بين أزقّة المدينة القديمة وميناء الصيادين، أجيال مرّت وتغييرات طرأت على مدينة صور “سيدة البحار”. وعلى الرغم من الحياة التي تدبّ في أروقة المدينة بناسها والسائحين والعاملين فيها، ينكفئ ميناء صور على نفسه. فعل الزمن والإهمال فعلتهما به، ميناء عجوز يقع على خاصرة المدينة يتّكئ على عدد من السفن والباخرات الصغيرة للعمل. حتى أنّ طابع المدينة السياحي وتغيير طابعها بفعل مشروع الإرث الثقافي جعل الوصول إلى الميناء صعباً بفعل شبكة المواصلات الضّيقة. فصار الدخول والخروج إليه عبئاً.
ميناء وليس مرفأً
تميّز المادة الثانية من نظام المرافئ والموانئ اللبناني بين المرفأ والميناء، فتعرّف الأول بأنه حوض أو مجموعة أحواض بحرية مجهّزة بالأرصفة والإنشاءات الثابتة والتجهيزات التي تؤمّن للسفن سلامتها وتسهّل لها الرسوّ وإنجاز أعمالها المرفأية مباشرة على الأرصفة. أما الميناء فيُعرّف بالثغر أو الجون البحري الصالح لرسوّ السفن بدون وجود تجهيزات وإنشاءات مرفأية.
والمادّة الثالثة تصنّف المرافئ والموانئ لجهة منشآتها والأعمال التجارية فيها إلى فئتين، تتضمّن الأولى ثلاث درجات، الدرجة الأولى: مرفأ بيروت، والدرجة الثانية: مرفأ طرابلس، والدرجة الثالثة: مرفأ صيدا. ويأتي ميناء صور في الفئة الثانية ضمن الدرجة الأولى، في حين تحلّ موانئ: جونيه وجبيل وشكا، والموانئ الواقعة على الشاطئ والمعدّة لقوارب الصيد وزوارق النزهة، في الدرجة الثانية.
تتراوح مساحة ميناء صور بين 16 و18 ألف متر مربّع وهو يختلف عن غيره من موانئ ومرافئ لبنان إذ يعمل بطاقات وقدرات استيعابية بسيطة لا تؤهّله لمنافسة أي مرفأ آخر أو حتى فتح أبوابه وأرصفته أمام البواخر الآتية إلى مياه لبنان. وتُختصر حركة الملاحة فيه على استقبال البواخر التي لا يتخطّى عرضها 22 متراً والصغيرة نسبياً كبواخر السيارات الآتية من أوروبا وألمانيا تحديداً، فيما يعجز عن استقبال بواخر وسفن كبيرة بسبب عمق المياه الصغير الذي لا يتجاوز 9 أمتار.
على هذه المساحة الصغيرة، يستقبل ميناء صور من 8 إلى 10 بواخر سنوياً، 12 باخرة في الحد الأقصى. يتألف الميناء من حوض بحري مع 6 أرصفة تقريباً بعمق 7 أمتار. يدير المرفأ مصلحة استثمار مرفأ صور التي أنشئت عام 1994 كمؤسسة عامّة لها استقلالها المادي والإداري بحسب المرسوم 4517 الذي ينظّم عمل المؤسسات العامّة. ترتبط المصلحة بوزارة الأشغال العامة والنقل وتخضع لوصايتها الإدارية والمالية. وينصّ القانون على استغلال أقصى مساحة ممكنة من الميناء لتحقيق الربحية، إلّا أنّ المفارقة أنّ هذه المساحة غير موجودة.
إيرادات لا تكفي لدفع أجور الموظّفين
يتركّز عمل المرفأ على تجارة السيارات بسبب صغر مساحته وضحالة المياه وهما العائقان الأساسيّان أمام توسيع العمل. ويبلغ عدد السيارات الداخلة 3500 سيارة سنوياً، وتستوفي مصلحة استثمار المرفأ رسم أرضية عن كل سيارة فيما تستوفي إدارة الجمارك المبالغ الأخرى. سجّلت سنة 2019، سنة الذروة حيث تم إدخال 6000 سيارة. ويصل حجم الإيرادات السنوية إلى مليار ليرة لبنانية. ولكن هذا المبلغ لا يكفي لدفع أجور الموظفين وتكلفة أعمال الصيانة السنوية في فصل الشتاء.
ويقول علي خليفة مدير مصلحة استثمار مرفأ صور لـ”المفكرة القانونية” إنّ هذه الإيرادات “لا تساعد في تأهيل المرفأ لاسيّما أنّ أموالنا موجودة في مصرف لبنان وبالليرة اللبنانية فيما تبلغ تكلفة تشغيل المرفأ 40 مليون دولار”. كما أنّ الميناء يحتاج إلى توسيع مساحته إذ يطالب خليفة بردم 100 متر من البحر وتوسيع الأرصفة وتعميق مستوى المياه حتى يصبح جاهزاً لتحويله إلى منشأة اقتصادية مربحة من دون أن ننسى ضرورة تمديد كاسر الأمواج الذي يحمي المرفأ من طمر مياه البحر للبناء في فصل الشتاء. ويجد خليفة أنّ تطوير عمل المرفأ من شأنه أن يؤدّي دوراً اقتصادياً في المنطقة وعاملاً جاذباً للاستثمار والمال لاسيما أنّ حاجة لبنان إلى مرافئ ظهرت بشكل جلي بعد كارثة مرفأ بيروت. ويقول خليفة لـ “المفكرة” إنّه قدّم خططاً كثيرة لتطوير المرفأ وزيادة وتيرة العمل فيه وتحويله إلى منشأة مربحة إلّا أنّه ووجه بالرفض دائماً.
بعد انفجار مرفأ بيروت، وفي لحظة البحث عن مرافئ تكمّل النقص الواقع بسبب تضرر المرفأ الأساسي، زار وزيرا الأشغال العامّة والنقل ميشال نجار والصناعة عماد حب الله ونواب المنطقة مرفأ صور للاطلاع على وضعه وإمكانية تشغيله ووعدوا بالعمل على تطويره إلّا أنّ الوعد على ما يبدو تبخّر مع تقديم الحكومة استقالتها.
وإن كان مرفأ صيدا قد بدأ فعلياً بالعمل واستقبل باخرتين فإنّ حال مرفأ صور لا تؤهّله لمباشرة العمل فالمعوقات كثيرة بحسب علي خليفة، منها ضحالة المياه التي لا يتعدّى عمقها تسعة أمتار لا يسمح بدخول البواخر والسفن الكبيرة ولا يمكّن أي سفينة يتعدّى عرضها الـ22 متر من الرسوّ بداخله، ثم أنّ كاسر الموج بحاجة إلى ترميم وتمديد طوله، إضافة إلى عدم وجود الآليات والتجهيزات والرافعات لنقل البضائع بالإضافة إلى أنّ أبينة المبنى مهددة بالسقوط.
مرفأ سياحي أم مرفأ تجاري؟
صحيح أنّ طابع ميناء صور اليوم تجاري، إلّا أنّه بسبب ضعف حركة الملاحة البحرية وعدم الاستفادة منه بالشكل المطلوب وطابع المدينة السياحي وتصنيف مدينة صور كمركز سياحي متقدم، برزت طروحات لتحويل ميناء صور إلى مرفأ سياحي مع إنشاء مارينا صغيرة لاستقبال السفن في الأحوال الطارئة واستيعاب الضغط. وبحسب مدير المواقع الأثرية في الجنوب علي بدوي إنّ “وزارة الأشغال والنقل بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار أجرت دراسة جدوى قبل أكثر من 10 سنوات لتطوير مرفأ صور وقد تبيّن أن تطوير التجارة في المرفأ لن ينفع بسبب عدم وجود ضغط كبير على عمل المرفأ كما أنّه قد يخلق جوّاً تنافسياً سلبياً بين المرافئ”. وبعد استشارة شركات متخصصة تبيّن أنّه من الأفضل تطبيق مقترح تحويل مرفأ صور إلى مرفأ سياحي. وتمّ التوافق أولياً على أن يُصار للانتقال إلى المرحلة الثانية والقيام بالدراسة التفصيلية إلّا أنّ مشكلة التمويل والجهة التي ستكمل الدراسة (وزارة الأشغال والنقل أو مجلس الإنماء والاعمار) حالت دون السير في هذه الدراسة وعليه بقي مرفأ صور على وضعه العاجز الحالي.
ويقول بدوي إنّ صور مدينة صغيرة وسيناريوهات تطوير مرفأ تجاري فيها يحتاج إلى أعمال ردم والمطلوب في النهاية أن يكون لها مرفأ بدون إجراء تغييرات سكانية وبدون أي ضرر. فتطوير مرفأ تجاري من شأنه تلويث البيئة البحرية والإضرار بالسياحة، وتغيير وجه المدينة الديمغرافي بسبب إبعاد السكان عن منازلهم وتغيير طابع أحياء المدينة ووجهة استعمال الأبنية متسائلاً ما هي القيمة المضافة التي سيقدّمها المرفأ في ظل وجود مرفأ صيدا القريب؟
غير أنّ نواب المنطقة لديهم رأي آخر، إذ يقول النائب عن حزب الله في مدينة صور حسن عز الدين في حديث لـ”المفكرة” أنه “في حال تطوير هذه المنشأة الاقتصادية فإنها ستنعكس إيجاباً على قطاعي الصناعة والتجارة وبالتالي تساهم اقتصادياً على كافة المجالات”.
ويضيف أنّ “أول فرصة سنحت لنا في العمل على تشغيل مرفأ صور واكبناها، صحيح أنّها جاءت نتيجة الكارثة الوطنية التي حلت في مرفأ بيروت إلا أنه وبعد جولة ميدانية على جميع المرافئ في الجنوب لمسنا اهتماماً من الوزراء. ولكن للأسف قبل وضع النية لتطوير العمل تم حل الحكومة”. غير أنّه شدد على أنّ ذلك “لا يعفينا كنواب للمنطقة من واجبنا، ومع تشكيل حكومة جديدة سيكون موضوع مرفأ صور على جدول أعمال الحكومة وسوف نثير هذا الموضوع حتى الوصول إلى تحقيق أهدافنا”.
ويرى خليفة أنّ كلّ ما حظيت به المرافئ اللبنانية على السنوات الماضية كانت وعوداً بمدّها بالاهتمام الذي يجعلها تقف على قدميها، وعود بقيت حبراً على ورق فحتى اليوم تركت المرافئ لمصيرها وتعمل باللحم الحي، على حد تعبيره. فمرفأ صور مهمل كما أنّ أبنيته مهددة بالسقوط، أضف إلى أنّ حركة الملاحة تتوقف شتاءً بسبب طمر مياه البحر لجزء من المرفأ.