“مَانَاشْ نَادْمِين”: حكاية حراك جرجيس 18/18 كمَا عِشنَاها


2025-01-24    |   

“مَانَاشْ نَادْمِين”: حكاية حراك جرجيس 18/18 كمَا عِشنَاها

كانَ من الممكن أن يكون تاريخ 21 سبتمبر 2022 يومًا عاديا في مدينة جرجيس؛ قارب هجرة غير نظامية يُغادر سواحل المدينة في اتجاه جزيرة “لامبيدوزا” الإيطالية، في رحلة مُتكرّرَة يَخوض مخاطرها هذه المرّة سبعة عشر شابا وشابة. لكن شيء ما سيَحدث، وسيجعل هذا التاريخ وما بعده إعلانًا لحرَاك احتجاجي دامَ أكثر من ستة أشهر.

لم يَتَّصل المهاجِرون والمهاجرات من أبناء وبنات المدينة بعائلاتهم مثلما كان متوقَّعًا. انتهى وقت الانتظار. وعدد الساعات الافتراضي لوصولهم انتهى. لكنهم لم يَتّصلوا. توجّهت عائلاتهم  إلى مركز الحرس البحري في جرجيس للإعلان عن فقدان أبنائهم، وطالبت السلطات البحرية المحلية والجهوية بالتدخل للبحث عنهم باعتبارهم مفقودين.

أوّل  إجابة تلقتها عائلات المفقودين من أعوان الحرس البحري  تمثلت في أن الإعلام عن فقدان أبنائهم “الحرّاقة” سيُعرضهم للمساءلة القانونية باعتبار أن القانون التونسي يعاقب على جريمة اجتياز الحدود خلسة والمساعدة على ذلك[1]. لكن ذلك لم يكن كافيا لثني العائلات المكلومة عن الإعلام بالفقدان ومطالبة الحرس البحري بالبحث عن القارب وأبنائهم. الأمر الذي لم يقع، إذ اكتفى الحرس آنذاك بالاستماع إلى أفراد العائلات وتدوين محاضر. أما طلب العائلات بالبحث عن المفقودين تَمّت مجابهته بكون الإمكانيات المتوفرة لا تسمح بالإبحار لأسباب متعلقة بالطقس حسب رواية أعوان مركز الحرس البحري، وهو ما عَرِفَت العائلات أنه غير مطابق للحالة الجوية حينها، فمعظمهم أبناء صيادين، وبحكم خبرتهم بالبحر فإن هذه الحجّة كانت مجرّد محاولة للتضليل.

حينَها لجأت العائلات إلى الاعتصام بميناء الصيد البحري في جرجيس، حيث تَرسُو خافرات الحرس البحري، دون أن يؤدّي ذلك إلى الاستجابة لطلبهم. في اليوم التالي، وعند التوجه إلى معتمد الجهة لم تكن إجابته أكثر احترامًا لحياة أبنائهم وبناتهم ولا أكثر إقناعا،  فقد تحجَّج بداية بعدم توفر ما يكفي من البنزين لتشغيل خافرات الحرس البحري وطالب العائلات بتوفير ذلك، ثم تحَجّجَ بتزامن ذلك اليوم مع عطلة المولد النبوي الشريف. أمام هذا الوضع توجّهت العائلات للاحتجاج في الشوارع والاعتصام بالمعتمدية. وفي الأثناء تلقوا من معتمد الجهة معلومة تفيد بوجود المفقودين على قيد الحياة في ليبيا وأنه سيتم التواصل معهم لتسليمهم، وقد أخبرهم أيضا أنّه تلقّى المعلومة من جمعية المتقاعدين العسكريين في الجهة، وهي  المعلومة نفسها التي كرّرَها مدوّنون على وسائل التواصل الاجتماعي دون أي إثبات. لكن تسريب هذه المعلومة من قبل المعتمد مَنحَ أملاً للعائلات سرعان ما سيتبخّر مع عدم تقديم أيّ إثبات رسمي لها. حينها زادت الأجواء احتقانا. وطلبت العائلات من بحّارة الجهة أن يَخرجوا للبحث عن أبنائهم. لكن التعطيل هنا لم يَغب، إذ تلكأت السلط الأمنية في السماح للبحارة بتنفيذ خرجات بحرية للبحث عن المفقودين بمراكب الصيد. وهو ما اضطرَّ جمعية البحارة للتّهديد بالخروج للبحث رغم عملية التعطيل التي تعرضوا لها من قبل السلط الأمنية المحلية والجهوية.

