّنة في النصّ المُنظِّم للجهاز، أو في نظام أساسي خاصّ بأعضاء الجهاز).

كما اقتضى الإعلان أن يُعَيَّن رئيس الجهاز وأعضاؤه أو يُعاد تعيينهم أو إقالتهم وفق إجراء يضمن استقلاليتهم عن السلطة التنفيذية، وأن يكون تعيينهم (لا سيّما رئيس الجهاز) لمدّة طويلة كافية ومُحدَّدة حتّى يتمكّنوا من أداء المهامّ المنوطة بهم، من دون خوفٍ من العقاب، وأن تكون لديهم حصانة ضد الملاحقة القضائية بخصوص أيّ عمل سابق أو حاضر نتج من الأداء العادي والطبيعي لمهامّهم، كما يقتضي الحال.

المبدأ الثالث: صلاحية واسعة وكافية مع حرِّية التصرُّف التامّة عند أداء المهامّ:

حيث ينبغي للأجهزة العليا للرقابة أن تتمتّع بالسلطة الكافية لتحقيق أهدافها في النظر في:

  • استعمال الأموال والموارد أو الموجودات العامة من قبل جهة مُستلِمة أو مُنتفِعة، بغضّ النظر عن طبيعتها القانونية.
  • تحصيل الإيرادات المُستحقَّة للحكومة أو الجهات الحكومية.
  • قانونية ونظامية الحسابات الحكومية أو حسابات الجهات الحكومية.
  • الوقوف على جودة الإدارة المالية وإعداد التقارير.
  • العمليّات الحكومية أو عمليّات الجهات الحكومية من منظور العناصر الاقتصادية والكفاءة والفعالية.

ولا تقوم الأجهزة العليا للرقابة برقابة سياسة الجهات الحكومية، بل تقتصر فقط على رقابة تنفيذ السياسات إلّا في الحالات التي يطلب منها القانون فعل ذلك.

وتُعَدّ الأجهزة العليا للرقابة، مع احترام القوانين التي تُصدِرها السلطة التشريعية والتي تُطبَّق عليها، مُتحرِّرةً من أيّ توجيه أو تدخُّل من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية:

  • عند اختيار مواضيع الرقابة؛ 
  • عند التخطيط لعملياتها الرقابية، وبرمجتها، وإنجازها، وإعداد تقاريرها، ومتابعتها؛
  • عند تنظيم جهازها الرقابي وإدارته؛
  • عند فرض عقوبات حين يكون تطبيق العقوبات جزءًا من صلاحية الأجهزة العليا للرقابة.

ولا ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، بأيّ شكل من الأشكال، أن تتدخّل أو تعطي الانطباع بأنّها تتدخّل في إدارة الجهات الخاضعة لرقابتها. كما ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تضمن عدم قيام مُوظَّفيها بتكوين علاقات وثيقة مع الجهات الخاضعة للرقابة، لكي تبقى موضوعية أو تبدو موضوعية.

وبالرغم من أنّ للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة حرِّية التصرُّف التامّ في أداء المهامّ المنوطة بها، يجب عليها أن تتعاون مع الجهات الحكومية والعامة التي تسعى إلى إدخال تحسينات على استخدام الأموال العامة وإدارتها. ويتعيّن على الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تستخدم معايير العمل والرقابة المناسبة، وأن تلتزم بقواعد السلوك المذكورة في الوثائق الرسمية لمنظّمة الإنتوساي، والاتّحاد الدولي للمُحاسِبين، أو الهيئات الواضعة المعايير، المُعترَف بها. 

ويجب على الأجهزة العليا أن تقدّم تقريرًا سنويًّا خاصًّا بالأنشطة التي تقوم بها إلى السلطة التشريعية ومُؤسَّسات أخرى في الدولة، بمُقتَضى الدستور أو القوانين الأساسية أو التشريعات، كما عليها أن تنشر التقرير للجمهور.

المبدأ الرابع: الوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات

ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تتمتّع بالسلطات الكافية للحصول، بشكل غير مُقيَّد ومباشر وحرّ، وفي الوقت المناسب، على الوثائق والمعلومات اللازمة كافّة، لأداء مهامّها القانونية على نَحوٍ صحيح.

المبدأ الخامس: حقّ وواجب الأجهزة العليا للرقابة إعداد تقارير بشأن أعمالها

لا ينبغي تقييد حرِّية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة في إعداد تقارير بشأن نتائج أعمالها الرقابية، بحيث ينبغي، بموجب القانون، أن ترفع تقريرًا بشأن نتائج رقابتها المالية، مرّة في كلّ سنة، على الأقلّ.

المبدأ السادس: حرِّية تقرير محتوى تقارير الرقابة وتوقيتها ونشرها وتوزيعها

يجب أن تتمتّع الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة بحرِّية تقرير محتوى ومضمون تقاريرها الرقابية، فضلًا عن حقّها في إبداء الملاحظات ورفع التوصيات في تقاريرها الرقابية، مع الأخذ في عين الاعتبار، كلّما كان مناسبًا، وجهة نظر الجهات المشمولة بالرقابة.

وتحدّد الهيئة التشريعية حدًّا أدنى للشروط المُتعلِّقة بإعداد تقارير الرقابة المالية من قبل الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، كلّما كان مناسبًا، وتحدّد أيضًا مواضيع مُعيَّنة يجب أن تخضع لرأي رقابة رسمية أو لشهادتها.

وتتمتّع الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة بحرِّية تحديد الوقت المناسب لتقاريرها ما لم يفرض القانون شروطًا معيّنة خاصة بإعداد تقارير الرقابة المالية.

ويجوز للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تلبّي طلبات معيّنة لإجراء تحقيقات أو رقابة مالية من السلطة التشريعية ككلّ، أو من إحدى لجانها، أو من الحكومة.

وتتمتّع الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة بحرِّية نشر تقاريرها وتوزيعها بعد تقديمها وطرحها بصفة رسمية على السلطات المُختَصَّة، كما ينصّ على ذلك القانون.

المبدأ السابع: وجود آليات متابعة فعالة للتوصيات التي ترفعها الأجهزة العليا للرقابة

تقدّم الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة تقاريرها إلى السلطة التشريعية أو إحدى لجانها أو إلى مجلس إدارة الجهة المشمولة بالرقابة، كلما كان مناسبا، للعرض ومتابعة توصيات محدّدة لاتخاذ الإجراءات التصحيحية.

لدى الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أنظمة داخلية للمتابعة خاصة بها للتأكد من أن الجهات المشمولة بالرقابة قد عالجت بطريقة صحيحة ملاحظاتها وتوصياتها بالإضافة إلى الملاحظات والتوصيات التي رفعتها السلطة التشريعية أو إحدى لجانها أو رفعتها لمجالس إدارة الجهات المشمولة بالرقابة، كلما كان مناسبا.

وترفع الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة تقارير متابعاتها إلى السلطة التشريعية أو إحدى لجانها أو إلى مجلس إدارة الجهة المشمولة بالرقابة، كلما كان مناسبا، للنظر فيها، واتخاذ إجراءات بشأنها، حتى في الحالات التي يكون فيها للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة سلطة قانونية خاصة بها للمتابعة وفرض العقوبات.

المبدأ الثامن: الاستقلالية الذاتية المالية والإدارية وتوفُّر الموارد البشرية والمادِّية والنقدية المناسبة

ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تتمتّع بالموارد البشرية والمادِّية والنقدية اللازمة والمعقولة، ولا ينبغي للسلطة التنفيذية التحكُّم في طريقة الوصول إلى هذه الموارد أو توجيهها. وتقوم الأجهزة العليا للرقابة بإدارة ميزانيتها، كما أنّها حرّة في تخصيص هذه الميزانية بما تراه مناسبًا.

وتكون السلطة التشريعية أو إحدى لجانها مسؤولةً عن ضمان توفير الموارد اللازمة للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة لكي تتمكّن من القيام بالمهامّ المنوطة بها.

ويحقّ للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تلجأ مباشرة إلى السلطة التشريعية إذا كانت الموارد المتاحة غير كافية ولا تسمح لها بالقيام بالمهامّ المنوطة بها.

3- المبدأ 50: مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة (2019)

ينصّ المبدأ INTOSAI P 50 لمنظّمة الإنتوساي حول المهامّ القضائية للأجهزة العليا للرقابة – الذي يُعَدّ مبدأً تأسيسيًّا يهدف  إلى استكمال المبادئ الأساسية الأخرى للإنتوساي – أنّه يمكن للأجهزة ذات المهامّ القضائية مُعاقَبة المُتصرِّفين العموميّين بشكل مباشر عندما تكتشف ارتكابهم مُخالفاتٍ تستوجب إثارة مسؤوليتهم، أو عندما تُحال عليها قضايا في هذا الشأن من طرف جهات خارجية مُؤهَّلة. وباعتبار أنّ أخطاء التصرُّف (أخطاء المُتصرِّفين العموميّين) قد تقترن بمُخالفات للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، فإنّ الملاحظات المُضمَّنة في تقارير الرقابة المالية أو رقابة الأداء أو رقابة الالتزام للأجهزة العليا للرقابة، والتي قد تُحال على القضاء المدني أو الجزائي، يمكن أن تكون كذلك، بحسب المبدأ 50 نفسه لمنظّمة الإنتوساي، موضوع مُتابَعات مناسبة، وبوتيرة أسرع، أمام الجهاز الأعلى للرقابة نفسه في إطار المهامّ القضائية المُسنَدة إليه.

وتشير العديد من المعايير الرقابية الدولية للأجهزة العليا للرقابة إلى بعض خاصِّيات الأجهزة العليا للرقابة ذات المهامّ القضائية على مستوى المبادئ التأسيسية للإنتوساي، أو في إطار الإنتوساي للتوجيهات والإصدارات المهنية المُنجَز والمُطبَّق من طرف هذه المنظّمة. حيث يحدّد إعلان ليما دور الأجهزة العليا للرقابة في الكشف عن المسؤوليّات الفردية، ويقضي بوجوب أن تمكّن الرقابة اللاحقة من جبر الخسارة المُسجَّلة، وهو ما يندرج ضمن وظائف المهامّ القضائية للأجهزة العليا للرقابة. كما يشير إعلان مكسيكو حول استقلالية الأجهزة العليا للرقابة إلى إمكانية تطبيق عقوبات من طرف الجهاز الأعلى للرقابة، عندما تكون هذه السلطة جزءًا من المهامّ المُسنَدة إليه، وهو ما كرّسه أيضًا المبدأ 12 “قيمة ومنافع الأجهزة العليا للرقابة”. كذلك تضمّنت مُدوّنة الأخلاقيات المهنيّة ISSAI 130 قواعد خاصة بهذا الصنف من الأجهزة العليا للرقابة، تقرّ من خلالها الإنتوساي بضرورة مراعاة خاصِّيات الأجهزة العليا للرقابة التي تتَّخذ شكل محاكم.

وبالاستناد إلى إطار التوجيهات المهنيّة للإنتوساي، لا سيّما المبدأ 50 المرتبط بشكل وثيق بإعلان ليما وإعلان مكسيكو ومعيار الرقابة على القطاع العام ISSAI 100، فإنّ المهامّ القضائية للأجهزة العليا للرقابة تتمحور، بشكل عامّ، حول مراقبة شرعية الحسابات وأعمال التصرُّف التي يقوم بها المُتصرِّفون العموميّون والمسؤولون الآخرون عن التصرُّف في الأموال العمومية والأموال تحت تصرّفها، وقد يسفر عن ممارسة هذه المهامّ القضائيّة إثارة المسؤولية الشخصية لهؤلاء المُتصرِّفين ومعاقبتهم في حالة ارتكابهم مُخالفاتٍ في التصرُّف بهذه الأموال وفي إنجاز العمليّات المتعلّقة بها، أو عندما تتسبّب المُخالَفات المُرتكَبة في إلحاق الضرر بهيكل عمومي.

حيث تهدف المهامّ القضائية المُسنَدة إلى الأجهزة العليا للرقابة، بحسب المبدأ 50 لمنظّمة الإنتوساي، إلى حماية حسن التصرُّف في الشأن العام، والحفاظ على مصالح الجهة موضوع الرقابة، وبالتالي مصالح السلطات العمومية والمواطن، وذلك من خلال الجبر الكلِّي أو الجزئي للضرر الذي قد يلحق هيكلًا عموميًّا، وإثارة المسؤولية الشخصية والمالية أو التأديبية للأشخاص الذين ثَبت ارتكابهم مُخالَفاتٍ مُوجِبة للمسؤولية، وتتجلّى قيمة الأحكام والقرارات القضائية التي تصدر عن الجهاز الأعلى للرقابة أساسًا في طابعها الردعي والوقائي. وبالتالي، تتوفّر الأجهزة العليا للرقابة ذات المهامّ القضائية على سلطات خاصة كفيلة بضمان حمايةٍ للأموال العمومية، وإرساء الشفافية والنزاهة في مجال التصرُّف العمومي.

وبفضل مهامِّه القضائية، يشارك الجهاز الأعلى للرقابة في إثارة مسؤولية المُتصرِّفين العموميّين عبر إصدار أحكام عليهم بأداء غرامة، أو بجبر الضرر المالي جزئيًّا أو كلِّيًّا، من ذمّتهم المالية، وذلك بالمساهمة في إرجاع مبالغ النفقات غير الشرعية والمداخيل الضائعة أو مبالغ العجز المُسجَّل في الصناديق والحسابات العمومية. كذلك من شأن الأحكام والقرارات القضائية التي يُصدِرها الجهاز الأعلى للرقابة أن تؤثر على المسار المهني للمُوظَّف المُعاقَب. وفي الشأن ذاته، يساهم نشر الأحكام والقرارات القضائية في الوقاية من ارتكاب المُخالَفات وفي إضفاء الوظيفة الاعتبارية على العقوبات الصادرة بشأنها، وكذلك في ثقة السلطات العمومية والمواطنين بوثوقية النظام المالي العمومي وبنزاهة المُوظَّفين والأعوان العموميّين.

وبذلك، يساهم الجهاز الأعلى للرقابة، من خلال المهامّ القضائية التي يمارسها، في الاستجابة لانتظارات المواطنين في مجال المُساءَلة الشخصية للمُوظَّفين المُكلَّفين بالتصرُّف في الأموال العمومية.

ويقتضي المبدأ 50 المُتعلِّق بالأجهزة العليا للرقابة ذات الصبغة القضائية، على غرار ديوان المحاسبة في لبنان، أن يتمتّع أعضاء الأجهزة القضائية بالاستقلالية القانونية الواضحة عن السلطات العمومية التي يبتّون في ملفّاتها القضائية، وبخاصّة من خلال وجود أحكام قانونية مُحدّدة تتعلّق بالقضاة أعضاء الأجهزة العليا للرقابة ذات الصبغة القضائية، وعلى وجه الخصوص تعيينهم وضمان استقلاليتهم وحياديتهم.

وينبغي أن تكون القواعد الوطنية المُنطبِقة على القضاة الماليّين مُتوافِقة مع المعايير الدولية في هذا المجال؛ إذ ينصّ المبدأ 50 على أنّه يتعيّن تمتُّع العضو أو أعضاء الأجهزة العليا للرقابة المتدخِّلين في ممارسة المهامّ القضائيّة بضمانات قانونيّة مُحدَّدة تضمن صراحة استقلاليتهم إزاء السلطات العمومية، وعلى أن تُحدِّد مُقتضَيات قانونية خاصة شروط تعيين القضاة أو الأشخاص الذين يتولّون التحرّي والتحقيق في القضايا المعروضة أمام الجهاز الأعلى للرقابة، من أجل ضمان استقلاليتهم، بخاصة من خلال النصّ على عدم قابليتهم للعزل والنقل، والتزامهم بواجب الحياد. وبصفة عامة، عندما تنصّ التشريعات الوطنية على قواعد للأخلاقيّات تسري على القضاة الماليّين، يجب أن تتلاءم هذه القواعد مع مُقتضَيات مُدوّنة الأخلاقيات المهنيّة للإنتوساي ISSAI 130. ويشكّل هذا المبدأ التزامًا قد تترتّب عليه آثار في غاية الأهمِّية، بالنسبة إلى الأجهزة العليا للرقابة التي تمارس المهامّ القضائية، وذلك بالنظر إلى مُتطلِّبات القوانين المُطبَّقة، والآثار المُحتمَلة للمُقرَّرات القضائية الصادرة عنها على الأشخاص المعنيين. لذلك، فإنّ من شأن الإخلال بضمانة استقلالية أعضاء الأجهزة العليا للرقابة إبطالَ وإلغاءَ المُقرَّرات القضائية الصادرة عن هذه الأجهزة.

ثانيًا: في المسائل الخصوصية المتعلّقة بمشروع قانون تنظيم ديوان المحاسبة

1- وفق المعايير الدولية، ما هي الاستقلالية المالية والإدارية والوظيفية التي يجدر أن يتمتّع بها ديوان المحاسبة؟

تنصّ المعايير الدولية لمنظّمة الإنتوساي على ضرورة أن يتمتّع الجهاز الأعلى للرقابة، على غرار ديوان المحاسبة، بالاستقلالية التامّة عن السلطات العمومية، حيث لا يمكن ضمان رقابة مُستقِلّة على أعمال الحكومة إلّا إذا كان الديوان مُستقِلًّا عن الجهات الخاضعة لرقابته، أي أساسًا السلطة التنفيذية (والحكومة)، وأن يتمّ إرساء هذه الاستقلالية في التشريعات ليكون الديوان بمنأى عن التأثير الخارجي، لا سيّما تغيُّر الحكومات وتغيُّر التوجُّهات السياسية بحسب المدّة النيابية الانتخابية.

وتتمثّل الاستقلالية المالية والإدارية والوظيفية للديوان، بحسب المعايير الدولية، في المُقتضَيات الموضوعية الآتية:

أ‌. ضرورة التنصيص صراحةً على استقلالية الديوان في الدستور اللبناني وفي القانون المُنظِّم للديوان لتحقيق مُتطلِّبات المبدأ الأوّل من إعلان مكسيكو في وجود إطار دستوري ونظامي وقانوني مناسب وفعّال، وأحكام تطبيقية واقعية خاصة بهذا الإطار تضمن استقلالية الديوان وتحدّدها بالتفصيل: وتماشيًا مع هذا المبدأ، فإنّه من الضروري دَسْتَرَة إنشاء الديوان، ودَسْتَرَة مهامّه ووظائفه واستقلاليته واستقلالية رئيسه وأعضائه، وإحالة التفاصيل على النصوص القانونية المُنظِّمة له، فضلًا عن تخصيص الفصل الأوّل من القانون المُنظِّم للديوان لتأكيد استقلاليته التامّة ووجود “محكمة عليا”، وفق مُتطلِّبات إعلان ليما، تضمن الحماية القانونية المناسبة ضدّ كلّ تدخُّل من شأنه أن يمسّ باستقلالية الديوان وسلطاته الرقابية.

ومن المحاذير المهمّة، المرتبطة بالممارسات التي تحدّ من استقلالية الأجهزة العليا للرقابة، ضرورة الحرص على ألّا تتعارض نصوص قانونية أخرى (أعلى مرتبة أو بمرتبة قانون الديوان نفسها) مع استقلالية الديوان أو تحدّ منها (كالتشريعات المُنظِّمة لممارسة السلطات الأخرى صلاحياتِها، أو التشريعات المُنظِّمة للميزانية مثلًا)، وذلك عبر التنصيص صراحةً ضمن قانون الديوان على أنّه، في صورة تعارض إجراءات أو مُقتضَيات قانونية مع قانون الديوان (بخصوص استقلاليته ومهامّه ومُمارسَته صلاحياتِه والإجراءات المُنطبِقة عليها)، فإنّ قانون الديوان هو المُنطبِق. ومن شأن هذا التنصيص أن يُغني عن تنقيح قوانين أخرى قد تكون حاليًّا متعارِضة مع استقلالية الديوان، ويغني كذلك عن تنازُع الاختصاص بخصوص مهامّه وصلاحياته وعن الاجتهادات القانونية التي من الممكن توظيفها للحدّ من استقلالية الديوان، أو التي تحول دون مُمارسِته مهامَّه بشكل فعّال.

ب‌. تحقيق المبدأ الثامن لإعلان مكسيكو والذي يتضمّن متطلّبات الاستقلالية الذاتية المالية والإدارية وتوفير الموارد البشرية والمادّية والنقدية المناسبة لديوان المحاسبة: ويقتضي، على وجه الخصوص، تمتُّع الديوان بالموارد البشرية والمادّية والنقدية اللازمة والمعقولة، وألّا تتحكّم السلطة التنفيذية في طريقة وصوله إلى هذه الموارد أو توجيهها، كأن تكون ميزانية الديوان مثلًا مُتفرِّعة عن ميزانية هيكل من هياكل السلطة التنفيذية (وزارة ما أو رئاسة الحكومة أو ما شابهها)، أي ضرورة التنصيص في القانون المُنظِّم للديوان وفي القانون المُنظِّم للميزانية العامة للدولة على استقلالية ميزانية الديوان، وأن تكون له ميزانية مستقلّة وغير مُتفرِّعة عن ميزانية أيّ هيكل خاضع لسلطته الرقابية والقضائية، بشكل مباشر أو غير مباشر (غير مُرتبِطة هيكليًّا ووظيفيًّا بميزانية وزارة أخرى، أو رئاسة الوزراء، أو البرلمان أو غيره، بما يحدّ منها أو يفتح الباب للتقليص منها عبر تحويل أجزاء منها وفق ما يسمح به قانون الميزانية من تفريع أو تحويل للموارد)، وأن تكون هذه الميزانية خاصة ومُنفرِدة (إعلان ليما) وكافية لأداء مهامّه الدستورية والقانونية، وأن يكون الديوان مُخوَّلًا قانونًا لإدارة ميزانيته، وله الحرِّية التامّة في تخصيصها بما يراه مناسبًا في إطار مبادئ الشفافية والمسؤولية والمُساءَلة، كأن تنشر ميزانية الديوان للعموم، وتنشر كذلك تقارير التصرُّف والرقابة على هذه الميزانية وفق القواعد القانونية المناسبة والضامنة استقلالَ الديوان.

كما ينبغي، لضمان الاستقلال الذاتي المالي والإداري لديوان المحاسبة، أن تكون السلطة التشريعية أو إحدى لجانها مسؤولة عن ضمان توفير الموارد اللازمة له لكي يتمكّن من القيام بالمهامّ المنوطة به، وهو ما يتطلّب بالضرورة أن يكون الديوان مُخوَّلًا قانونًا لمناقشة مشروع ميزانيته مباشرة مع البرلمان أو اللجنة البرلمانية المُكلَّفة بالميزانية (إعلان ليما)، وأن يكون مُخوَّلًا كذلك طلب موارد إضافية، إذا كانت الموارد المُتاحَة غير كافية ولا تسمح له بالقيام بالمهامّ المنوطة بعهدته وكلّما تطلب الأمر ذلك (كإضافة مهامّ جديدة بقوانين، أو مسائل طارئة بخصوص برنامجه الرقابي في أثناء تنفيذ الميزانية). فضلًا عن ذلك، وفي إطار مبادئ الشفافية والمسؤولية والمُساءَلة، ينبغي أن تكون الرقابة على تنفيذ الديوان لميزانيته مُبيَّنة بالقانون، وألّا تكون، بأيّ وجه، مدخلًا للتدخُّل في صلاحياته أو الحدّ منها ومن استقلاليته.

ت‌. ضرورة ضمان تحقيق المبدأ الثاني من إعلان مكسيكو في الدستور وفي القانون المُنظِّم للديوان (وفي النظام الأساسي المُنظِّم لقضاة الديوان كلّما كان ذلك مُنطبِقًا) بشأن استقلالية رئيس الديوان والأعضاء، بما في ذلك ضمان الحفاظ على المنصب والحصانة القانونية أثناء الأداء العادي لمهامِّهم: ويكون هذا التكريس من خلال دَسْتَرَة استقلالية رئيس الديوان وأعضائه (إعلان ليما)، ومن خلال تنظيم التعيين والإقالة بإجراءات واضحة، على ألّا يكون في هذه الإجراءات مساس بالاستقلالية، وأن يكون لرئيس الديوان مدّة نيابية مُحدَّدة وكافية لا يمكن قطعها بالعزل أو الإقالة للتأثير عليه وعلى الديوان خلال أداء مهامّه، وأن تكون لرئيس الديوان وأعضائه حصانة قانونية ضدّ التتبُّعات في إطار أداء مهامّهم العادية في الديوان. كما يجب حماية المسارات المهنيّة لأعضاء الديوان من التأثيرات الخارجية، لا سيّما الضغوطات التي يمكن أن تمارسها الهيئات الخاضعة لرقابتهم وسلطتهم القضائية، كمُباشَرة التتبُّعات التأديبية أو سلطة التفتيش أو الملاحقات والعقوبات ضدّهم على خلفية مباشرتهم مهامَّهم الرقابية والقضائية؛ كما ينبغي ألّا يكونوا تابِعين لتلك الهيئات في تعيينهم (مُناظَرات الانتداب وشروط الاختيار والتعيين) أو مساراتهم المهنيّة أو ترقيتهم أو إقالتهم أو عزلهم أو تأجيرهم.

وبالنسبة إلى أعضاء الديوان من القضاة، ينبغي كذلك تكريس المبدأ الثاني من وثيقة المبدأ 50 INTOSAI P المتعلّق بالأجهزة العليا للرقابة ذات الصبغة القضائية، الذي يتطلّب تمتُّع القضاة أعضاء الأجهزة القضائية بالاستقلالية القانونية الواضحة عن السلطات العمومية التي يبتّون في ملفّاتها القضائية، وبخاصَّة وجود أحكام قانونية مُحدَّدة تتعلّق بتعيينهم وضمان استقلاليتهم وحيادهم، وينبغي أن تكون القواعد الوطنية المنطبِقة على القضاة الماليّين مُتوافِقة مع المعايير الدولية في هذا المجال وأن تحدّد مُقتضَيات قانونية خاصة (في قانون الديوان أو في النظام الأساسي لقضاته) شروط تعيين القضاة الذين يتولّون التحرّي والتحقيق في القضايا المعروضة على الديوان بما يضمن استقلاليتهم، وبخاصَّة التنصيص في القانون على عدم قابليتهم للعزل والنقل والتزامهم بواجب الحياد. وعندما تكون لقضاة الديوان قواعد للأخلاقيّات القضائية تسري عليهم (بشكل خاص أو ضمن النظام الوطني للقضاة بشكل عام)، فإنّه لا بدّ من أن تتلاءم مع مُقتضَيات مُدوّنة الأخلاقيّات المهنية للإنتوساي 130ISSAI . 

ث‌. لتحقيق الاستقلالية الوظيفية لديوان المحاسبة، ينبغي تكريس جملة المُتطلِّبات الواردة في المبادئ، الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع، من إعلان مكسيكو في الدستور والقانون الناظم له، وفق ما يأتي:

  1. التنصيص ضمن الدستور والقانون المُنظِّم للديوان على صلاحيات واسعة وكافية، مع ضمان حرِّية التصرُّف التامّة عند أداء المهامّ، وعلى تمتُّع الديوان بالسلطة الكافية لتحقيق أهدافه في النظر في استعمال الأموال والموارد العامة، بغضّ النظر عن الطبيعة القانونية للجهة المُنتفِعة بهذه الموارد (أي أنّ المعيار هو المال العام وليس الطبيعة القانونية للمُتصرِّف فيه، إن كان جهة عمومية أو خاصة أو ذات مساهمة عمومية) وفي النظر في تحصيل الموارد من قبل الحكومة والجهات الحكومية، وفي الحسابات الحكومية وحسابات الجهات الحكومية من منظور المطابقة أو الامتثال للقوانين (قانونية هذه الحسابات ونظاميتها) والوقوف على جودة الإدارة المالية وإعداد التقارير بشأنها (تقارير غلق الميزانية أو ختمها/ تقارير التصريح بالمطابقة/ المصادقة أو التصديق على الحسابات وفق ما هو مُنطبِق بالنظام المالي الوطني) والنظر في العمليّات الحكومية أو عمليّات الجهات الحكومية من منظور عناصر الاقتصاد والكفاءة والفعالية (رقابة الأداء على تنفيذ البرامج والمشاريع والسياسات العمومية).
  2. التنصيص ضمن قانون الديوان (وفي جميع الحالات الامتناع عن التنصيص على عكس ذلك) على استقلالية الديوان من أيّ توجيه أو تدخُّل من السلطة التشريعية (في صورة ارتباطه بالبرلمان أو حتّى في صورة عدم ارتباطه العُضوي أو الوظيفي به) أو السلطة التنفيذية (في جميع الحالات)، وذلك عند تنظيم وإدارة جهازه الرقابي والقضائي، وفي اختيار مواضيع الرقابة، وعند التخطيط لعمليّاته الرقابية (الموضوع/ التوقيت/ مجال الرقابة…)، وبرمجتها (تكون المصادقة على البرمجة من قبل تشكيلات الديوان، من دون تدخُّل خارجي للمصادقة على البرنامج السنوي للعمليّات الرقابية والقضائية)، وإنجازها (توقيت الإنجاز وكيفيّة الإنجاز يحدّدها الديوان من دون تدخُّل من السلطة التشريعية أو التنفيذية)، وإعداد تقاريرها (مضمون التقرير وتوقيت نشره يحدّده الديوان من دون تدخُّل من السلطة التشريعية أو التنفيذية)، ومتابعتها (كيفيّة متابعة التوصيات يحدّدها الديوان من دون تدخُّل من السلطتَين التشريعية والتنفيذية اللتَين قد تكون لديهما وسائلهما للمتابعة السياسية لتنفيذ الإجراءات التصحيحية التي أوصى بها الديوان، لكن من دون أن يمنع ذلك الديوان من متابعة توصياته بنفسه)، وفرض العقوبات على الجهات التي لا تنفّذ الإجراءات التصحيحية (حسب النظام القانوني المُنطِبق، وعندما يكون تطبيق العقوبات جزءًا من صلاحية الجهاز).
  3. التنصيص ضمن القانون المُنظِّم للديوان على تمتُّعه بالسلطات الكافية للوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات اللازمة لمُمارَسة صلاحياته، وذلك للحصول بشكل غير مُقيَّد ومباشر وحرّ، وفي الوقت المناسب، على الوثائق والمعلومات اللازمة كافّة، لأداء مهامّه القانونية على نَحوٍ صحيح. ويُوصى كذلك بترتيب تَبِعات عن حجب معلومات عن الديوان أو تقييده للوصول إلى المعلومات، وأن تكون هذه الإجراءات ردعيَّة ومن صلاحيات الديوان تطبيقها.
  4. التنصيص ضمن القانون المُنظِّم للديوان على نشر تقارير نتائج أعماله الرقابية مع حرِّية تحديد محتوى التقارير ومضمونها وتوقيت نشرها وتوزيعها، وألّا يتمّ تقييدها بأيّ إجراء من السلطتَين التشريعية والتنفيذية (حقّ الديوان في إبداء الملاحظات وتقديم التوصيات في تقاريره الرقابية، مع الأخذ بعين الاعتبار، كلّما كان مناسبًا، ردودَ الجهات المشمولة بالرقابة): ويُعَدّ استثناءً لحرِّية الديوان في تحديد الوقت المناسب لتقاريره الشروط القانونية المتعلّقة بإعداد تقارير الرقابة المالية، أي ختم الميزانية أو التصديق على الحسابات (حسب ما هو مُنطبِق في النظام المالي الوطني). كما يُعَدّ استثناءً لحرِّية تحديد محتوى التقارير الإمكانيّة التي أجازها إعلان مكسيكو في طلب إجراء تحقيقات معيّنة أو رقابة مالية من السلطة التشريعية أو من الحكومة، على ألّا تتجاوز نسبة معيّنة من البَرْمَجَة السنوية للديوان (حسب أفضل المُمارَسات)، باعتبار أنّ إغراق الجهاز الأعلى للرقابة بالطلبات، على جدِّيتها وأهمِّيتها لنظام المُساءَلة والحدّ من الإفلات من العقاب، يمكن أن يمسّ باستقلاليته وأن يقيّد حرِّيته في تحديد أعماله. كما يتوجّب التنصيص ضمن الدستور وضمن قانون الديوان على نشر التقارير (للجمهور) وتقديمها بشكل رسمي للسلطات المُختَصَّة (حسب أفضل المُمارَسات، تُقدَّم التقارير رسميًّا إلى البرلمان وإلى رئيس الدولة وإلى رئيس الحكومة باعتبار مسؤوليتهم في اتِّخاذ الإجراءات التصحيحية الواردة بها في شكل توصيات).
  5. التنصيص ضمن القانون المُنظّم للديوان على صلاحياته وسلطته القانونية في متابعة تقاريره والتأكُّد من أنّ الجهات المشمولة بالرقابة قد عالجت بطريقة صحيحة ملاحظاته وتوصياته. وتكون متابعة التوصيات موضوع تقارير تُعرَض على البرلمان وعلى سلطة الإشراف على الجهة المشمولة بالرقابة للنظر فيها، ويوصى في هذا الخصوص بإسناد صلاحيات فرض العقوبات للديوان بشأن عدم اتِّخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة من الجهات الخاضعة لرقابته.

2- ما هي أهمّ النماذج المُعتمَدة في تكوين مجلس القضاء المالي لضمان استقلاليته؟

يوجد أنموذجان مُعتمَدان في تكوين مجلس القضاء المالي بصفته الهيكل المُخوَّل له التصرُّف في المسارات المهنيّة للقضاة الماليّين:

  • الأنموذج الأوّل: أن يكون مجلس القضاء المالي خاصًّا بمحكمة المحاسَبات (أو الجهاز المُتعلِّق بالقضاء المالي مهما كانت تسميته “الجهاز الأعلى للحسابات” أو “ديوان المحاسبة” أو غيرها من التسميات التي تشمل النظام القضائي المالي) ومنفصلًا عن بقيّة أصناف القضاء (القضاء العدلي والقضاء الإداري).

وهنا نستعرض مثالَين رئيسيَّين يمثّلان هذا الأنموذج وهما: محكمة المحاسَبات الفرنسية، والمجلس الأعلى للحسابات المغربي.

أ‌. مثال محكمة المحاسَبات الفرنسية:

كيف يتكوّن المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات في فرنسا؟

تمّ إحداث المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات بمُقتَضى مجلّة المحاكم المالية Code des juridictions financières، وتحديدًا العنوان الأوّل: المهامّ والتنظيم – العنوان الثاني: التنظيم – القسم الخامس: المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات (الفصل  112-8). كما عُدِّل بالقانون عدد 769 للعام 2006 المؤرَّخ في 1 جويلية / تمّوز 2006.

وتتضمّن تركيبة المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات الفرنسية:

–  الرئيس الأوّل لمحكمة المحاسَبات الذي يترأّسه؛

–  النائب العام لدى محكمة المحاسَبات؛ 

–  ثلاث شخصيّات مُؤهَّلة في المجالات الخاضعة لرقابة المحاكم المالية، لا يمارسون ولاية انتخابية، ويُعَيَّنون لفترة غير قابلة للتجديد، مدّتها ثلاث سنوات على التوالي، بأمر من رئيس الجمهورية ومن رئيس مجلس النوّاب ومن رئيس مجلس الشيوخ؛

–  أربعة قضاة، الأقدم في رتبة رئيس غرفة، باستثناء رؤساء الغرف الذين تمّ استبقاؤهم في النشاط طبقًا للفصل 1 من القانون رقم 86-1304 المؤرَّخ في 23 ديسمبر / كانون الأوّل 1986 المتعلِّق بتحديد سنّ بعض المُوظَّفين المدنيّين في الدولة، وطرق انتدابهم؛

–   تسعة أعضاء مُنتخَبين يمثّلون قضاة محكمة المحاسَبات، كبار المستشارين المُكلَّفين بمهامّ استثنائية، والمقرِّرين الخارجيّين، ويُنتخَب لكلّ منهم مُعوِّض. وتبلغ مدّة ولايتهم ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة. وتُضبَط شروط هذه الانتخابات بأمر.

ويُلاحَظ أنّ أغلبيّة الأعضاء قضاة، وأنّ نسبة الانتخاب تبلغ النصف في هذا المجلس الذي أُسنِدت إليه صلاحيات استشارية (يستشيره الرئيس الأوّل) في جميع المسائل المتعلِّقة باختصاص محكمة المحاسَبات وتنظيمها وعملها، وفي تعديلات الأحكام القانونية المُطبَّقة على القضاة، وكذلك في أيّ مسائل أخلاقية أو إدارية عامة أو فردية لمُمارَسة وظائف القضاة وكبار المستشارين المُكلَّفين بمهامّ استثنائية، والمُقرِّرين الخارجيّين.

ويُبدي المجلس الرأي في التدابير الفردية المتعلِّقة بوضعيّة قضاة محكمة المحاسَبات وترقيتهم، باستثناء المُقترَحات المتعلِّقة بتعيين رؤساء الغرف. كما يُبدي الرأي في مُقترَحات التعيين في منصبَي رئيس ونائب رئيس غرفة جهويّة للمحاسَبات، وكذلك في مُقترَحات تعيين المستشارين الأوائل ورؤساء الأقسام في الغرف الجهويّة بدرجة مستشار مُقرِّر أو مستشار رئيس.

وباستثناء المسائل التأديبية، يجتمع جميع أعضاء المجلس، بغضّ النظر عن المستوى الهرمي للقضاة الذين يتمّ النظر في ملفّاتهم، على أن لا يحضر مُمثِّلو كبار المستشارين المُكلَّفين بمهامّ استثنائية، والمُقرِّرين الخارجيّين عند اجتماع المجلس لإبداء الرأي المنصوص عليه في الفقرة السابقة.

وعندما تُثار حالة وضعية أحد أعضاء المجلس الأعلى المُنتخَبين في أثناء النظر في مسألة مُدرَجة في جدول الأعمال، لا يحضر الجلسة القاضي أو المستشار المُكلَّف بمهمّة استثنائية أو المُقرِّر الخارجي المعنيّ، ويحلّ نائبه محلّه.

وتجدر الإشارة إلى أنّ النظام الأساسي لقضاة محكمة المحاسَبات الفرنسية (الفصل 120-1) نصّ على أنّ لأعضاء محكمة المحاسَبات صفة القضاة، وأنّهم غير قابلين للعزل والنقل.

ولئن لا يُعَدّ المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات في فرنسا مثالًا يُحتذى به في استقلالية المجالس العليا للقضاء المالي، فإنّه من المهمّ استعراضه كمثال باعتبار أنّ تجربة الأجهزة العليا للرقابة في شكل محكمة للمحاسَبات مُشتقَّة أساسًا من المثال الفرنسي.

وتستدعي تركيبة المجلس الأعلى لمحكمة المحاسَبات الملاحظةَ أنّ أغلبيّة هذا المجلس من القضاة ونصفه مُنتخَب، أي إنّ المعايير الدُنيا لتركيبة المجالس القضائيّة بحسب المعايير الدولية لاستقلال القضاء مُحترَمة في هذا المجلس. غير أنّ تعيين أعضاء به من المجالات الخاضعة لرقابة المحاكم المالية من قبل مُمثِّلي السلطتَين التنفيذية والتشريعية يُضعِف من استقلاليته، وإن تمّ اشتراط هذه التعيينات من الشخصيّات التي لا تمارس ولاية انتخابية (أي غير مُنتخَبين في تمثيليّات أخرى، كمجلس النوّاب ومجلس الشيوخ والمجالس المحلِّية وغيرها). واشتُرِطَ كذلك عدم تجديد العضويّة وتحديدها بثلاث سنوات.

ب‌. مثال الجهاز الأعلى للحسابات بالمغرب:

اقتضت مُدوّنة المحاكم المالية بالمغرب، الصادرة بالقانون رقم 62.99 المُتعلِّق بمُدوّنة المحاكم المالية والمُحيَّن وفق آخر التعديلات (2022)، أنّ مجلس قضاء المحاكم المالية يتركّب على النَحو الآتي:

  • الرئيس الأوّل لمجلس قضاء المحاكم المالية؛
  • الوكيل العام للملك؛
  • الكاتب العام للمجلس، الذي يتولّى مهامّ كتابة مجلس قضاء المحاكم المالية؛
  • رئيس غرفة، ينتخبه رؤساء الغرف من بينهم؛
  • رئيس مجلس جهويّ، ينتخبه رؤساء المجالس الجهويّة من بينهم؛
  • مُمثّلان اثنان عن القضاة الذين يزاولون عملهم بالمجلس، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم؛
  • مُمثّلان اثنان عن القضاة الذين يزاولون عملهم بالمجالس الجهويّة، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم.

وتحدَّد بمرسوم كيفيّة انتخاب مُمثِّلي القضاة في مجلس قضاء المحاكم المالية. ولا يحقّ لأيّ عضو في هذا المجلس أن يحضر الجلسة المتعلّقة بالقضايا الخاصة بوضعيته أو وضعية قاضٍ أعلى درجة منه”.

ويلحظ هنا أيضًا أنّ غالبيّة قضاة المجلس ينتخبهم القضاة.

  • الأنموذج الثاني: أن يكون مجلس القضاء المالي مُرتبِطًا بالمجلس الأعلى للقضاء، الذي يضمّ كذلك مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري، في إطار رؤية تتضمّن وحدة الضمانات لجميع مُكوِّنات السلطة القضائية ووحدة الضمانات لجميع القضاة.

وهنا سوف نستعرض المثال المتعلّق بمحكمة المحاسَبات التونسية: مجلس القضاء المالي كهيكل من هياكل المجلس الأعلى للقضاء المحدث بالقانون الأساسي عدد 34 المؤرَّخ في 28 أفريل / نيسان 2016 والمتعلِّق بالمجلس الأعلى للقضاء الذي وُضِعَ على ضوء دستور 2014 قبل إلغائه بالمرسوم عدد 11 للعام 2022 المؤرَّخ في 12 فيفري / شباط 2022، والمتعلّق بإحداث المجلس الأعلى المؤقَّت للقضاء.

ويُعَدّ مثال مجلس القضاء المالي، المُنضوي ضمن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء مع مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري، أنموذجًا لوحدة الضمانات للقضاة بجميع أصنافهم، وكذلك لاستقلالية المجلس الذي يُعَدّ هيكلًا دستوريًّا مُنتخَبًا ومُستقِلًّا وفق المعايير الدولية لاستقلال القضاء، حيث نصّ الفصل الأوّل من القانون الأساسي عدد 34 للعام 2016 على أنّ:

“المجلس الأعلى للقضاء مُؤسَّسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسنَ سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المُصادَق عليها.

يتمتّع المجلس بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي، وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه”.

وفي هذا الإطار، فإنّ مجلس القضاء المالي هيكل من الهياكل الأربعة للمجلس الأعلى للقضاء (المكوّن كذلك من مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري والجلسة العامة التي تمثّل الهيكل الجامع للمجالس القضائية الثلاثة وفق مقتضيات الفصل 8 والفصل 9 من القانون).

تركيبة مجلس القضاء المالي:

يتكوّن مجلس القضاء المالي، وفق القسم الأوّل من القانون المتعلِّق بالمجلس الأعلى للقضاء (تركيبة المجالس القضائية)، وبخاصّة الفصل 12 منه من خمسة عشر عضوًا كما يأتي:

أربعة قضاة مُعيَّنين بالصفة وهم:

– الرئيس الأوّل لمحكمة المحاسبات؛

– مندوب الحكومة العام؛

– وكيل رئيس محكمة المحاسَبات؛

– رئيس غرفة، الأقدم في رتبة مستشار.

– ستّة قضاة مُنتخَبين من نظرائهم في الرتبة كما يأتي: ثلاثة مستشارين، ثلاثة مستشارين مُساعِدين.

– خمس شخصيّات مُستقِلّة من ذوي الاختصاص مُنتخَبين من نظرائهم (محاميان اثنان، وخبيران مُحاسِبان اثنان، ومُدرِّس باحث برتبة أستاذ تعليم عالٍ أو أستاذ محاضر مُختَصّ في المالية العمومية والجباية من غير المحامين).

وتتوافق تركيبة مجلس القضاء المالي ذات الأغلبية المُنتخَبة (11 عضوًا مُنتخَبًا من نظرائهم و4 مُعيَّنين بالصفة) مع المعايير الدولية المتعلِّقة بالمجالس القضائيّة (أغلبيّة مُنتخَبة، والانتخاب يتمّ من قبل النظراء، حتّى بالنسبة إلى المهن الأخرى).

وفي إطار وحدة الضمانات للقضاة التي أقرّها الدستور التونسي للعام 2014، تتطابق صلاحيات المجالس القضائية الثلاثة (العدلي والإداري والمالي)، وكذلك إجراءات وأطر البت في المسارات القضائية للقضاة من الأصناف الثلاثة ووظيفة التأديب للمجلس.

ففي صلاحيات مجلس القضاء المالي (القسم الثاني من قانون المجلس الأعلى للقضاء – صلاحيات المجالس القضائية الثلاثة)، نَصَّ القانون على أنّه يتداول في جميع المسائل الراجعة إليه بالنظر بمقتضى الدستور والقانون، وفي كلّ ما يخصّ سير العمل القضائي في نطاق اختصاصه (القضاء المالي أي محكمة المحاسَبات بجميع هيئاتها)، كما يتولّى ضبط حاجياته في إطار إعداد مشروع ميزانية المجلس الأعلى للقضاء.

3- ما هي النماذج المُعتمَدة في تحديد صلاحيات مجلس القضاء المالي، وبخاصّة بما يتَّصل بضمانات استقلالية القضاة الماليّين؟

هنا نتناول ما ذهب إليه القانون التونسي الذي حدّد صلاحيات مجلس القضاء المالي على النَحو الآتي:

  • بخصوص المسارات المهنيّة للقضاة الماليّين:

يبتّ مجلس القضاء المالي قانونًا في تسميتهم وترقيتهم ونقلتهم، كما يبتّ في مطالب رفع الحصانة، ومطالب الاستقالة والإلحاق والإحالة على التقاعد المبكّر والإحالة على عدم المباشرة وفق أحكام النظام الأساسي[7] (تمّت الإحالة على النظام الأساسي بوصفه نصًّا قانونيًّا مُنفصِلًا عن النصّ المُنظِّم لمحكمة المحاسَبات والنصّ المُنظِّم للمجلس الأعلى للقضاء في النظام التونسي).

ويتمّ البتّ في تسمية القضاة وترقيتهم ونقلهم في إطار حركة قضائية سنوية (مرّة واحدة في السنة في أجل أقصاه موفى جويلية / تمّوز من كلّ سنة) مع إمكانيّة إجراء حركة استثنائية خلال السنة القضائية عند الاقتضاء. ويحدّد مجلس القضاء المالي (كبقيّة المجالس القضائية) احتياجات محكمة المحاسَبات من القضاة والشغورات الحاصلة في الخطط والوظائف القضائية، وينظر في مطالب النقل والترقيات. كما يتولّى إعداد جدول سنوي للترقية وفقًا لأحكام النظام الأساسي، وتُرفَع إليه مطالب الترقية والنقل والترشُّح للخطط والوظائف القضائية، في أجَلٍ أقصاه شهر من تاريخ الإعلان عن قائمة الشغورات. ومن صلاحيات مجلس القضاء المالي، كذلك، البتّ في مطالب الاستقالة والإلحاق والإحالة على التقاعد المبكِّر.

وتضمّن قانون المجلس الأعلى للقضاء ضمانات لاستقلالية القضاة الماليّين، لا سيّما مبدأ عدم نقلة القاضي من دون رضاه، ولو في إطار ترقية. وحدّد الاستثناء في مصلحة العمل بقرار مُعلَّل من مجلس القضاء المالي، وفي حدود ثلاث سنوات. وتكون مصلحة العمل حسب الفصل 48 من القانون لضرورة تسديد شغورات في المحكمة، أو لتوفير الإطار القضائي بمناسبة إحداث دوائر جديدة أو لمجابهة ارتفاع بيِّن في حجم العمل.

كما تضمّن قانون المجلس مبدأ عدم إمكانيّة عزل القاضي المالي من مُباشَرة مهامّه إلّا بموجب قرار مُعلَّل من المجلس الأعلى للقضاء يتمّ نشره في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، ويضبط النظام الأساسي الحالات التي يمكن بمقتضاها إعفاء القاضي.

وخوّل القانون القضاة الماليّين التظلُّم من قرارات مجلس القضاء المالي المتعلِّقة بمسارهم المهني أمام المجلس (وفق الصيغ والإجراءات المنصوص عليها في الفصل 55)، بالإضافة إلى إمكانيّة الطعن في هذه القرارات قضائيًّا ابتدائيًّا أمام المحكمة الإدارية الاستئنافية (الفصل 56)، واستئنافيًّا أمام المحكمة الإدارية العليا (الفصل 57). وبالتالي، فإنّ إخضاع قرارات مجلس القضاء المالي للرقابة القضائية لإيقاف تنفيذها وإلغائها بإجراءات خصوصية منصوص عليها في قانون المجلس الأعلى للقضاء يُعَدّ ضمانةً للقضاة الماليّين.

  • بخصوص التأديب:

ينظر المجلس المالي في تأديب القضاة الماليّين، وله صلاحيات تقريرية في تحديد العقوبات وفق سلّم العقوبات المضبوط بالنظام الأساسي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ قانون المجلس الأعلى للقضاء أرسى نظام الفصل بين سلطة التعهُّد (التفقُّد أو التفتيش) وسلطة البتّ في المادّة التأديبية. لقد أرسى مُؤسَّسة التفقُّدية العامة للشؤون القضائية (لم يتمّ إحداثها إلى غاية إلغاء القانون بالمرسوم عدد 11 للعام 2022 المُتعلِّق بالمجلس المؤقَّت للقضاء)، حيث نصّ على أنّ الشكايات والبلاغات والإعلامات المتعلِّقة بالأفعال المنسوبة إلى أحد القضاة، والتي من شأنها أن تكون سببًا في تحريك المُساءَلة التأديبية توجّه إلى رئيس المجلس الذي يحيلها وجوبًا، وعلى الفور، إلى التفقُّدية العامة للشؤون القضائية لإجراء الأبحاث اللازمة (ويمكن للمُتفقِّد العام أن يتعهّد بها من تلقاء نفسه). وعند انتهاء الأبحاث، يتولّى المُتفقِّد العام اتّخاذ قرار مُعلَّل، إمّا بالحفظ أو بالإحالة.

وأقرّ القانون إجراءات كتابية، والإعلام في كلّ مراحل المسار التأديبي للقاضي المعني مع الإشعار بالبلوغ (مراسلة مضمونة الوصول)، كما أقرّ تعيين قاضٍ مُقرِّر من بين أعضاء مجلس القضاء المالي من قبل رئيسه، يتولّى إجراء الأبحاث اللازمة، ويستدعي القاضي المعني، ويتلقى جوابه ومُؤيّداته ودفوعاته، كما يمكنه سماع كلّ من يرى فائدة في سماعه، ويحرّر تقريرًا مُفصَّلًا في أعماله يحيله إلى رئيس مجلس القضاء المالي المنتصب للتأديب، الذي يدعو إلى انعقاد جلسة. يستدعي المجلس القاضي المحال، ويدعوه إلى المثول أمامه. كما للقاضي المعنيّ الحقّ في الاطِّلاع على جميع أوراق الملفّ قبل موعد الجلسة، وتُسلَّم إليه نسخة منها بناءً على طلبه، ويمكنه طلب التأخير للاطِّلاع وإعداد وسائل الدفاع، وله الاستعانة بقاضٍ أو بمحامٍ (الحقّ في الدفاع مكفول).

وتصدر قرارات مجلس القضاء المالي في المادّة التأديبيّة بأغلبيّة الأعضاء الحاضرين، وتكون مُعلَّلة؛ وفي صورة تساوي الأصوات يُرجِّح صوت الرئيس؛ ويقرّر المجلس، في صورة ثبوت الخطأ الموجِب للتأديب (سلطة تقريرية)، العقوبة المناسبة للأفعال المُرتكَبة من بين سُلَّم العقوبات الوارد في النظام الأساسي. ويمكن الطعن في القرارات التأديبية طبق الصيغ والإجراءات والآجال نفسها الواردة في قانون المجلس الأعلى للقضاء (التظلُّم أمام المجلس القضائي، والطعن قضائيًّا ابتدائيًّا أمام المحكمة الإدارية الاستئنافية واستئنافيًّا أمام المحكمة الإدارية العليا) من طرف من صَدَرَ ضدّه القرار، أو المُتفقِّد العام للشؤون القضائية.

وإذا كانت الأفعال المنسوبة إلى القاضي تشكّل جنحة مُخِلَّة بالشرف أو جناية، فإنّ مجلس القضاء المالي يتَّخذ قرارًا مُعَلَّلًا بإيقافه عن العمل، في انتظار البتّ في ما يُنسَب إليه، ويُحال الملفّ فورًا إلى النيابة العمومية لاتّخاذ ما تراه صالحًا من إجراءات.

وعليه، يتبدّى أنّ لمجلس القضاء المالي صلاحيات شاملة وواسعة بشأن تحديد الحاجيات من القضاة ومساراتهم المهنيّة والتأديب، مع خضوع قراراته لمبدأ المواجهة والإعلام والدفاع والطعن فيها، إداريًّا وقضائيًّا؛ وتكون قراراته مُعلَّلة وجوبًا في مجال التأديب وفي مجال النقلة لمصلحة العمل. 

4- ما هي المهامّ التي يجدر أن تُناط وفق الممارسات الفُضلى برئيس الجهاز الأعلى للرقابة، والتي تراعي التوازن الضروري بين فعالية الجهاز وسرعة قراراته والاستقلالية الداخلية للقضاة الماليّين والحؤول دون نشوء هرميّة تؤثّر في استقلاليتهم “الداخلية”؟

تنقسم مهامّ رئيس محكمة المحاسَبات (الجهاز الأعلى للرقابة ذو الطبيعة والوظائف القضائية) إلى مجالَين اثنَين حسب التجارب المقارَنة:

المجال الأوّل: مهامّه كرئيس لمجلس القضاء المالي (بالصفة أو بالانتخاب حسب النظام الوطني المُعتمَد) والتي تمّ بيانها في تقديم ضمن نماذج المجالس القضائية للقضاء المالي.

المجال الثاني: مهامّه كرئيس للمحكمة والتي نبيّنها في ما يأتي:

تشمل مهامّ رئيس محكمة المحاسَبات مهامّ تنظيمية تتعلّق بالتصرُّف في الشؤون الإدارية والمالية للمحكمة (يساعده فيها عادةً كاتب عام – أمين سرّ – حسب التجارب المُقارنة)، بالإضافة إلى مهامّ تشمل مهامّ وصلاحيات المحكمة، ومنها الرقابي والقضائي:

– المهامّ المتعلِّقة بالأعمال الرقابية:

يترأّس رئيس المحكمة الهيكل المُكلَّف بالمُصادَقة على البرمجة السنوية والمُصادَقة على التقرير (المُسمّى تقريبًا في التجارب المقارنة كافّة لجنة التقرير والبرمجة)، ويدعو إلى جلسات هذا الهيكل ويعرض عليه البرنامج السنوي لأعمال المحكمة للمُصادَقة قبل إحالتها على الجلسة العامة (الجمعيّة العامة). وكذلك بالنسبة إلى التقرير السنوي والتقارير الخصوصية، فهو يعرضها على لجنة التقرير للنظر فيها والمُصادَقة قبل إحالتها على الجلسة العامة للمُصادَقة. كما يترأّس رئيس المحكمة الجلسة العامة، وهي الهيئة الأعلى في المحكمة وذات صلاحيات تقريرية في مجال التنظيم والميزانية والبرمجة والمصادقة على التقارير، ويمكنه أن يحيل عليها كلّ مسألة يرى فيها فائدة للنظر فيها (كالمُخطَّط الإستراتيجي، وبرامج التعاون، ومشاريع القوانين، ومشاريع أدلّة الإجراءات).

– المهامّ المتعلِّقة بالأعمال القضائية:

حسب النظام المُعتمَد، يتولّى رئيس المحكمة توزيع الملفّات القضائية على الدوائر ويحيلها عليها وفق اختصاص هذه الدوائر الموضوع مُسبَقًا، كما يتولّى إحالة الشكايات والإحالات في مادّة الزجر المالي على الدائرة المُختَصَّة للنظر فيها (وتُحتَسَب الآجال منذ الإحالة) وكذلك يمكن للرئيس (أو النائب العام حسب النظام القانوني المُعتمَد) تعهيد القضاء العدلي بالملفّات ذات الطابع الجزائي. وفي بعض الأنظمة، يبلّغ رئيس محكمة المحاسَبات الأحكام للمتقاضين (الإمضاء والنسخ الأصلية والإعلام بالأحكام)، ويترأّس الهيئة التعقيبية الأعلى درجة في التقاضي لدى محكمة المحاسَبات، والتي تُعَدّ الطور الأخير في التقاضي لتصبح الأحكام باتَّةً بعدها.

-المهامّ التنظيمية: تعنى بالتصرُّف في الشؤون الداخلية للمحكمة، وتتعلّق أساسًا بالتسيير الإداري والمالي للمحكمة

وللحؤول دون نشوء هرميّة في مهامّ رئيس محكمة المحاسَبات، يقع توزيع المهامّ بينه وبين الكاتب العام (أمين السرّ) إن كان ذلك مُنطبِقا (التصرُّف الإداري: التنظيم الداخلي للمصالح والإدارات/ العطل/ الميزانية/ الأجور/ … والمجالات القضائية المتعلِّقة بتبليغ الأحكام القضائية بعد صدورها بوصفها مسألة إدارية)، وبينه وبين رؤساء الهيئات القضائية المُنتصبة في ما يتعلّق بالمهامّ القضائية (تبليغ دعوات الجلسات الحكمية، وتبليغ تقارير التحقيق وقبول تقارير المحامين، والإعلام بالنيابة وغيرها)، وبينه وبين النائب العام في المهامّ القضائية (إحالة الملفّات الجزائية على محاكم الحقّ العام/ قبول الشكايات في مادّة الزجر المالي/ قبول التبليغ عن المخالفات والإخلالات من المبلّغين عن الفساد ومن الإدارات والأشخاص…). ويتمّ التنصيص على توزيع المهامّ المذكورة في القانون المُنظِّم للمحكمة، وكذلك في أدلّة الإجراءات المُعتمِدة على نصّ القانون.

5- هل يجدر اعتماد ضمانات الاستقلالية نفسها الخاصّة بالمسارات المهنيّة للقضاة الماليّين بالنسبة إلى القضاة الإداريّين والعدليّين؟ ما هي أفضل طرق تعيين القاضي المالي (مباراة مفتوحة)؟ هل ينطبق مبدأ عدم نقل القاضي على القاضي المالي أيضًا؟

أهمِّية وحدة الضمانات للقضاة في تحقيق استقلال القضاء:

أرست المعايير الدولية لاستقلال القضاء المبادئ الأساسية لاستقلال القضاة. وما يؤخذ من هذه الأحكام أنّ المعايير الدولية أسّست قاعدة مبدئية مفادها أن يتمتّع القضاة كافّة، بجميع أصنافهم، بضمانات الاستقلالية نفسها، ولهم الحقوق والواجبات نفسها من دون أيّ تمييز بينهم، باعتبار أنّ صفة القاضي في هذه المبادئ الأساسية كانت جامعة للأصناف كافّة من دون تمييز أو تفريق.

وبقراءة متكاملة للمعاهدات والمواثيق الدولية المتعلِّقة باستقلال القضاء، فإنّ التوجّه نحو وحدة ضمانات الاستقلالية المكفولة للقضاة في الأنظمة الوطنية، في خصوص حقوقهم وواجباتهم والنظام التأديبي الخاضعين له، هو التوجُّه الأجدى والمُكرَّس لاستقلاليتهم، من دون أن يمنع ذلك من إقرار الخصوصية التي يتميّز بها كلّ صنف من الأصناف في مُمارَسة الوظائف.

ويمكن إقرار وحدة الضمانات من خلال تصوُّر مُتكامِل للسلطة القضائية عبر إفرادها ببابٍ للسلطة القضائية في الدستور، وكذلك عبر إقرار مُؤسَّسة مُستقِلّة وجامعة تشرف على القضاء بأصنافه كافّة، وهي مُؤسَّسة المجلس الأعلى للقضاء، من دون أن يمنع ذلك من احترام خصوصية كلّ قضاء بتخصيصه بهيكل فرعي يعمل داخل إطار الوحدة، كما يقوم على وحدة الضوابط الدستورية لوظيفة القاضي والشروط العامة لمُمارَسة مهنة القضاء (الكفاءة/النزاهة/الحياد/المُساءَلة) لأصناف القضاء كافّة، من دون أن يمنع ذلك من احترام خصوصية المسارات المهنيّة للقضاة داخل كلّ صنف قضائي. وفي ضمان وحدة القضاء مع المحافظة على خصوصية كلّ صنف منه تكريسٌ لنظام قانوني للقضاء يؤسِّس لسلطة قضائية قويّة ومُوحَّدة وقادرة على إقامة العدل، وإنفاذ القانون على الكافّة، والقيام بدورها داخل النظام الديمقراطي.

ولعلّ هذا التوجُّه يجد مُبرّراته أيضًا في مضامين النظام الأساسي نفسه (النصّ القانوني المُنظِّم لحقوق القضاة وواجباته) والذي ينظّم في القسم الأكبر منه حقوق القضاة (ضمانات، وحصانة، وظروف عمل، وأجر، وتغطية اجتماعية، ومساواة في المسار الوظيفي، وحقّ في التكوين المُستمِرّ…) وكذلك واجباتهم (الحياد والكفاءة والنزاهة، وتجنُّب تضارب المصالح، وعدم مُمارَسة أيّ نشاط سياسي، وعدم مُمارَسة أيّ نشاط بمقابل، والتصريح بالمكاسب، وواجب تحسين القدرات والمهارات المهنيّة….) ومساراتهم المهنيّة التي تُعَدّ، في كلّ ما يهمّ النقلة، والإلحاق، والإحالة على عدم المباشرة، والعزل، والعطل، والتقاعد، مُشترَكة بين جميع القضاة بأصنافهم كافّة، بما يجعل من غير المُجدي تنظيم هذه المسائل المتطابقة في ثلاثة أنظمة أساسية مختلفة تشتِّت القوانين وتتعارض مع  الذوق القانوني السليم، من دون أن ينفي ذلك تضمُّن النظام الأساسي للقضاة أقسامًا خاصة بكلّ صنف قضائي لتنظيم كلّ ما يهمّ المسائل التي يتفرّد بها كلّ صنف، بخاصَّة في ما يهمّ المسارات المهنيّة للقضاة بخصوص التكوين، والتسمية، والرتب، والتدرُّج، والترقية والتقييم.

وفي جميع الحالات، ولتكريس استقلالية تامّة للقضاة الماليّين بما يضمن أداءهم لمهامّهم في الرقابة على شرعية أعمال الحكومة وحسن التصرُّف في المال العام، فإنّه من الضروري منحهم الضمانات نفسها كبقيّة القضاة من الصنفَين العدلي والإداري (سواء أكان ذلك في نصّ جامع ومُوحَّد أم في قانون تنظيم محكمة المحاسَبات) وبخاصّة:

–  ضمانات الاستقلاليّة (عدم النقلة من دون رضاهم، وعدم العزل إلّا في إطار إجراءات قانونية شفّافة تضمن الحقّ في الدفاع)، والحصانة، والحماية الجزائية، وضرورة تطوير ظروف العمل؛ بالإضافة إلى الأجر، والتغطية الاجتماعية، والمساواة في المسار الوظيفي، والحقّ في التكوين المُستمِرّ، وحرِّية التعبير، والحقّ في التنظيم ضمن جمعيّات مهنيّة؛

–  وحدة الضمانات في ما يتعلّق بالمسار المهني للقاضي المالي والتي تشمل مراحل ذلك المسار كافّة من تعيين، وتسمية، وتكوين أساسي وتكميلي، وتقييم، ونقلة، وإلحاق، وإحالة على عدم المباشرة، وعزل، وتفقُّد، وتأديب، وعطل وتقاعد؛

–   الحدّ من تدخُّل السلطة التنفيذية في المسار المهني للقضاة الماليّين في ما يتعلَّق بمرحلتَي التعيين والتكوين عبر وضع تصوُّر لمسار التعيين والتكوين يتضمّن جملةً من المحاذير والضمانات التي تحدّ من تدخُّل السلطة التنفيذية، وتعزِّز دور المجلس الأعلى للقضاء كمُؤسَّسة مُستقِلّة ضامنة لحسن سير القضاء واحترام استقلاله في هاتَين المرحلتَين الأساسيّتَين والمفصليّتَين والمُحدَّدتَين لكامل مسيرة القاضي المالي؛

–  العمل على التنصيص على الضمانات كافّة، التي من شأنها أن تكفل تكوينًا أساسيًّا ومُتواصِلًا للقضاة الماليّين يعزّز قدراتهم المهنيّة، ويضمن لهم التخصُّص والاستقلالية والحياد والنزاهة كأهمّ مُقوِّم من مُقوِّمات المحاكمة العادلة؛

–  تفعيل ضمانات استقلالية القاضي المالي في مواجهة السلطة التنفيذية والتشريعية، وكذلك في مواجهة جميع الضغوطات الأخرى التي يمكن أن تُمارَس عليهم من أيّ جهة كانت، بما في ذلك المجلس الأعلى للقضاء والتفقُّديّة العامة للشؤون القضائية وبقية القضاة أنفسهم، وذلك بتعزيز ضمانات الاستقلالية منذ تعيين القاضي إلى حين مغادرته القضاء والخروج إلى التقاعد في كامل مراحل مساره المهني؛ وتشمل هذه الضمانات:

  • اختيار القضاة الذين يجب أن يكونوا أفرادًا مشهودًا لهم بالنزاهة والمقدرة
  • أن يكونوا حاصلين على مُؤهّلات مناسبة، وأن يكفل للقضاة برنامج تكوين أساسي يشكّل حماية لهم من التوظيف القضائي لدوافع غير مناسبة؛
  • ضمان الممارسة القضائية حتّى سنّ التقاعد في مأمن من تدخُّل السلطة التنفيذية، أو أيّ سلطة أخرى، سواء بأسلوب خياري أو تعسُّفي، بتفعيل مبدأ عدم قابليّة القاضي للعزل وتدقيق مفهوم العزل وتمتيع القاضي بالحصانة؛
  • التنصيص على الحقّ في مُمارَسة النشاط الجمعياتي وحرِّية التعبير والاجتماع والتنقُّل؛
  • الأمان المالي، بمعنى الحقّ في الراتب والمعاش الذي يقرّه القانون، والذي لا يخضع لأيّ تدخُّل تعسُّفي من قبل السلطة التنفيذية بأسلوب من شأنه التأثير في الاستقلال القضائي؛
  • وضع سلّم موضوعي للتدرُّج الوظيفي وللترقيات، حتّى لا يستعمل المسار المهني للقاضي للضغط عليه أو التأثير في أحكامه؛
  • التنصيص على واجب عدم مُمارَسة أيّ نشاط سياسي، وعدم الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وتجنُّب حالات التنافي بين صفة القاضي والترشُّح لنيابة انتخابية سياسية؛
  • وضع سلّم تقييم مُتكامِل لأداء القاضي يعتمد على معايير مُعلَنة وموضوعة مُسبَقًا وقابلة للقياس، لضمان المساواة بين جميع القضاة وتجنُّب استعمال آليّة التقييم للضغط على القاضي أو التدخُّل في عمله؛
  • تفعيل المُساءَلة والمُحاسَبة في صورة الإخلال بمبدأ الاستقلالية.

وحسب التجارب المقارنة، تبقى أفضل الطرق المُعتمَدة لتعيين القضاة الماليّين (وكذلك القضاة من الأصناف الأخرى) المناظرةُ أو المباراةُ المفتوحة من الاختصاصات المراد الحصول عليها في الصنف القضائي. ولئن اعتمدت بعض الأنظمة لمحاكم المحاسَبات – فضلًا عن المناظرة المفتوحة – مناظرة مُوجَّهة لأصناف بعينهم من الإطارات الإدارية المُختَصَّة (كأعوان وزارة المالية بأقدميّة معيَّنة أو مُراقِبين بأقدميّة معيَّنة)، فإنّ هذا التعيين لا يقطع موضوعيًّا مع عقلية المُوظَّفين التابعين لمرؤوسيهم، ويصعب معها (بشكل خاصّ بأقدميّة معيَّنة في النظام الإداري الرئاسي والهرمي) التأسيس لاستقلالية القاضي المالي. كما أنّ مباراة التعيين المُوجَّهة لإطارات الإدارة لا تضمن تحفيز هؤلاء القضاة.

6- ما هي المُمارَسات الفُضلى بشأن النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة؟ هل يُعيَّن أعضاؤها من فئة القضاة الماليين نفسها أو من فئة مختلفة؟ وأيّ الصلاحيات يجدر منحها إيّاها؟

تضمَّنَ المبدأ 50 لمنظّمة الإنتوساي “مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة”، وبخاصّة الفقرة 2.2 منه، القائمة بالمهامّ القضائية في الجهاز الأعلى للرقابة، حيث تقتضي مُمارَسة المهامّ القضائية مجموعة من الوظائف الأساسية تتمثّل في ما يأتي:

– المُحقِّقون:

يتعلّق الأمر بأعضاء الجهاز الأعلى للرقابة (بما في ذلك الوكيل العام، عند الاقتضاء) الذين يُكلَّفون بإنجاز التحرِّيات (اكتشاف وتحليل الأفعال التي قد تشكّل مخالفات) إلى غاية تحرير التقارير التي قد تُسفِر عن فتح تتبُّعات قضائية. واعتبارًا لذلك، يجب عدم مشاركة هؤلاء المُحقِّقين في إصدار المقرّرات القضائية.

– “القاضي المالي” أو  “العضو في هيئة قضائية”:

هم أعضاء الجهاز الأعلى للرقابة المُؤهَّلون لإصدار المقرَّرات القضائية، سواء في المرحلة الابتدائية أو في حالة الطعن. ويحدّد التشريع الوطني نظامهم الأساسي، لا سيّما شروط استقلاليتهم وضماناتها.

– الوكيل العام أو مساعد الوكيل العام عندما ينصّ القانون على ذلك:

تتكوّن النيابة العامة من عضو أو أكثر، وتتمثّل مهمّتها في الدفاع وحماية المصلحة العامة والتطبيق السليم للقانون. وتوضَع هذه المُؤسَّسة لدى الجهاز الأعلى للرقابة المُسنَدة إليه مهامّ قضائية، أو على صعيد فروعها القضائية. ويمكن أن تُسنَد إليها سلطة إجراء التحرِّيات والأبحاث التمهيدية. ويتمتّع مُمثِّل النيابة العامة بالاستقلالية في علاقته بهيئات الحكم، كما لا يشارك في إصدار المُقرَّرات القضائية، بل يتدخّل فقط في مرحلة المتابعة، ولاحقًا من أجل عرض رأيه بشأن المُقرَّر القضائي المراد إصداره.

وتُعَدّ النيابة العمومية لمحكمة المحاسَبات (وكيل الدولة العام أو النائب العام، فقد تختلف التسميات حسب النظام القضائي الوطني) حسب التجارب المقارنة، الجهة المسؤولة عن التتبُّعات أمام المحكمة، والحرص على سلامة الإجراءات ومشروعيتها، وضمان الحقّ في الدفاع للمتقاضين أمام المحكمة. كما تحدّث التوازن مع الجهة الحكميّة (الدائرة أو الهيئة الحكميّة) بتقديمها ملاحظات كتابية طيلة مسار التقاضي (تقرير ختم التحقيق – ملفّات القضيّة – التقرير من أجل إصدار حكم ابتدائي أو استئنافي أو تعقيبي حسب أطوار التقاضي التي يقرّها القانون الوطني).

وتتباين التجارب بشأن النيابة العامة لدى محكمة المحاسَبات:

فثمّة تجارب تُعَدّ التعيينات والتسميات فيها جزءًا من المسار الوظيفي للقضاة الماليّين (ترشُّحات لخطط قضائيّة تعرض مثلها، كما في حال رئيس دائرة والوكيل العام، بحيث تعادل رتبتهما وصلاحياتهما تلك الخاصّة برئيس المحكمة أو تقاربها لتحقيق التوازن). وهذه هي التجربة المُعتمَدة في فرنسا والمغرب والجزائر وتونس والسنغال، وفي أغلب الدول ذات الأجهزة العليا للرقابة وفق النظام القضائي.

في المقابل، ثمّة تجارب أخرى تُعَدّ النيابة العمومية فيها جهازًا يتمّ التعيين فيه حصريًّا بالإلحاق (المسقط) من بين القضاة العدليّين أو الإداريّين (الكونغو الديمقراطية مثلًا، والكاميرون، والنيجر، ودول أفريقية أخرى)، وهي تجارب تستند في الواقع إلى كون “دائرة أو غرفة المحاسَبات” La chambre des comptes شكّلت (ولا تزال إلى اليوم بالنسبة إلى الكاميرون وسواها، في حين أُقِرَّت حديثًا محكمة محاسَبات مُستقِلّة عن القضاء العدلي في كلّ من الكونغو الديمقراطية والنيجر) جزءًا من المحكمة العليا La cour suprême (إلى جانب القضاء الإداري الذي يمثّل دائرة من دوائر المحكمة العليا أيضًا). وتعود هذه الوضعية، في التجارب المذكورة، إلى النظام القضائي الوطني الذي يضمّ تاريخيًّا القضاء المالي والقضاء الإداري كدوائر مُتخَصِّصة ضمن المحكمة العليا، وباعتبار صعوبة تطبيق معايير الاستقلالية لمنظّمة الإنتوساي من قبل هذه الدوائر، بخاصّة المتطلّبات التنظيمية منها (تعيين الرئيس والأعضاء – الميزانية – نشر التقرير وسواها)، فقد شرعت هذه الدول، بدعم من الإنتوساي، في تأسيس محاكم محاسَبات مُستقِلّة عن المحكمة العليا، ولم يبقَ منها سوى القليل كجزء من المحكمة العليا. وهذه هي التجارب الوحيدة التي بقي فيها أعضاء النيابة العمومية قضاةً عدليّين أو مُلحَقين من القضاء الإداري، ولم تُثبِت هذه التجربة نجاعتها من حيث عدد الإحالات ونسبة التتبُّعات والحدّ من الإفلات من العقاب ومكافحة الفساد، بل كان أغلبها تعيينات في شكل مكافآت نهاية الخدمة أو ترقية مُستحَقَّة للقاضي العدلي أو الإداري، من دون برنامج أو اندماج في القضاء المالي وفي وظيفته في النظام الديمقراطي.

وبالتالي، فإنّ التوصية تتّجه نحو اعتبار النيابة العمومية لدى محكمة المحاسَبات جزءًا لا يتجزّأ منها. وباعتبار أنّنا أسّسنا لوحدة الضمانات للقضاة كافّة، ولتمتُّع القضاة الماليّين بضمانات الاستقلالية كغيرهم من القضاة العدليّين والإداريّين، يكون من الأجدى تسمية أعضاء النيابة العمومية لدى محكمة المحاسَبات من القضاة الماليّين، للاستفادة من الخبرات التي سيتولّون تحصيلها طيلة مسارهم المهني قبل البلوغ إلى هذه الخطّة وتوظيفها في نجاعة التتبُّعات وإحكام استعمال الإجراءات نحو المُساءَلة والمحاسبة.

ومن الحريّ أيضًا أن تُسنَد إلى النيابة العمومية لدى محكمة المحاسَبات:

–  صلاحية إثارة التتبُّعات من دون أن تكون مُقيَّدة بإثارتها من قبل طرف ثالث (كالرئيس المباشر للعون الإداري أو الوزير أو أعضاء البرلمان)؛

– صلاحية التحقيق في الشكايات المعروضة عليها والتبليغ عن الفساد (في صورة العكس تكون مُجرَّد صندوق بريد يتقبّل الشكايات من خارج المحكمة وليس لها أيّ سلطة للتحقُّق من مضمونها، وتحيلها إلى الدوائر التي قد تقرّر بَرمَجَة مهمّات ميدانية حول الموضوع، أو ترى أن لديها أولويات أخرى فلا يحقّق فيها أحد)؛

–  صلاحية السهر على سلامة الإجراءات القانونية أمام المحكمة في المجال الرقابي (إبداء رأيها في التقارير قبل المُصادَقة عليها، ويُعَدّ ذلك أيضًا حلقة من حلقات الجودة لتقارير المحكمة)، وفي المجال القضائي (إبداء ملاحظاتها في كلّ مراحل التقاضي من تقرير القاضي المُقرِّر إلى تقرير التحقيق إذا ما كان التحقيق مُنفصِلًا عن النيابة، إلى التقرير من أجل إصدار حكم المعروض على الهيئة الحكمية، كما يجب أن يكون حضور النيابة العمومية للجلسة الحكمية شرطًا شكليًّا لصحَّتها).

7- ما هي المُمارَسات الفُضلى في كيفيّة وضع التقرير السنوي لديوان المحاسبة (تشاركية، كيفيّة إقراره، تمكين القضاة من إبداء التعليقات عليه…)؟

تضمَّنَ إعلان مكسيكو بشأن الاستقلالية 10 INTOSAI P، ضمن مبادئه، حقّ وواجب إعداد التقارير بشأن أعمال الأجهزة العليا للرقابة، بالإضافة إلى حرِّية تقرير محتوى تقارير الرقابة وتوقيتها ونشرها وتوزيعها. وباعتبار أنّ إطار التوجيهات والإصدارات المهنيّة لمنظّمة الإنتوساي قد تضمّن، في عديد من المواضع، متطلِّبات وتوجيهات حول إعداد التقارير ونشرها ومتابعتها، نقدّم في ما يأتي أهمّ المُتطلِّبات التي وردت في المبدأ 12 INTOSAI P: “قيمة ومنافع الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة – إحداث الفارق في حياة المواطنين” وبكلّ من المعيار الدولي ISSAI 100: “المبادئ الأساسية لرقابة القطاع العام”[8] والمعيار الدولي ISSAI 300: “مبادئ رقابة الأداء”[9].

ويعتبر المبدأُ 12 الإعلانَ عن نتائج الرقابة (إعداد التقرير ونشره) مرحلة جوهرية في مسار المُساءَلة. فما إن يتمّ الإعلان عن نتائج الرقابة التي يقوم بها الجهاز الأعلى للرقابة، حتّى يكون المواطن مُخوَّلًا مُساءَلةَ المسؤولين عن الموارد العامة. وبهذه الطريقة تعمل الأجهزة العليا للرقابة على الارتقاء بكفاءة ومُساءَلة وفعالية وشفافية الإدارة الحكومية (وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 209A/66/). وبالتالي، فإنّ من شأن الجهاز الرقابي الذي يتَّصف بالاستقلالية والفعالية والمصداقية أن يكون أحد المُكوِّنات الضرورية في أيّ نظام ديمقراطي، حيث تشكّل المُساءَلة والشفافية والنزاهة أجزاءً لا غِنًى عنها في أيّة ديمقراطية مُستقِرّة.  

الرسم البياني عدد 2: المبادئ الِاثنا عشر لقيمة الأجهزة العليا للرقابة ومنافعها، ولإحداث الفارق في حياة المواطن

المصدر: المبدأ  INTOSAI P 12 – منظّمة الإنتوساي

وبالاستناد إلى المبدأ الرابع من 12 INTOSAI P،  ينبغي للجهاز الأعلى للرقابة التبليغ عن نتائج الرقابة، وبالتالي تمكين الجمهور من مُساءَلة هيئات القطاع الحكومي والقطاع العام؛ حيث ينبغي للأجهزة العليا للرقابة تقديم تقرير موضوعي يتّسم بالبساطة والوضوح، وذلك باستخدام لغة يفهمها جميع أصحاب المصلحة. كذلك، على الأجهزة العليا للرقابة أن تنشر تقاريرها علانية، وفي توقيتات مُحدَّدة، وأنّ تسهِّل على أصحاب المصلحة الاطِّلاع على تقاريرها باستخدام أدوات التواصل المناسبة.

وقد وردت المُتطلِّبات المفصَّلة عن إعداد التقارير وصياغتها ونشرها ومتابعتها في المعيار ISSAI 100؛ بحيث اقتضت الفقرة 51 منه، المتعلِّقة بإعداد التقرير والمتابعة، وجوب إعداد تقرير يستند إلى الاستنتاجات التي توصّل إليها المُدقِّقون، باعتبار أنّ عمليّة الرقابة تنطوي على إعداد تقرير، لإطلاع أصحاب المصلحة والمسؤولين عن الحَوْكَمَة والجمهور على نتائج الرقابة. كما يهدف إعداد التقرير إلى تسهيل المتابعة والإجراءات التصحيحية، وقد يشمل ذلك، بالنسبة إلى الأجهزة العليا للرقابة، كدواوين المحاسبة ذات السلطة القضائية، إصدارَ تقارير أو قرارات قضائية مُلزِمة قانونًا للجهات الخاضعة للرقابة.

ومن مُقتضَيات صياغة التقارير أن تكون سهلة الفهم، وخالية من الغموض أو الإبهام، وشاملة؛ كما يجب أن تكون موضوعية وعادلة، وألّا تتضمّن سوى المعلومات التي تؤيّدها أدلّة رقابة كافية ومناسبة، وأن تضمن وضع النتائج في إطارها وسياقها الصحيح. ويعتمد شكل التقرير ومضمونه على طبيعة الرقابة والمُستخدَمين المُستهدَفين، والمعايير المعمول بها، والمُتطلِّبات القانونية. ويمكن أن يحدّد تفويض الجهاز الأعلى للرقابة والقوانين أو الأنظمة الأخرى المعنيّة تصميم التقارير أو صياغتها.

الرسم البياني عدد 3: مُتطلِّبات مضمون التقرير حسب طبيعة الرقابة

وبالنظر في مُتطلِّبات إعداد تقارير رقابة الأداء كأنموذج عن التقارير التي يعدّها الجهاز الأعلى للرقابة، فإنّ المعيار 300 ISSAI يقدّم تفاصيل عمليّة ومهمّة بخصوص مضمون التقرير وتوزيعه.

بالنسبة إلى مضمون التقرير، تقتضي مُتطلِّبات المعيار الدولي تقديم تقارير رقابة شاملة، ومُقنِعة، وفي الوقت المناسب، وسهلة القراءة ومتوازنة. ولكي يكون التقرير شاملًا، يجب أن يتضمّن جميع المعلومات اللازمة لتناوُل موضوع الرقابة وأسئلتها، وأن يكون مُفصَّلًا بالقدر الكافي لتقديم فهم لموضوع الرقابة والنتائج والاستنتاجات. ولكي يكون التقرير مُقنِعًا، لا بدّ من أن يكون مُنظَّمًا تنظيمًا منطقيًّا وأن يعرض علاقة واضحة بين هدف الرقابة ومعاييرها ونتائجها واستنتاجاتها وتوصياتها، كما يجب أن يتناول جميع الحجج المعنيّة. وفي رقابة الأداء، يبلغ المُدقِّقون نتائجهم بشأن مدى الاقتصاد والكفاءة في الحصول على الموارد واستخدامها ومدی فاعلية تحقيق الأهداف. وقد تتباين التقارير تبايُنًا كبيرًا في نطاقها وطبيعتها، كتقييم مدى سلامة استخدام الموارد مثلًا، والتعليق على تأثير السياسات والبرامج والتوصية بتغييرات تهدف إلى تحقيق التحسينات.

ويجب أن يوضح التقرير سبب وكيفيّة إعاقة المشكلات المشار إليها نتائجَ الأداء، وذلك لتشجيع الهيئة الخاضعة للرقابة أو مُستخدِم التقرير على اتِّخاذ الإجراء التصحيحي. ويجب، عند اللزوم، أن يتضمّن توصيات لتحسين الأداء. كذلك، يجب أن يكون التقرير واضحًا ومُقتضَبًا بالقدر الذي يسمح به موضوع الرقابة، وأن يُصاغ بلغة بعيدة عن الغموض. كما ينبغي، بوجه عام، أن يكون بنّاءً وأن يسهم في تحسين المعرفة ويبرز أيّة تحسينات ضرورية.

أمّا بخصوص توزيع التقرير، فقد اقتضى المعيار 300 ISSAI نشر التقارير على نطاق واسع، وفقًا لتفويض الجهاز الأعلى للرقابة. وباعتبار أنّه يمكن لتوزيع تقارير الرقابة، على نطاق واسع، أن يعزِّز مصداقية مهمّة الرقابة، فقد اقتضى المعيار توزيع التقارير على الهيئات الخاضعة للرقابة والهيئة التنفيذية و/أو الهيئة التشريعية، وأن تُتاح، كلّما كان ذلك مُناسِبًا، للجمهور بصورة مباشرة ومن خلال وسائل الإعلام، وأن تُتاح لأصحاب المصلحة المعنيّين الآخرين.

أمّا على مستوى إقرار التقرير بالجهاز الأعلى للرقابة (ديوان المحاسبة)، فإنّه ينبغي لإجراءات إعداده وإقراره والمُصادَقة عليه أن تكون مُبيَّنة في قانون تنظيم الديوان. وحسب معايير منظّمة الإنتوساي، وكذلك أفضل الممارسات الرقابية بالأجهزة العليا، تخضع عملية الرقابة للمبادئ التالية، منها التنظيمية (أو العامة) والخصوصية (أو المُتعلِّقة بعمليّة الرقابة نفسها): 

الرسم البياني عدد 4: المجالات المشمولة بمبادئ تدقيق القطاع العام

المصدر: المعيار الدولي لمنظّمة الإنتوساي ISSAI 100

ويتمّ القيام بجميع مراحل التدقيق، من تخطيط وتنفيذ وإعداد للتقرير ومتابعة من قبل المُدقِّقين المُكلَّفين بالمهمّة الرقابية، ضمن مقاربة تشارُكية، وبإشراف الهياكل المُخوَّل لها قانونًا الإشراف على العمليّة الرقابية، والتي تتمثّل حسب التجارب المقارنة للأجهزة المُنظِّمة في شكل محكمة للمحاسَبات (ذات طبيعة وتركيبة قضائية) في:

–  التخطيط الإستراتيجي للمحكمة: خطّة رقابية متعدّدة السنوات (حسب أفضل المُمارَسات لثلاث سنوات، ويتمّ تحيينها حسب الأولويّات في المواضيع المهمّة، والتي تستدعي رقابة، وتكون ذات أهمِّية ونفع للعموم)؛ تقترح الغرف المُختَصَّة المواضيع الرقابية لتُحال على لجنة التقرير والبرمجة (أو الهيكل المُخوَّل له النظر في اقتراحات البرمجة)، وتصادق عليها الجلسة العامة للمحكمة (الهيكل التقريري المُخوَّل له اتّخاذ القرارات المُلزِمة للمحكمة).

–  التخطيط العمليّاتي/ التشغيلي للمحكمة: برنامج رقابي سنوي يتضمّن مهمّات الرقابة والأعمال القضائية، تعدّه الغرف المُختَصَّة على ضوء ما صادقت عليه الجلسة العامة من برنامج ثلاثي أو اقتراح التعديل فيه بالصيغ والإجراءات نفسها، وإحالة المُقترَح على لجنة التقرير والبرمجة للنظر فيها، والتي تحيلها بدورها على الجلسة العامة للمُصادَقة وإقرار التنفيذ.

–  يتمّ الإشراف على المهمّة الرقابية من قِبَل رئيس المهمّة (أو رئيس الفريق الرقابي) الذي يتولّى إعداد مُسوَّدة التقرير بناءً على نتائج الرقابة التي توصَّلَ إليها الفريق الرقابي، وإحالتها على الغرفة المُختَصَّة (يَنظر في مشروع التقرير وإجابات الجهة محلّ الرقابة رئيسُ الغرفة وأعضائها في اجتماع للغرفة بحضور النيابة العمومية التي تُبدي ملاحظات كتابية)، والمُصادَقة على التقرير والتعديلات.

– يحيل رئيس الغرفة التقرير بعد المُصادَقة عليه في اجتماع الغرفة، والأخذ بعين الاعتبار إجابات الجهة محلّ الرقابة وملاحظات النيابة العمومية على لجنة التقرير والبَرمَجَة التي تضمّ الرئيس الأوّل، وكلّ رؤساء الغرف، والمُقرِّر العام (يعدّ التقرير السنوي العام بناءً على التقارير التي تصادق عليها لجنة التقرير والبَرمَجَة)، والكاتب العام – أمين السرّ – (مُقرِّر الجلسات حول التقرير)، ويُعَيَّن مُقرِّر من غرفة أخرى لإبداء ملاحظاته الكتابية حول التقرير (رقابة جودة)، وتحضر النيابة العمومية الجلسة حول التقرير وتبدي ملاحظاتها إن كانت لديها ملاحظات إضافية. وبعد مصادقة لجنة التقرير والبرمجة على التقرير، يتمّ تجويد صياغته (الصياغة وليس المحتوى) من قبل المُقرِّر العام، وإحالته على الجلسة العامة للمُصادَقة، ويُصَوَّت على إقرار التقرير أو تعديله. ويمكن لكلّ عضو في الجلسة العامة إبداء ملاحظات كتابية أو شفاهية بشكل تشاركي وعلني وشفّاف.

–   ويعود التقرير، بعد الجلسة العامة، إلى الفريق الرقابي ليعدّله على ضوء ملاحظات الجلسة العامة وقرار المُصادَقة، ثمّ يُحال في نسخة نهائية على المُقرِّر العام لإضافته إلى التقرير السنوي العام للمحكمة، وذلك للنشر.

8- وفق النظام اللبناني، تتكوّن غرف ديوان المحاسبة من قضاة، على أن يساعدهم المُراقِبون ومُدقِّقو الحسابات في مُمارَسة الأشكال المختلفة من الرقابة على الحسابات والمُوظَّفين. يعبّر المُراقِبون ومُدقِّقو الحسابات عن توجُّسهم من التهميش والنقص في الشفافية. ما هي أهمّ الممارسات الفُضلى لتأمين بيئة دامِجة مؤُسَّساتيًّا؟

تتمثّل أفضل المُمارَسات في مجال تأمين بيئة دامجة مُؤسَّساتيًّا للمُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات في:

–  وضوح المهامّ، بحيث تكون مهامّهم ووظائفهم واضحة في القانون، وفي الإجراءات المُنظّمة عملَ المحكمة، وفي أدلّة الإجراءات، وأن يكون لهم نظام أساسي أو فصول في قانون المحكمة تبيّن حقوقهم وواجباتهم، وتضمن استقلاليتهم وتطوُّرهم المهني. فمَأسَسَة موقعهم في المحكمة مسألة على غاية من الأهمِّية في الاندماج؛

–  إشراكهم في وضع التصوّرات للمحكمة وعملها: كمشاركتهم في وضع المُخطَّط الإستراتيجي، وخطّة العمل مُتوسِّطة المدى، والخطّة التشغيلية للمهامّ، وفي أعمال اللجان وفرق العمل المُنبثِقة عن المُخطَّط الإستراتيجي (تدعيم الاستقلالية / جودة الأعمال / متابعة التوصيات/ نظام المعلومات / الاتِّصال والتواصل مع أصحاب المصلحة وسواها)؛

–   إدماجهم ضمن مدوَّنة السلوك لأنّها تنطبق عليهم أيضًا، والمعيار الدولي  ISSAI 130 يوفّر الأرضية اللازمة لذلك؛ ومن شأن إدماجهم في مُدوّنة السلوك أن يعزّز شعورهم بالانتماء والاندماج المُؤسَّسي؛

–   إدماجهم في برامج تطوير الكفاءات والمهارات لتمكينهم من تطوير مهاراتهم والتقدُّم في السلّم المهني، وكذلك التخصُّص كلّما كان ذلك ممكنًا (تخصُّص في مواضيع رقابية معيّنة وفي مجالات جديدة تمكّن من تحفيزهم)؛

ويوفّر كلّ من المعيار الدولي ISSAI 150 “كفاءة مراجع الحسابات” الإطار المبدئي لتوفير مُمارَسات الموارد البشرية المناسبة، وتوفير مسارات للتطوير المهني الذي يمكن أن نستعين به في مراحل لاحقة من هذا العمل. كما يوفّر دليل الإنتوساي 1950 “إرشادات وضع أطر الكفاءة لمُدقِّقي الحسابات” (الذي وُضِع تطبيقًا للمعيار 150) الإطار العملي لإعداد إطارٍ للكفاءة خاص بالجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة وأمثلة تفصيلية (الملاحق).

9- يطغى نظام الرقابة المُسبَقة على المعاملات الإدارية على عمل ديوان المحاسبة. وهذا ما دفع بعددٍ من الخبراء إلى إسداء نصائح بوجوب التخلّي عن هذا النظام والتركيز على الرقابة اللاحقة. ولكن من جهة أخرى، تبقى الرقابة المُسبَقة الأكثر فاعلية في درء إبرام عقود وصفقات مُجحِفة بحقّ الدولة. ما هي أهمّ نصائحكم في هذا الخصوص؟ وعلامَ يجب أن تشمل الرقابة المُسبَقة في رأيكم؟

بالرجوع إلى المبدأ الثالث من إعلان مكسيكو، يُعَدّ من المُتطلِّبات الضرورية لاستقلالية الأجهزة العليا للرقابة عدمُ قيامها برقابة سياسة الجهات الحكومية، واقتصارها فقط على رقابة تنفيذ السياسات، ما عدا في الحالات التي يطلب منها القانون فعل ذلك. كذلك، وضمن المُتطلِّبات المهمّة، لا ينبغي للأجهزة العليا للرقابة، بأيّ شكل من الأشكال، أن تتدخّل أو تعطي الانطباع بأنّها تتدخّل في إدارة الجهات الخاضعة لرقابتها. ومن حيث المُمارَسة، يُعَدّ إبداء الرأي حول سياسة الجهات الحكومية وتصرُّفها، بصفة قبليّة أو مُتزامِنة (الرقابة المُسبَقة والمُتزامِنة)، تدخُّلًا في قرارات هذه الجهات حسب إطار معايير الإنتوساي، والاستثناء الوحيد الذي أقرّه الإطار هو القانون، أي مُتطلِّبات قانونية تفرض على الجهاز ذلك (أي إنّه غير مُطابق لمعايير الاستقلالية، ولكن يمكن القيام به فقط حينما يفرض القانون ذلك).

فإن سنحت لنا الفرصة للتفكير، فهل نتّجه نحو إقرار شرط مكروه في القانون؟ قليلة جدًّا هي الأجهزة العليا للرقابة التي تبدي رأيها بشكل مُسبَق في السياسات الحكومية، لأنّ ذلك يمنعها ببساطة من رفضها أو التعليق على مشروعيتها لاحقًا. ولكن إن لم يكن ثمّة وسيلة أخرى لإخضاع ذلك المجال للرقابة، يمكن استثناؤه قانونًا، على أن تتوفَّر المحاذير اللازمة للقيام به وفق مُتطلِّبات الشرعية والالتزام، وأن يتمّ التنصيص صراحةً في القانون على أنّ ذلك لا يمنع الجهاز لاحقًا من الرقابة على هذا المجال.

10- وفق القانون اللبناني، يحقّ لمجلس الوزراء أن يتخطّى رفض ديوان المحاسبة إعطاء الموافقة المُسبَقة لإبرام معاملة معيّنة. تكمن مخاطر هذا النظام في إخضاع قرار الديوان لرقابة سياسية. ما هي نصائِحكم في هذا الخصوص؟

هل يجدر التفكير في منح هذه الصلاحية إلى مرجع بديل يكون مُخوَّلًا إعادة النظر في حجب الموافقة؟ وفي هذه الحالة، ما هو المرجع الأنسب؟ من داخل ديوان المحاسبة (غرفة أخرى أو الغرف المجتمعة أو القضاء الإداري)؟

ما هي المُمارَسات الفُضلى بشأن تكليف ديوان المحاسبة إبداء الرأي في مسائل مالية بناءً على طلب إدارات عامة؟

يُعَدّ هذا المثال الدليل الأكبر على ما ورد من تخوُّفات في الإجابة عن السؤال السابق من المساس باستقلالية الجهاز الأعلى حيث لا يكتفي القانون بإدخاله في إبداء الرأي في السياسات الحكومية، بل يضع أيضًا رقابة حكومية على الرأي الذي يبديه.

وعمومًا، ورد في مُتطلِّبات إعلان ليما مبدأ جوهري يحمي استقلالية الجهاز الأعلى للرقابة وذلك عبر إجراء حمائيّ هو الآتي:

“ينبغي بالخصوص أن توجد محكمة عليا تضمن الحماية القانونية المناسبة ضدّ كلّ تدخُّل من شأنه أن يمسّ باستقلالية الجهاز الأعلى للرقابة وسلطاته الرقابية”.

وهذا المُتطلّب هو مُتطلّب عام للأجهزة كافّة، بغضّ النظر عن طبيعتها القضائية أو غير القضائية. فإن أخذنا بعين الاعتبار طبيعة ديوان المحاسبة القضائية، تكون هذه الحماية القانونية مُخوَّلة من قبل الديوان نفسه باعتباره محكمة. فإن لم يتمّ تنفيذ الموافقة المُسبَقة التي منحها الديوان، يمكن للإدارة المعنيّة التظلُّم أمامه (والمحاذير في هذا التظلُّم أنّ الديوان يصبح نفسه طرفًا في المعاملة التي تمّ رفضها، ويصبح هو من أقرّها في مواجهة السلطة الرافضة قرارَه)، أو الطعن لدى المحكمة الإدارية في عدم تنفيذ الإدارة / الحكومة قرارَ الديوان في قبول المعاملة (هذا المُقترَح يحمي الديوان من إعطاء الانطباع في أنّه يتدخّل في المعاملات الإدارية ولكنّه يُضعِف استقلاليته وموقعه في حال رفض القرار الإداري قرار الديوان بقبول المعاملة).

وفي جميع الحالات، يُسنَد اختصاص إعادة النظر إلى القضاء المالي أو إلى القضاء الإداري، من دون سواهما. 

11- ما هي المُمارَسات الفُضلى في مجال موجب المُوظَّف العام إعلام الديوان في حال حصول أيّ مخالفة مالية داخل إدارته؟ هل يجدر أن يعلم الديوان مباشرة؟ أو رئيسه التسلسلي؟

في المُمارَسات الفُضلى، يمكن للجهاز تقبُّل الشكايات مباشرة والتعهُّد بها من دون تسلسل هرمي. وقد وضعت بعض الأجهزة رابطًا على موقع الإنترنت للتبليغ عن الفساد، فضلًا عن قبول الشكايات في مكتب الضبط والنظر فيها. كذلك، يمكن للموفِّق الإداري أو الهيئة المسؤولة عن مكافحة الفساد (حسب النظام القانوني الوطني) إحالة الشكايات التي تصل إليها إلى الجهاز للنظر فيها.

12- ما هي المُمارَسات الفُضلى لاعتماد ضمانات المحاكمة العادلة في ديوان المحاسبة؟

نصّ المبدأ 50، مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة، على أنّه يجب على الجهاز الأعلى للرقابة الحرص على ضمان محاكمة عادلة للأشخاص الخاضعين لمهامّه القضائية طبقًا للإجراءات القانونية. ويقتضي المبدأ أن يتوفّر لكلّ مسؤول، قانونًا، الحقّ، عند البت في مسؤوليته، في محاكمة علنية أمام محكمة مُستقِلّة ومحايدة.

وفي هذا الإطار، تضمّن المبدأ، على وجه الخصوص، التزامات مترتّبة عن مُمارَسة الجهاز الأعلى للرقابة مهامَّه القضائيّة، والتي من شأن عدم التقيُّد بها إبطال المُقرَّرات القضائية الصادرة عنه، حيث يتمتّع كلّ شخص خاضع لقضاء الجهاز الأعلى للرقابة بجملة من الحقوق وبخاصّة:

  • إخباره بشكل سريع ومُفصَّل حول طبيعة المؤاخذات المُسجَّلة بحقّه؛
  • منحه الوقت الكافي والوسائل الضرورية لإعداد دفاعه، لا سيّما الحقّ في الاطّلاع على جميع الوثائق والمعلومات المُودَعة من الأطراف المعنيّة والمعروضة على المحكمة؛
  • الدفاع عن نفسه أو الاستعانة بمحامٍ من اختياره طبقًا للقانون؛
  • التأكُّد من أنّ العقوبات الصادرة في حقِّه تستند إلى أدلّة كافية؛
  • وجوب تعليل المُقرَّر القضائي الصادر في حقّه. ويجب أن يكون هذا التعليل جليًّا، طبقًا لمبدأ الشفافية في العدالة، بما يتيح مُمارَسة طرق الطعن بشأنه.

ونتناول في ما يلي تفصيل المبادئ الأساسية المرتبطة بالمحاكمة العادلة أمام القضاء المالي، من خلال قراءة مُترابِطة بين مبدأ منظّمة الإنتوساي المُختَصَّة في مجال الأجهزة العليا للرقابة، وكذلك المبادئ الدولية في مجال المحاكمات وإجراءاتها، لا سيّما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وسواها.

أ‌. الحقّ في الدفاع أمام القضاء المالي:

لمبدأ الحقّ في الدّفاع تطبيقات عدّة، يمكن ذكر أهمّها في ما يأتي: (المادّة 14-3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية). ومنها:

– تمكين المُدّعى عليه من الردّ على عريضة الدعوى أو الطعن المُوجَّه ضدّه، وذلك بإتاحة إمكانية دفع الدعوى أو الطعن دفاعًا عن حقوقه أو مصالحه؛

– تمكين الأطراف من الردّ على التقارير والوثائق الإجرائية المظروفة بملفّ القضيّة، سواء في طور التحقيق، أو في طور المرافعة؛

– تمكين الأطراف من الإدلاء بوسائل الإثبات الداعمة لادّعاءاتهم أو لدفوعاتهم؛

– ضرب آجال معيَّنة، يحدّدها المشرّع أو القاضي، لممارسة الحقّ في الدفاع؛

– تمكين المتقاضين من طرق قضائية للطعن في الأحكام القضائية؛

– تمكين المتقاضي من الاستعانة بمحامٍ، وإن لزم الأمر تمتيعه بمنظومة الإعانة القضائية وفقًا لشروط مضبوطة سلفًا. 

– تمكين المتقاضي من أجل كافٍ للاستعداد لجلسة المرافعة، وذلك لإعداد وسائل دفاعه.

وتحوصل المادّة 14 (3) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية للعام 1966 هذا الحقّ من خلال التنصيص على أنّه “لكلّ مُتَّهَم بجريمة أن يتمتّع أثناء النظر في قضيّته، وعلى قدم المساواة التامّة، بالضمانات الدنيا الآتية: أن يُعطى من الوقت والتسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه وللاتّصال بمحامٍ يختاره بنفسه”.

ب‌. مبدأ المواجهة أمام القضاء المالي:

يُعَدّ مبدأ المواجهة من المبادئ العامة للقانون التي تتوقّف عليها كلّ محاكمة عادلة، في كلّ النزاعات القضائية، مهما كانت طبيعتها. ويمكن تعريف مبدأ المواجهة بأنّه يقوم على تمكين كلّ طرف في الخصومة القضائية من الاطّلاع على جميع وثائق الملفّ التي أدلى بها خصمه، بحيث لا يمكن للمحكمة أن تؤسّس حكمها أو قرارها على هذه الوثائق ما لم تُمكِّن الطرف الآخر من الاطّلاع عليها، كما من الردّ عنها. ويُعَدّ مبدأ المواجهة امتدادًا لمبدأ الحقّ في الدفاع، وهو ينسحب على كلّ من الأطراف، وعلى القاضي.

كذلك، يُعَدّ مبدأ المواجهة ضروريًّا بالنسبة إلى كلّ طرف من أطراف الخصومة القضائية أمام القضاء المالي، ليكون على بيّنة ممّا ينسبه إليه الطرف المقابل، حتّى يتمكّن من ممارسة حقّه في الدفاع عن نفسه. لذلك، غالبًا ما ترتّب التشريعات الإجرائية عن مخالفة هذا المبدأ بطلان الإجراءات، كما تتطلّب من المشرّع وضع آليّات إجرائية تمكّن المتقاضي من الاطّلاع على وثائق الملفّ، لكن من دون توقُّف على تفعيل المتقاضي لهذا الحقّ من عدم ذلك، إذ تكمن العبرة في تمكين المتقاضي من أن يواجه الطرف المقابل.

كما يتطلّب مبدأ المواجهة بين الأطراف أن يمارَس هذا الحقّ في حدود آجال معقولة، يعود تحديدها إمّا إلى المُشرِّع، أو إلى القاضي المُتعهِّد أو إلى القاضي المُقرِّر، بحسب الحالة، وفق ما يقدّره من أجلٍ معقول ضروري لمُمارَسة حقّ الطرف المقابل في الاطّلاع على الوثيقة الإجرائية والردّ عليها. ولا يقتصر مبدأ المواجهة على الأطراف الأصلية، بل يمتدّ إلى الأطراف بالانضمام.

ولا يقتصر الالتزام بالمواجهة على الأطراف فقط، بل إنّه يمتدّ إلى القاضي المتعهِّد، وذلك على مستويات عدّة يمكن أن نذكر منها ما يأتي: (مراقبة القاضي مدى التزام الأطراف بمبدأ المواجهة؛ إلزام القاضي بالتقيُّد بمبدأ المواجهة: يتّخذ إلزام القاضي بالتقيّد بمبدأ المواجهة أشكالًا ومضامين عدّة لا سيّما إلزام القاضي المُقرِّر بتمكين الأطراف من الوثائق التي سعى إلى تكوينها بإعمال سلطاته الاستقصائية، وإلزام القاضي المُقرِّر بإنهاء المطاعن القانونية المثارة من قبله تلقائيًّا إلى الأطراف، وكذلك إلزام القاضي المُقرِّر بتمكين المتقاضي المُدّعى عليه من الاطّلاع على وثائق الملفّ قبل تعيين القضيّة لجلسة المرافعة. ولا يدخل ضمن اهتمامات هذا المبدأ العام للقانون أن يكون ذلك في أثناء التحقيق في ملفّ القضيّة أو بعد الفراغ من ذلك، حيث يُعَدّ ذلك من التفاصيل الإجرائيّة التي يعود إلى القانون الوضعي تنظيمها.

ت. مبدأ علنية المحاكمة أمام القضاء المالي:

نظرًا إلى أهمِّية مبدأ علنية المحاكمة كونه من ضمانات المُتَّهَم الأساسية، فقد حرصت المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان على التنصيص عليه (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948: المادّة 10 والمادّة 11، الاتّفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950: المادّة 1/6، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966: المادّة1/14 ). وينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّه: “لكلّ إنسان، على قدم المساواة التامّة مع الآخرين، الحقّ في أن تنظر قضيّته محكمة مستقلّة ومحايدة، نظرًا منصفًا وعلنيًّا، للفصل… في أيّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه”، وعلى أنّ “كل شخص مُتَّهَم بجريمة يعتبر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونًا في محاكمة علنية”. وبشكل عام، تعني علنيةُ المحاكمة تمكينَ الجمهور بغير تمييز من الاطّلاع على إجراءات المحاكمة والعلم بها، ويُقصَد بها أيضًا تمكين الجمهور من أن يشهد جلسات المحاكمة ومتابعة ما يدور فيها من مناقشات ومرافعات وما يُتَّخَذ فيها من إجراءات وما يصدر عنها من قرارات، كما يُقصَد بها أيضًا نشر مجريات المحاكمة بواسطة طرق النشر المعروفة.

ولا شكّ في أنّ العلنية تتحقّق بفتح أبواب قاعة جلسات المحاكمة للجمهور، بحيث يتاح لمن يشاء منهم أن يدخل القاعة ويشهد المحاكمة، وهذا يفترض أن تُعقَد المحاكمة في القاعة المُخصَّصة لهذا الغرض لا في غرف المداولة، لأنّ من شأن ذلك أن يؤدّي إلى إعاقة حضور الجمهور إلى تلك الجلسات من الناحية العملية، ومن شأنه كذلك المسّ بمركز الدفاع نفسه (المرافعة في قاعة الجلسة).

ويكتسي مبدأ علنية المحاكمة أهمِّية بالغة بالنسبة إلى كلّ المحاكمات على وجه السواء، ولا يُستثنى منها القضاء المالي الذي يشمله مبدأ منظّمة الإنتوساي، وكذلك تشمله المعاهدات والمواثيق الدولية الضامنة حقوقَ المُتَّهَمين، حيث تعزّز علنية المحاكمة أمام القضاء المالي الثقة بأحكامه، لتحقّق العلنية بذلك هدفًا رئيسيًّا للنظام الديمقراطي وهو تعزيز الثقة بأحكام القضاء بشكل عام، وبالجهاز الأعلى للرقابة بشكل خاص؛ فعندما تجري المحاكمة أمام الجمهور وتحت رقابته، يمكن للمواطنين دافعي الضرائب معرفة مدى تجرُّد الجهاز الأعلى للرقابة (ديوان المحاسَبة / محكمة المحاسَبات) وحياده والتزامه بالقانون، ويبثّ كذلك الطمأنينة في صفوف المُتصرِّفين العموميّين المشمولين بقضاء الجهاز الأعلى للرقابة. ومن شأن عمل القضاة الماليّين علانيةً أمام الجمهور أن يعزّز احترامهم الحقوقَ والحرِّيات الشخصيّة للخصوم؛ كما تحقّق العلنية في الآن ذاته مصلحة المجتمع، ذلك أنّه من شأن إطلاع الجمهور على المحاكمات وما يتبعها من إجراءات أن يبعث الثقة بينهم بعدم إفلات المُخالِفين من العقاب.

وتضمن علنية جلسات الجهاز الأعلى للرقابة تحقيق العدالة من خلال ضمان التطبيق الصحيح والسليم للقانون من قِبَل القضاة الماليّين، وعدم التمييز في المعاملة بين الأفراد حيث يكون القاضي أكثر دقّة، ومن ثمّ تكون الأحكام مُنصِفة وأكثر حرصًا على عدم مخالفة الإجراءات المرسومة، فضلًا عن توفُّر ركنٍ على غاية من الأهمِّية في منظومة المُساءَلة التي يؤسِّس لها الجهاز الأعلى للرقابة، وهي الردع والزجر من خلال مبدأ العلنية، حيث تبيّن جلسات محاكمة المسؤولين في الدولة للناس كيف يكون مصير المُخالِفين، وبذلك تكون علنية الجلسات في حدّ ذاتها أداةً للردع.

ث. مبدأ التقاضي على درجتَين:

يُعرَّف مبدأ التقاضي على درجتَين بأنّه المبدأ الذي يتيح للمتقاضين عرض نزاعهم على أكثر من محكمة للنظر والبتّ في موضوعها، بما يمكّنهم من درجتَين للتقاضي: درجة أولى تفضي إلى صدور حكم ابتدائي، ودرجة ثانية أو استئنافية تفصل في النزاع من جديد وتفضي إلى صدور حكم نهائي الدرجة، وذلك إمّا بإقرار الحكم الابتدائي أو نقضه جزئيًّا أو كليًّا. وفي هذا الصّدد، نستعرض مثال محكمة المحاسَبات التونسيّة، حيث حقّق نزاع زجر أخطاء التصرُّف في تونس على ضوء مقتضيات القانون الأساسي عدد 41 للعام 2019 المؤرّخَ في 30 أفريل / نيسان 2019 والمتعلِّق بمحكمة المحاسَبات تطوُّرا قانونيًّا في اتّجاه دعم مبدأ التقاضي على درجتَين، مقارنةً بالقانون عدد 74 للعام 1985 المؤرَّخ في 20 جويلية / تمّوز 1985 المتعلِّق بأخطاء التصرُّف وضبط العقوبات المنطبقة عليها وإحداث دائرة الزجر المالي، حيث كانت الأحكام تصدر ابتدائية ونهائية الدرجة.

ومن مقتضيات مبدأ التقاضي على درجتَين الإقرار بأنّه طالما لم يستبعد النصّ التشريعي صراحةً مبدأ التقاضي على درجتَين، كأن ينصّ على استبعاد الطعن بالاستئناف، أو أن يكون الحكم الصادر ابتدائيًّا ونهائيًّا، فإنّ مبدأ التقاضي على درجتَين يجد مجاله للتطبيق.

وحتّى يُحقِّق مبدأ التقاضي على درجتَين أمام القضاء المالي الغايةَ التي شُرِّع لأجلها، يتعيّن أن يكون هذا المبدأ محاطًا بجملة من المقوّمات، أبرزها ما يأتي:

  • الأثر الانتقالي للاستئناف: يُعَدّ هذا الإجراء من الضمانات الرئيسية لمبدأ التقاضي على درجتَين، حيث إنّه يمكّن المُستأنِف من إعادة عرض النزاع، بمكوّناته نفسها، على قاضي الدرجة الثانية للنظر فيه مُجدَّدًا. لذلك، يقوم هذا المبدأ على نقل الاستئناف للدعوى بحالتها التي كانت عليها قبل صدور الحكم المُستأنَف، وذلك في حدود ما حُكِم فيه وفي حدود ما تسلّط عليه الاستئناف.
  • الأثر التوقيفي للاستئناف: يُعَدّ هذا الإجراء مُكمِّلًا للأثر الانتقالي، حيث إنّ النظر مُجدَّدًا في مُكوِّنات الدعوى يتطلّب أن لا تتغيّر المراكز القانونية للأطراف بفعل تنفيذ الحكم المطعون فيه، وذلك أخذًا بالمبادئ العامة الإجرائية المدنية والقضائية الإدارية. غير أنّ هذا الأثر لا يمنع المُشرِّع من استثنائه في بعض الحالات المُحدَّدة حصرًا، وبصفة صريحة.
  • التيسير في إجراءات الطعن بالاستئناف: إنّ تمكين الأطراف من فرصة ثانية للتقاضي يتطلّب التيسير في إجراءات الطعن بالاستئناف، ليتمكّنوا من عرض مطلبهم وملفّ قضاياهم على جهة قضائية أعلى درجة من الجهة القضائية، من دون أن تُوضَع أمامهم عراقيل أو صعوبات إجرائية، بحيث يصعب عليهم تداركها أو تجاوزها، وبما يجعل من مبدأ التقاضي على درجتَين غير فعّال على مستوى الممارسة القضائية، وبالتالي يجعل من الحقّ في اللّجوء إلى القضاء حقًّا غير فعّال.
  • أن لا تقلّ سلطات قاضي الدرجة الثانية عن سلطات قاضي الدرجة الأولى تجاه موضوع النزاع، من حيث التثبُّت من صحّة الوقائع، ووسائل الإثبات، والسلطات الاستقصائية، وتكييف الوقائع، وتقديرها.

وباعتبار أنّ إعلان ليما قد نصّ على ضرورة التنصيص ضمن الدستور على إنشاء الأجهزة العليا للرقابة، وعلى الدرجة الضرورية من استقلاليتها، على أن يتمّ تقديم التفاصيل المتعلِّقة بذلك في النصوص القانونية، وعلى أنّه ينبغي بالخصوص أن توجَد محكمة عليا تضمن الحماية القانونية المناسبة ضدّ كلّ تدخُّل من شأنه أن يمسّ باستقلالية الجهاز الأعلى للرقابة وسلطاته الرقابية، فإنّه حريّ بالتأكيد، في هذا الصدد، أن يكون مبدأ التقاضي على درجتَين هو غاية يبلغها الجهاز الأعلى للرقابة، إمّا بالطعن في قراراتها القضائية لديه (أمام هيئة أعلى درجة من الهيئة الحكميّة الأولى)، أو لدى جهاز قضائيّ آخر إن تعذّر، وذلك لضمان تحقيق هذا التقاضي على درجتَين كمبدأ أساسي من مبادئ المحاكمة العادلة، ويكون القضاء الإداري هو القضاء الأقرب من حيث الاختصاص إلى القضاء المالي وفق التجارب المقارنة.

13- ما هي المُمارَسات الفُضلى في مجال تحديد مرور زمن على المخالَفات المالية التي تدخل ضمن صلاحية الديوان؟

نَصَّ المبدأ 50 “مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة” على أنّه لا يجوز أن يكون فعل مُخالِف للقانون موضوعَ متابعة أو عقاب إلّا قبل انصرام أجَل معقول من تاريخ ارتكابه أو اكتشافه. حيث يقتضي مبدأ الأمان القانوني للأشخاص وفعالية العدالة أن يحدّد القانون أجَلًا تتقادم فيه المخالَفات المتعلِّقة بالقواعد السارية على التصرُّف العمومي. وتبعًا لذلك، لا يجوز متابعة أو معاقبة المسؤول الذي ارتكب مخالَفات إذا انصرم أجَل مُحدَّد على تاريخ ارتكاب الأفعال المُكوِّنة لهذه المخالَفات، أو على تاريخ اكتشافها من طرف سلطة مُؤهّلة.

وحريّ بالتأكيد أنّ من شأن عدم تحديد أجَل للتقادم في ما خصّ الأخطاء والمخالَفات في التصرُّف العمومي، جعل الأشخاص المسؤولين في وضعيّة عدم الأمان طيلة مسارهم المهني، وبعد إحالتهم على التقاعد. كما أنّ عدم التنصيص صراحةً في الإطار القانوني لعمل الجهاز الأعلى للرقابة على آجالٍ للتقادم لا يحفّزه على التسريع في إنجاز مهامّه وأنشطته الرقابية وإجراءاته القضائية. كما ينتج من طول الآجال ما بين تاريخ ارتكاب الأفعال وتاريخ إنجاز التحرِّيات بشأنها من قبل الجهاز الأعلى للرقابة تعقيدات مُرتبِطة بالبحث عن وثائق الإثبات المنقوصة والتي تعرّضت للتلَف أو تمّ إخفاؤها، وبصفة عامة تعقيدات تتعلّق بالبحث عن الإثباتات والأدلّة، بالإضافة إلى تعقيدات تشمل دراسة الوقائع وتكييف المخالفات، بخاصّة في ظلّ التعاقُب المُحتمَل لأنظمة قانونية مختلفة خلال الفترة المعنيّة بالمتابعة.

وتعتمد التجارب المقارنة خمس سنوات لتحديد سقوط الخطأ المالي بالتقادم، علمًا أنّ هذا الزمن يختلف حسب الفترة التي تُعَدّ كافية في النظام المالي الوطني لغلق حسابات الدولة أو للمُصادَقة على الحسابات.

ويُعَدّ من قبيل المُمارَسات الفُضلى المُعتمَدة في عدد من الأنظمة اعتماد نظام مرور الزمن على قطع الحساب بدءًا من تاريخ المُصادَقة على الحساب المالي للدولة أو الهيكل العمومي المعني بالحساب محلّ النظر، عوضًا من تاريخ انتهاء السنة المالية المعنيّة، باعتبار أنّ النظر في الحساب المالي من قبل الجهاز الأعلى للرقابة لا يمكن أن يتمّ إلّا بعد إعداده للنظر فيه من قبل المصالح المُختَصَّة (وزارة المالية بالنسبة إلى الحساب العام للدولة، والتصديق على الحسابات من قِبَل مراجع الحسابات بالنسبة إلى الهياكل العمومية الأخرى). وبالتالي، يُعَدّ مرور الزمن على قطع الحسابات مُعلَّقًا ما لم يتوفّر هذا الشرط ولا يُعتَدّ به بالتالي لتحديد سقوط الخطأ المالي بالتقادم باعتماد تاريخ السنة المالية المعنيّة.

14- ما هي المُمارَسات الفُضلى لمتابعة مدى نفاذ اقتراحات ديوان المحاسبة وتوصياته؟

هنا يجدر التذكير بالمبدأ INTOSAI P12  “قيمة ومنافع الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة – إحداث الفارق في حياة المواطنين”:

المبدأ الثالث: تمكين القائمين على إدارة القطاع العام من الاضطلاع بمسؤوليّاتهم في الاستجابة لنتائج الرقابة والتوصيات، واتِّخاذ الإجراءات التصحيحية المناسبة.

ينبغي أن تضمن الأجهزة العليا للرقابة حسن التواصل مع الهيئات الخاضعة للرقابة وسواها من أصحاب المصلحة المعنيّين، حسب الاقتضاء، وأن تطلعها على مُستجدّات عمليّة الرقابة في ما يتعلّق بالمسائل الناشئة عن أعمال الجهاز.

وتزوّد الأجهزة العليا، وفقًا لتفويضها، السلطة التشريعية ولجانها، أو إدارة الهيئات الخاضعة للرقابة ومجالس الإدارة بالمعلومات الهامة والموضوعية، وفي الوقت المناسب. تعمل الأجهزة العليا للرقابة على تحليل تقارير الرقابة لتحديد المواضيع والنتائج ووضع توصيات الرقابة، ومناقشتها مع أصحاب المصلحة الرئيسيّين.

ينبغي للأجهزة العليا، ومن دون المساس باستقلالها، تقديم المشورة بشأن الكيفيّة التي يمكن بها استخدام نتائج الرقابة وآرائها، بحيث تحقِّق أقصى تأثير، ومن ذلك توفير إرشادات المُمارَسة الجيّدة.

وينبغي للأجهزة الرقابية إقامة علاقات مهنية مع اللجان الرقابية التشريعية ذات الصلة، وإدارة الهيئات الخاضعة للرقابة ومجالس الإدارة، لمساعدتها على فهم أفضل لتقارير الرقابة على الحسابات وتوصياتها واتِّخاذ الإجراءات المناسبة. وعلى الأجهزة العليا للرقابة، بحسب ما يكون مناسبًا، التقدُّم بتقاريرها بشأن إجراءات المتابعة التي تتَّخذها في ما يتعلّق بتوصياتها.

ينصّ المعيار الدولي 300 ISSAI “مبادئ رقابة الأداء”، وتحديدًا الفقرة 42 منه، على مُتابَعة التقارير من قبل الجهاز الأعلى للرقابة: 

يجب على المُدقِّقين أن يتابعوا نتائج الرقابة السابقة وتوصياتها، عند اللزوم. ويجب إعداد التقارير عن المتابعة بصورة مناسبة لتوفير التغذية الراجعة للهيئة التشريعية، إلى جانب الاستنتاجات والآثار المُترتِّبة على جميع الإجراءات التصحيحية المعنيّة؛ إن أمكن.

وتشير المتابعة إلى دراسة المُدقِّقين الإجراءاتِ التصحيحية التي اتَّخذتها الهيئة الخاضعة للرقابة أو أي طرف مسؤول آخر، بناءً على نتائج رقابة الأداء. وهو نشاط مستقلّ يزيد من قيمة عمليّة الرقابة بتقوية تأثير الرقابة ووضع الأساس للتحسينات المستقبلية في أعمال الرقابة. كما تشجّع الهيئات الخاضعة للرقابة والمستخدمين الآخرين للتقارير على أخذ التقارير على محمل الجدّ، وتقدّم للمُدقِّقين دروسًا نافعة ومُؤشِّرات الأداء. ولا تقتصر المتابعة على تنفيذ التوصيات، وإنّما تركّز على ما إذا كانت الهيئة الخاضعة للرقابة قد عالجت المشكلات بشكل كافٍ وصحَّحت الوضع الأساسي بعد فترة زمنية معقولة. ويجب على المُدقِّق، عند إجراء متابعة تقرير الرقابة، أن يركّز على النتائج والتوصيات التي ما تزال ملائمة وقت المتابعة، وأن يعتمد نهجًا مُستقِلًّا ومُحايِدًا.

وقد يتمّ إعداد التقارير عن نتائج المتابعة بصورة منفردة، أو على شكل تقريرٍ مُوحَّد قد يشمل بدوره تحليل عمليّات رقابة مختلفة، وربّما يُبرِز الاتِّجاهات والموضوعات المُشترَكة في عدد من مجالات إعداد التقارير. ويمكن للمتابعة أن تسهم في تحسين القيمة المضافة برقابة الأداء في فترة زمنية أو مجال معني.

15- يعاني ديوان المحاسبة من تخلُّف وزارة المالية عن تزويده بما يُسَمّى “حساب المهمّة” مجموع حسابات إدارات الدولة، ممّا يمنعه من ممارسة عمله في الرقابة على الحسابات. كيف يمكن إرساء آليّات رادعة لتقاعُس أيّ من المُوظَّفين عن أداء مهامّه في هذا الخصوص؟

يقتضي المبدأ الرابع لإعلان مكسيكو للاستقلاليّة تكريس الوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات، حيث ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تتمتّع بالسلطات الكافية للحصول، بشكل غير مُقيَّد ومباشر وحرّ، وفي الوقت المناسب، على الوثائق والمعلومات اللازمة كافّة، لأداء مهامّها القانونية على نَحوٍ صحيح. وبالتالي، يجب وضع إجراءات يتعّهد بها ديوان المحاسبة لتسليط عقوبات ردعية على المُخالِفين، وفي الوقت نفسه، إجراءات تتعلّق بالحساب نفسه، أي تعهّد تلقائي بالوثائق والنظر فيها بغضّ النظر عن إعداد حساب المهمّة من عدمه.

وحريّ بالتأكيد في هذا المجال على الترابط الوثيق بين هذا المبدأ ومبدأ اعتماد نظام مرور الزمن على قطع الحساب، بدءًا من تاريخ المُصادَقة على الحساب المالي محلّ النظر عوضًا من تاريخ انتهاء السنة المالية المعنيّة، باعتبار أنّ الوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات يتضمّن ضرورة الوصول إليها بشكل حرّ وفي الوقت المناسب. فإن لم يكن ذلك مُتاحًا لسببٍ ما، فلا ينبغي بالضرورة مرور الزمن عليها إلّا بإتاحة الوسائل المناسبة، أي إعدادها للنظر فيها، ويكون بذلك عدم إقرار مرور الزمن على الحسابات غير المُعدَّة للنظر من بين الآليّات الرادعة للتقاعُس عن إعداد الحسابات، ومدّ الجهاز الأعلى للرقابة بها، ولعلّها أهمّ آليّة ردعيّة.

نشر هذا البحث في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”

لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF


[1] الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة هو هيئة عامة تابعة لدولة أو لمنظمة فوق الوطنية التي تمارس نشاط الرقابة المالية العليا في مجال مراجعة حسابات القطاع العام لدى الدولة أو المنظّمة فوق الوطنية. وتنفّذ الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة مهامّها الرقابية العامة بطريقة مستقلّة وموضوعية. وتختلف مسؤوليّات الأجهزة المتعلِّقة بالتدقيق والولاية القضائية بحسب أولويّاتها المُحدَّدة والأطر القانونية التي تعمل فيها.

[2] منظّمة الإنتوساي هي المنظّمة المركزية للرقابة المالية الخارجية العامة، أُسِّست عام 1953؛ وهي منظّمة غير حكومية تتمتّع بمنصب استشاري خاص لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتّحدة، وقد بلغ عدد أعضائها إبّان تأسيسها 34 عضوًا، أمّا حاليًّا فهي تضمّ 195عضوًا كامل العضوية، و5 أعضاء مُشارِكين وعضوَين منتسبَين.

[3] أُقِرّ إعلان ليما عام 1977 وأعيد نشره عام 1998؛ ومع إنشاء إطار عمل التصريحات المهنية الجديد لمنظّمة الإنتوساي، أعيدت تسميته بـ INTOSAI P1 “المبدأ 1” مع تعديلات تحريرية في العام 2019.

[4] وُقِّع إعلان مكسيكو عام 2007 مع تعديل الديباجة في العام 2018. ومع إنشاء إطار عمل التصريحات المهنية الجديد لمنظّمة الإنتوساي، أعيدت تسميته بـ INTOSAI P10 “المبدأ 10” (وهو مُرتَّب مباشرة بعد إعلان ليما) مع تعديلات تحريرية في العام 2019.

[5] أُقِرّ المبدأ 50 حول مبادئ مُمارَسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة عام 2019.

[6] يعتبر هذا المبدأ الذي أُصدِر  عام 2013 أنّ الرقابة على القطاع الحكومي التي تنهض بها الأجهزة العليا للرقابة عاملٌ مهمّ في إحداث الفارق في حياة المواطنين. ولعمليّات الرقابة التي تقوم بها الأجهزة العليا للرقابة على الهيئات الحكومية وهيئات القطاع العام تأثير إيجابي يتمثّل في بثّ الثقة في المجتمع، كونها توجِّه عقول المسؤولين عن الموارد العامة إلى كيفيّة استغلال تلك الموارد. ومن شأن هذه التوعية أن تعزّز القيم المرغوبة وتؤكّد آليّات المُساءَلة، وهو ما يؤدي بدوره إلى اتِّخاذ القرارات بكفاءة أكبر.

[7]  النظام الأساسي في المنظومة القانونية التونسية هو النصّ القانون الذي يُحدّد واجبات القضاة وحقوقهم، وشروط مُمارَستهم مهامّهم القضائية.

[8] تمّ إقرار المعيار الدولي 100 من قبل منظّمة الإنتوساي عام 2001 كمبادئ أساسية في التدقيق الحكومي (هو الوثيقة المرجعية لمعايير الرقابة كافّة، ويكتسي علويّة تاريخيّة، وكذلك من حيث شموليّته كلّ المجالات المرتبطة بالرقابة على القطاع العام، مهما كان صنفها: رقابة الالتزام أو المطابَقة ورقابة الأداء والرقابة المالية)، ثمّ تمّت مراجعته وإعادة تسميته إلى المبادئ الأساسية لتدقيق القطاع العام عام 2013. ومع إنشاء إطار عمل الإنتوساي للإصدارات المهنيّة، أجرِيت تغييرات تحريرية عليه في العام 2019.

[9] أُقِرّ المعيار الدولي 300 من قبل منظّمة الإنتوساي عام 2001 كمعايير رقابة حكومية ومعايير ذات دلالة أخلاقية، ثمّ أعيدت صياغة محتواه والمصادقة عليه كمبادئ أساسية لرقابة الأداء عام 2013. ومع إنشاء إطار عمل الإنتوساي للإصدارات المهنية، أُجرِيت عليه تغييرات تحريرية في العام 2019.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني