لم يتمالك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي نفسه وذرف الدموع خلال لقائه ثلّة من عمداء ورتباء وضباط وعناصر سابقين من كافة الأسلاك العسكرية الذين أخبروه عن أوضاعهم المعيشية. فعندما قال له أحد هؤلاء “ما معنا مصاري”، بكى ميقاتي. وقال له آخر “راتبي لا يكفيني لإطعام أولادي أسبوعًا واحدًا” بكى ميقاتي، ولمّا قال ثالثهم “بدي كل يوم 700 ألف خبز وزعتر ومعاشي 6 ملايين” بكى أيضًا ميقاتي، وحين قال رابعهم “لم أعد أستطيع الحصول على دوائي” بكى مجددًا ميقاتي.
لم يكن مفاجئًا بكاء الرجل “تحسّسًا” مع عامّة الشعب، فهو افتتح ولايته بالبكاء حين أعلن تشكيل حكومته، في العام 2021، وهو يصف الأحوال المعيشية الصعبة التي يواجهها اللبنانيون كل يوم.
واليوم مجددًا لم يجد رئيس الحكومة ما يفعله للعسكريين المتقاعدين الذين أصبحوا تحت خط الفقر المتعدد الأبعاد (الحرمان من الخدمات: مياه، كهرباء، رعاية صحية، دواء، تعليم، مسكن…) مثلهم مثل 82% من سكان لبنان بحسب دراسة الإسكوا، سوى البكاء.
والوفد الذي التقى ميقاتي كان جزءًا من تظاهرة احتجاجية دعا إليها المتقاعدون اليوم صباحًا، والذين بدا وقع الأزمة عليهم أكثر إيلامًا وهم يتلقّون القنابل الدخانية من قوى مكافحة الشغب التي تسبّبت بحالات اختناق وإغماء في صفوفهم. فبعد أن لامس سعر صرف الدولار عتبة لـ 130 ألف ليرة أمس، تداعى هؤلاء اليوم، يرافقهم مودعون ومواطنون أتوا من كل المناطق اللبنانية، للنزول إلى ساحة رياض الصلح، احتجاجًا على الدرك المعيشي الذي بلغته أحوال البلاد، ليكون رد السلطة بهذا الشكل العنيف كأنه ممنوع رفع الصوت، بل الموت جوعًا بصمت.
إصابات في صفوف العسكريين
“أنت مجنون! ليس بإمكاني أن أشتري ربطة خبز، فكيف سأدفع كلفة الفان الذي سيقلّنا من برجا إلى بيروت؟” هذا ما ردّ به المؤهل الأوّل المتقاعد، الذي لم يشأ ذكر اسمه، حين دعاه صديقه مستعجلًا لمرافقته إلى الاعتصام في ساحة رياض الصلح. وأضاف: “خدمت في مؤسسة الجيش أكثر من 25 عامًا وها أنا اليوم متقاعد جوعان، لا أملك حتى ثمن رغيف الخبز”. استدان الرجل ثمن أجرة الفان كي لا يغيب عن التظاهرة التي هي وسيلته الوحيدة اليوم ليطالب بحقه.
ومثله النقيب محمد الجعيد الذي قال: “أعطيت وظيفتي أكثر مما يجب، لكنها لم تقابلني إلّا بالحرمان والعوز. أخاف من اليوم الذي سأبقى فيه وحيدًا حين يترك أولادي فيه هذا الوطن الذي علّمتهم الصمود والبقاء فيه”.
المشهد اليوم، في ساحة رياض الصلح، سرعان ما أعاد إلينا مشهد المواجهات التي كانت تحصل في المكان نفسه في 17 تشرين، حيث ارتفعت وتيرة القمع من قبل فرقة مكافحة الشغب ضد المتظاهرين وأُطلقت القنابل المسيلة للدموع. كما تحدثت جمعية المودعين عن رصاص حي أطلق في الهواء أيضًا لتفريق المحتجّين. كل ذلك حصل على ثلاث مراحل، وفي كل مرة كان العسكريون يبتعدون ليلتقطوا أنفاسهم ثم يعاودون التوجه نحو السرايا، في محاولة لعبور السياج والأسلاك الشائكة، وكلما أعادوا المحاولة كانت ترمى عليهم القنابل الدخانية.
وقد تعرّض العميد المتقاعد جميل داغر، لإصابة بالغة في وجهه وفي عينه اليمنى، وجرى نقله إلى المستشفى العسكري، ثم إلى مستشفى أوتيل ديو حيث لا يزال يخضع للعلاج.
“المفكرة القانونية” اتصلت بالعميد داغر الذي قال إنّه لم يعرف كيف أصيب، وكل ما يذكره أنّه وقع أرضًا “حملوني رفاقي إلى المستشفى وطمأنني الطبيب أنّ عيني ستكون بخير، فالإصابة لم تخترق شبكة العين، بل أصيب البياض بالجروح”.
وبدوره قال العميد المتقاعد جورج نادر إنّ داغر قد يكون تعرّض لرصاص متفجّر، أو يمكن أن يكون السبب قنبلة مسيلة للدموع “فقشت” في رأسه، ولا يمكن أن تكون الإصابة من جرّاء رصاص مطاطّي، لأنّ الجرح في العينين عميق والرصاص المطاطي لا يؤدي إلى هكذا إصابة.
ووصف العميد المتقاعد شامل روكز ما حصل بـ “المعيب من عسكريين حاليين بالخدمة أطلقوا القنابل المسيلة للدموع على العسكريين المتقاعدين”.
العميد داغر إلى اليسار وتبدو إصابة عينه ووجهه
رسائل سياسية ومطلبية
بدأ الاعتصام بتوجيه رسالة سياسية عبر بيان ألقاه أمين سر تنسيقية الدفاع عن حقوق العسكريين عدنان الجعيد دعا فيه الكتل النيابية إلى الإسراع بانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة إصلاح تعيد للبلد مكانته الدولية وتفتح المجالات أمام عودة الدورة الاقتصادية والتشريعية والقضائية إلى سابق عهدها مما يمكّننا من مطالبة الحكومة العتيدة ومجلس النواب بتصحيح الوضع الأسود الذي نعيشه. ثم رسالة مطلبية ومنها: “تثبيت الرواتب على سعر صيرفة ٢٨٥٠٠ ل ل كما كان معتمدًا بتاريخ صدور موازنة العام ٢٠٢٢ بتاريخ ١٥ كانون الأول ٢٠٢٢، رصد الأموال اللازمة لتغطية كامل نفقات استشفاء جميع الأسلاك العسكرية خاصة قوى الأمن الداخلي والضابطة الجمركية ورصد الأموال اللازمة لتغطية المنح المدرسية للمتقاعدين توازي منح تعليم عناصر الخدمة الفعلية. ومن المطالب أيضًا دعوة المصارف لدفع كامل الرواتب والتعويضات للعسكريين المسرّحين حديثًا من دون أي سقف ومعالجة موضوع القروض التي منحت للمتقاعدين بالدولار بحيث تسدد على دولار ١٥٠٠ ل ل أو يتمّ جدولتها من جديد إضافة إلى تبنّي مطالب المعلمين والأساتذة في القطاعين العام والخاص، وتبنّي مطالب العمال والطلاب في الجامعات والمدارس العامّة والخاصّة، وتحرير ودائع المودعين والحصول بكرامة ومن دون استجداء على جنى أعمارهم، ومطالب الناس الذين بأكثريتهم أصبحوا تحت خط الفقر، ولا يستطيعون العيش بالحد الأدنى.
لقاء ميقاتي: دموع بدموع
قبل انتهاء الاعتصام خرج وفد من العسكريين المتقاعدين من ضباط ورتباء وعمداء يمثلون الأسلاك العسكرية كافة، ودخل إلى السرايا الحكومي من أجل التفاوض مع الرئيس نجيب ميقاتي. وقد نقل الأخير إلى المعتصمين وعودًا بإدراج مطالبهم على الجلسة الأولى التي يعقدها مجلس الوزراء الأسبوع المقبل، الأمر الذي أدى إلى تأجيل هذا التحرّك إلى يوم الاثنين المقبل وذلك إفساحًا في المجال أمامه لاتخاذ الخطوات اللازمة.
ولكن غلبت ميقاتي دموعه أثناء إخبار العسكريين له عن أحوالهم، بحسب ما نقل بعضهم لـ “المفكرة”.
يذكر بأنّه كانت هناك دعوات عدّة من قبل نواب وجهات سياسية للانضمام إلى تحرّك اليوم، إلّا أنّ بعض المتظاهرين من العسكريين المتقاعدين رفضوا مشاركة بعض من النوّاب وناشطين آخرين من 17 تشرين في هذا التحرّك، حيث اعترضوا على مشاركة النائبتين بولا يعقوبيان ونجاة صليبا، كذلك على مشاركة مجموعة من المحامين ومن بينهم واصف الحركة، ما أثار بلبلة وسط العسكريين الذين انقسموا بين من يرى الساحة ملكًا للجميع وبين من وصف وجودهم بمحاولة التسلّق على التحرّك.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.