مسار حراك جرجيس 18/18

أدّى مَسار الاحتجاج الشعبي إلى الكشف عن جملة من الحقائق التي ساهَمَت في مزيد الاحتقان وتجذير الحركة الاحتجاجية بداية من يوم 14 أكتوبر 2022 الذي طَردَ فيه المحتجون والي مدنين ومعتمد جرجيس على خلفية تعاطِيهم السلبي مع الملف، بخاصة منذ اكتشاف عملية دفن أربعة جثث من المهاجرين بمقبرة حدائق إفريقيا، وهي المقبرة المخصصة لمجهولي الهوية،  يوم 9 أكتوبر 2022. وقبلها تم التأكد من العثور على جثة “ملاك الوريمي” في سواحل جزيرة جربة بعد أن تعرفت عليها عائلتها يوم 5 أكتوبر 2022. وهو الأمر الذي جعل عملية التضليل التي  مورسَت ضد العائلات من خلال الادعاء بوجود أبنائهم في ليبيا تبدأ  في الانكشاف. وتم التأكّد أن الجُثَث التي دُفنت في مقبرة حدائق إفريقيا تم دفنها قبل تاريخ ظهور جثة “ملاك” أول أكتوبر، إذ أن جثتين من الأربع وُجِدوا من قبل البحارة في رحلة البحث التي قاموا بها يوم 26 سبتمبر 2022، و أعلموا بها السلط البحرية التي أعلمتهم بدورها أن تلك الجثث تعود إلى مهاجرين أفارقة من جنوب الصحراء. وهو نفس اليوم الذي انعقد فيه إجتماع خلية الأزمة التي تشكّلَت عن اللجنة الجهوية لمجابهة الكوارث بمقر ولاية مدنين برئاسة والي الجهة، التي كان من المفترض أن تقود وتُتَابع عمليات البحث، لكنها شاركت في طمس معالم جريمة بدأت تتوضّح أكثر وأكثر.

الجثث الأربع التي طالبت العائلات بإخراجها من المقبرة والقيام بمطابقة الفحوص الجينية لها،  اثنين منها وُجِدتَا يوم 26 سبتمبر 2022، وهما جثّتا “ياسين عبد الكريم” و”سيف الدين بلهيبة”، ودُفنتا في نفس الليلة بمقبرة حدائق إفريقيا، أي في 27 سبتمبر 2022. وجثتان  وُجدَتا في سواحل جرجيس يوم 2 أكتوبر 2022، وهما جثتا “أيمن الوريمي” و “محمد علي خنشيل”، ودُفنتَا في نفس اليوم  في المقبرة نفسها. وتمّ اعتبارهم كذلك “سود البشرة، أفارقة” في منطق عنصري أمني يتعامل مع كلّ جثة بوصفها تعود لمهاجر من جنوب الصحراء وأنها لا تستحق أيّ دفن كريم، بل مجرّد التخلّص منها دون أي فحص جيني أو تشريح. مع العلم أن القانون يُلزم في حالة الموت المستراب أن تُعرَضَ الجثة على الطب الشرعي وتُأخذ منها عيّنة للفحص الجيني. كما اكتشفت العائلات يوم 12 أكتوبر 2022 وجود جثة “منى عويدة” في المستشفى الجهوي بقابس. ثم وَجدَ أحد البحارة جثة الشاب “محمد أمين مشارك” في عرض البحر يوم 16 أكتوبر 2022. وعند الاطلاع على حالة الجثث عاينَت العائلات آثار غير عادية يتوضح أنها ترتبط بعنف تعرض له أبنائهم. وهو ما أكد أن ما حدث ليس غرقا طبيعيا، إنما عملية إغراق بإستعمال القوة. وإن عمليات التلاعب بالجثث وإخفائها غايتها إخفاء الجريمة التي ارتُكِبَت في عرض البحر. ولذلك رفع شعار “يا حرس يا بحرية، وين هزيتوا الذرية” (يا حرس يا بحرية وطنية، أين أخذتم أبنائنا).

 وعلى هذا الأساس رفع الحراك الاحتجاجي شعَارَي الحقيقة والعدالة. وجرجيس 18/18، تُشير إلى تاريخ الإضراب العام الذي انتظم في 18 أكتوبر 2022، وإلى عدد المهاجرين أيضا. مع العلم أن عدد المهاجرين سبعة عشر، لكن إسم شاب آخر تسرّب وظننا حينها أنه في نفس القارب، لكن تبيّن بعد أنه ركبَ قارب  هجرة غير نظامية آخر في نفس الليلة ووصل إلى السواحل الإيطالية. فاخترنا بذلك الرقم 18.

إن طمس الحقيقة يُعتبر جريمة دولة. كما أن عملية إغراق القارب من قبل الموكول لهم حماية الحدود وأرواح البشر تعتبر جريمة دولة. استمرَّ الحراك الاحتجاجي ليُكلّلَ بإضراب عام يوم 18 أكتوبر 2022. وتواصَلَ ليأخذ شكل مسيرات واعتصامات متتالية طيلة تلك الفترة. ووصلت الحركة ذروتها يوم 18 نوفمبر 2022 بمناسبة القمة الفرنكفوفية التي انعقدت في جزيرة جربة في ذلك التاريخ. وعلى هامش القمة الفرنكفونية دخَلَت معنا الجهات الرسمية في مفاوضات، وكان مطلبهم فكّ الاعتصام أمام مدخل ميناء جرجيس التجاري وأمام فضاء الأنشطة الاقتصادية الذي بدأ منذ تاريخ 7 نوفمبر إثر جمعة الغضب التي  التي تزامنت مع يوم 4 نوفمبر، حيث انتظمت فيها مسيرة رمزية تَحمل نعوش فارغة وُضِعَت عليها صور المفقودين والمفقودات. 

الطلب الرسمي بفكّ الاعتصام كان الهدف من ورائه السماح لباخرة قرطاج بالإرساء في ميناء جرجيس وإنزال تجهيزات مُخصَّصَة للقمة الفرنكفونية. رفضنا بالطبع ذلك. رفضنا تلك الإهانة والحڤرة. لم ترسو باخرة قرطاج في ميناء جرجيس وعادت أدراجها من ڤابس. مطلبنا كان واضحا، وهو نفسه الذي عَبّرنَا عنه منذ البداية في إضراب 18 أكتوبر 2022، وهو معرفة مصير المفقودين وكشف الحقيقة، وتخصيص مجلس وزاري لمدينة جرجيس. كانت الإجابة أن الوزراء منشغلون بالقمة رغم أن حركتنا الاحتجاجية سبِقَت القمّة بحوالي شهر. بعدها اقترحُوا علينا زيارة وزير الداخلية، قَبلنا ذلك بشرطين: أن يعلن وزير الداخلية الحقائق  المتعلقة بالفاجعة، ويُعلن عن موعد المجلس الوزاري الذي سيُعقد لاحقا. وتم الاتفاق على ذلك وترتيب بروتوكول الزيارة. في صباح موعد الزيارة، يوم 13 أكتوبر 2022، لم يتم تنفيذ التعهّد، ونُشِرَت صور لوزير الداخلية على وسائل الإعلام في مدخل القنطرة الرومانية من جهة جزيرة جربة، ولم يأتي إلى جرجيس. وحضَر إلى جرجيس حيث مكان القاعة التي كانت جُهّزت أمنيا وبروتوكوليا لاستقبال الوزير مديرين عامين وقيادات أمنية في وزارة الداخلية، وتَمَّ إعلامنا بعدم قدوم الوزير، وقدّموا لنا دعوة لزيارة قصر قرطاج لمقابلة الرئيس. وهو الأمر الذي رفضه الحراك وتمّت مقاطعة الاجتماع على الفور. كان جوابنا واضحا “جرجيس كلها دار العزاء، و”أهل العزاء والمفقودين مَايِمْشوا لحد والنّاس تْجيهِم”. وكان نكث العهد أشدّ وطأة.

بعدها عقدنا ندوة صحفية، أعلنّا خلالها أنه في حالة عدم قدوم لجنة وزارية لجرجيس برئاسة رئيسة الحكومة ووزراء الداخلية والعدل والشؤون الاجتماعية والفلاحة لمواساة عائلات ضحايا ومفقودي فاجعة جرجيس والبحث عن الحقيقة وفتح ملف التنمية، مع إمضاء محضر جلسة  وضبط روزنامة تفعيل عدة مشاريع ومطالب مدرجة في محاضر جلسات سابقة، فإن أبناء جرجيس سيتَّجهون يوم الجمعة إلى جزيرة جربة.

وتوجّهنا إلى جربة، تزامنا مع انعقاد القمة الفرنكفونية، وحَدثَ ما حدث من قمع أمني في الشارع لعائلات المفقودين والمفقودات وسائر النساء والأطفال والمشاركين في المسيرة. ما إن تجمَّعنا حتى أطلقوا علينا الغاز المُسيل للدموع واعتقلوا عدد من الشباب. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل تواصَل القمع وسط مدينة جرجيس، وطيلة ليلتين كاملتين شهدنا إجراما بوليسيّا غير مسبوق في المدينة، جرى فيه الاعتداء على البيوت وأهلها ومدارسها وحضانات أطفالها، ودَافعَ شباب جرجيس عن حرمة أحيائهم و”حْوِمهم”. حينها كانت السلطة تحتفي بتونس بلد التنوع والانفتاح على بعد عشرات الكيلومترات منّا مع زعماء الدول الفرنكفونية في قمة جربة. 

كما شارك أبناء جرجيس في المهجر في الحراك، في مناسبتين، كانت الأولى عبر وقفة احتجاجية في ساحة الجمهورية بباريس يوم 22 نوفمبر 2022. وكانت الثانية بتاريخ 1 ديسمبر 2022 عندما توجّهوا من مدن أوروبية مختلفة نحو جينيف للاحتجاج على دور المنظمات في تمويل إنجاز مقبرة غير قانونية في جرجيس يتمّ فيها دفن كل جثث المهاجرين على أنهم “أفارقة”. هي مقبرة على الملك الخاص  وعمليات الدفن فيها لا تَحترم كرامة المهاجرين الأموات ولا الأحياء. وباعث المقبرة استغلها ليقدم من خلالها ترشحه لنيل جائزة في الهندسة المعمارية. إن العنوان الإنساني لهذه المقبرة يكشف تناقضات لا يمكن تجاهلها، إذ تربط علاقات مشبوهة بين باعثها وبين الرئيس السابق للهيئة الجهوية للهلال الأحمر الذي كلفه بإدارة المقبرة وهو شخصية متهمة أمام القضاء باستغلال المهاجرين، بما فيه استغلالهم في الدفن بالسّخرة.

اتهام  الحراك والانتقام من المدينة

 في 28 ديسمبر 2022، ألقَى رئيس الجمهورية خطابًا تناول فيه ما حدث في جرجيس، وَردَت فيه عدة مغالطات وإتهامات، وقد قال فيه “إن القارب الذي انتقل عليه الذين غادروا، وهم إن شاء الله في جنات النعيم، لفظه البحر وكان مثقوبا ولا يتّسع إلا لسبعة أشخاص. ومع ذلك أصرّ الذي نظّم الرحلة بالرغم أن عدد من البحارة قالوا له أن الأحوال الجوية لا تسمح بالإبحار، ثم بعد ذلك تم دفن الضحية الأولى والشهيد الأول بدون أي تشريح، ثم بعد ذلك أخرجوا عدد من الجثث وهي في حالة تحلّل لمزيد تأجيج الأوضاع. وجاءت مائة مليون من فرنسا والرقم موجود. ورقم الحساب البنكي موجود لو كانوا بالفعل وطنيين لا أعطوا هذه الأموال إلى الفقراء والمساكين. ولكن أعطوها لمن باعوا ضمائرهم وارتموا في أحضان الخارج (مائة ألف دينار) وهناك رقم آخر بأربع مائة ألف دينار. هؤلاء إن شاء الله في حساب الشهداء نحتسبهم شهداء، لأنهم تم إغراقهم وسيتحمّل من قام بهذه العملية المسؤولية كاملة، هو والذي قام بها ومن يقف ورائه، لأنهم لا تهمهم الأرواح البشرية، تهمّهم فقط مصالحهم ومآربهم وخياناتهم وتجويع الشعب والتنكيل به”

كان جوابنا  الأوّلي على هذا الخطاب، صباح 30 ديسمبر، من خلال تنظيم وقفة احتجاجية. ثم تنظيم مسيرة الثبات يوم 6 جانفي 2023. أجاب حراك جرجيس 18/18 عبر الشارع، وكانت رسالتنا أننا لن نتراجع ونرفض الاتهامات والمغالطات.

عمليات إخفاء المعلومات والجثث تشير إلى أن جريمة أخرى تم ارتكابها في البحر، وأن المسألة لا تتعلق بمؤامرة نحن من نفَّذَها أو بمنظم عملية هجرة غير نظامية أراد إغراقهم، أو بالعدد المسموح وغير المسموح للركاب. هي هجرة غير نظامية وعملية مخاطرة بكل مراحلها. والتبرعات التي تم تجميعها خُصِّصَت لتغطية كلفة الخرجات البحرية. ونحن مستعدون للمحاسبة، مع أننا لا نرى أنفسنا موضع إتهام أصلا. وهذا  دأب جرجيس في التضامن بين أهلها أثناء المحن في الداخل والمهجر. مع أن المبلغ الذي تم تجميعه، وبشكل قانوني، لم يصل أصلا لمائة ألف دينار، بل كان أقل من ذلك.

كشفت جرجيس الخيارات المُذلّة التي تتبنّاها الدولة منذ سنوات من خلال قبولها بدور حارس حدود الاتحاد الأوروبي والتواطؤ مع الدول الأوروبية التي تَفرض سياسات عنصرية في موضوع الهجرة، حيث تفصل فيها تأشيرة الموت الأوروبية بين جنوب المتوسط وشماله.

منذ بداية الفاجعة كان التعامل مع قضية جرجيس باعتبارها شأنا أمنيا، وشهدنا الغياب المطلق للدولة وتجاهلها لقضية المفقودين. الحضور الوحيد للدولة كان عبر المغالطات وإخفاء المعلومات والتستر على جريمة دولة كنّا شهودا عليها. قَدّمَت جرجيس ومازالت نموذجا في التضامن الشعبي والتماسك الاجتماعي أمام دولة الكذب والغياب. وقَفنا مع بعضنا البعض ومع مدينتا عبر هبّة شعبية متواصلة لأبناء وبنات جرجيس في الداخل والخارج. لم يتوقع المسؤولون  أن تصمد المدينة وسكانها كل هذه الفترة. فاجأهم طول نفس الحراك في كل مرة ظنّوا فيها أن المراهنة على التجاهل  والمماطلة  والقمع ستنجح.

منذ بداية عمل الإنابة العدلية التي وَجّهَهَا قاضي التحقيق بمدنين للفرقة الثالثة للأبحاث التابعة للإدارة العامة للحرس الوطني والسماعات الأولى لعائلات الشهيدات والشهداء المفقودين والمفقودات من قبلها نبَّهنا إلى محاولات توجيه الأبحاث من قبل منطقة الحرس البحري بجرجيس. بل تجاوز الأمر ذلك إلى الهرسلة (الضغط). توسّعَ البحث نفسه نحو قضايا قديمة مرتبطة بموضوع الحرڤة بشكل عام، وتمّ تجاهل القضية الأساسية المتمثلة في كشف الحقيقة ومعرفة مصير المفقودين والمفقودات.

مطلبنا كان ولازال الحقيقة والعدالة؛ معرفة ماذا وقع ليلة 21 سبتمبر 2022. لماذا دفع الحرس البحري  نحو دفن الجثث في مقبرة حدائق إفريقيا بداية من 27 سبتمبر ونقل بعضها للمستشفى الجهوي بقابس دون إعلام العائلات ودون تشريح، ودون فحص جيني رغم أن العائلات توجهوا له ببلاغ بداية من 24 سبتمبر بفقدان التواصل مع القارب ومن فيه، و هو الجهة الرسمية المكلفة بحماية السواحل و التي لها الصلاحية منذ  الاعلام بوجود جثة وانتشالها سواءً في عرض البحر أو على الشاطئ ونقلها للمستشفي ثم دفنها. نفس هذه السلطة الأمنية المحلية رفضت الخروج للبحث وتعذّرَت بسوء الأحوال الجوية رغم أن النشرة الجوية تثبت العكس. وحتى إذا افترضنا جدلا صحة ذلك كيف للمُكلّفين بحماية الحدود البحرية ترك الحدود دون حراسة، وهي أحد مهامهم، إضافة أيضا إلى وجود حراسة تقوم بها البحرية الوطنية.

قلنا ومازلنا أن الإصرار على مواصلة الجهود نحو طمس معالم الجريمة لن يثنينا عن مطالبنا نفسها وهي إيجاد الجثث العشرة التي يتم اخفائها لحد الآن في إطار نفس المحاولة لإخفاء الجريمة. وذلك من أجل الحقيقة والعدالة، ومحاسبة المتورطين مهما كانت مكانة السلطة التي ارتكبت تلك الجريمة.

المحاكمة الحالية:  “مَانَاشْ نَادْمِين”

يوم 21 نوفمبر 2024 صَدرَ حكم قضائي غيابي بالسجن على خلفية إحالة من النيابة العمومة وفق الفصل 24 من الرسوم 54. تفطنّنا إلى ذلك لاحقا وإنعقدت جلسة إعتراضية يوم 2 جانفي 2025. إن محاكمة الحراك الاجتماعي جرجيس 18/18 تندرج ضمن محاكمة الفعل الإجتماعي والسياسي في البلاد، وهو فعل ينتمي لثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي، ولمسارات الاحتجاج الاجتماعي التي لم تنقطع رغم عنف الدولة الذي تواصل ضد كل أشكال الاحتجاج والرفض ومحاولات التنظّم والتضامن الجماعي.

إن المتابعات الأمنية القضائية تُمثّل نهجا سياسيا يحوّل المحتجين والفاعلين الاجتماعيين والسياسين من أصحاب حقوق إلى موضوع إتهمام ومُجرمين. فتجريم الفعل الاجتماعي والسياسي تسعى من خلاله أجهزة الدولة إلى إسكات ومعاقبة أي حركة إحتجاجية، حتى تقوم بردعها ومن وراء ذلك تقوم بردع إمكانيات الفعل والاحتجاج في المستقبل.

ما يجب أن يكون هو محاكمة القتلة والمجرمين الذين قتلوا أبناءنا في عرض البحر وأخفوا الجثث في جنح الظلام ودفنوهم في جنح الظلام أيضا، والذين يواصلون إلى حد الآن إخفاء الجثث؛ إذ أن البحث التحقيقي المفتوح أمام نفس المحكمة منذ سنتين لم يُسفر إلى حد الآن عن أي تقدم رغم توجيه تهمة القتل العمد وعدم الإنجاد القانوني، إضافة إلى تهم إخفاء جثث وتزوير محاضر رسمية وإنشاء مقبرة على غير الصيغ القانونية. ومازالت العائلات مكلومة إلى اليوم، وتبحث عن مفقوديها ومتأكدة أن أبناءها تمّ الاعتداء عليهم. تعيش العائلات محنة مستمرّة.

 رغم هذه المحاكمات نحن متمسكون بالحقيقة والعدالة، وبمعرفة مصير المفقودين العشرة: الرضيعة ساجدة نصر وتسعة شباب آخرين. ومتمسكون أيضا بالكرامة لكل المهاجرين. إن هذه المحاكمة لن تثنينا عن التمسك بالحقيقة والعدالة وبمحاسبة كل من تورط في هذه الجريمة ورفضنا ثقافة الإفلات من العقاب التي تَمنح بموجبها أجهزة الدولة حصانة لمرتكب الجريمة عندما يكون منتميا لأجهزتها التي تحتكر السلطة والقوة  وتتحكم في تطبيق القانون. وإن استمرار مسلسل الإفلات من العقاب ومسلسل العنف الأمني برًّا وبحرا، من عمر العبيدي لخميس اليفرني لأنور السكرافي إلى أبناء جرجيس وضحاياها وكل ضحايا العنف الأمني وملفات الافلات من العقاب، يرتبط بالحصانة المستمرة التي يتمع بها هؤلاء من قبل الدولة وأجهزتها، بما يجعلهم في مأمن من المحاسبة.


[1] قانون عدد 40 لسنة 1975 مؤرخ في 14 ماي 1975 يتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر، المنقح بالقانون عدد 6 لسنة 2004 المؤرخ في 3 فيفري 2004.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني