أمس كان يوما هاما على صعيد مواجهة السياسات المفروضة من المصارف على المودعين فيها. ففي موازاة حراكات شبابية مختلفة في هذا الفرع أو ذاك (وأهمها حراك شباب عكار أمام فرع مصرف لبنان والمهجر في حلبا)، صدرت وثيقتان بالغتا الأهمية: الأولى، البيان الصادر عن نقيب محامي بيروت ملحم خلف والثاني القرار الصادر عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح بقبول دعوى أحد المودعين بإلزام مصرف بنك البحر المتوسط بإجراء حوالات للمبالغ المودعة في حسابه الجاري للخارج. وقد تضمنت كلا الوثيقتان إدانة واضحة لسياسة تقييد الرساميل المعتمدة من المصارف وفي الآن نفسه استدعاء للمشرع لأداء دوره بوضع قواعد ناظمة تمنع الانتقائية وتضمن حقوق المودعين قدر الممكن والمساواة فيما بينهم.
هكذا أدان خلف تسلّط المصارف وتنصل سلطات الدولة من مسؤولياتها
أول ما يلفت هو أن بيان النقيب خلف صدر عنه شخصيا وليس عن مجلس النقابة كما درجت العادة. وهذا الأمر إنما يؤشر إلى إصرار خلف (الذي يمثل في شخصه وظروف نجاحه أملا باستعادة دور النقابة في حماية الحقوق والحريات) على إعلان موقفه بمعزل عن مواقف أعضاء المجلس، والذي يبقى هو في غالبيته خاضعا لسطوة الأحزاب السياسية، بما لها من ارتباطات عضوية مع المصارف.
وبعدما استهلّ خلف كتابه بالتذكير بأن النظام الاقتصادي في لبنان هو نظام ليبرالي مكفول في مقدمة الدستور وأنه طالما شكل ميزة تفاضلية لاقتصاد لبنان لا يمكن التفريط فيها، رأى أن الاجراءات المقيدة لحقوق المودعين والمفروضة بإرادة المصارف وحدها في ظل تقاعس مصرف لبنان والهيئات الرقابية وسوء الإدارة الحكومية وضعف الرقابة البرلمانية، أتت بنتيجة معاكسة تمثلت بتراجع الثقة الداخلية والخارجية بالقطاع المصرفي وهي ثقة يصعب نيلها مجددا في حال فقدت. وعليه، وبعدما أكد خلف على تمسك النقابة بهذه المبادئ بمعزل عن الوضع السياسي أو الاقتصادي المأزوم، فإنه رأى أنه لا يمكن الحياد عنها إلا في حال وجود مبرر جدي وحقيقي لإجراء أي قيود في هذا المجال تداركا لانهيار مفترض”، وعلى أن توضع هذه القيود (في هذه الحالة وفقط في هذه الحالة) “بقانون يصدر عن مجلس النواب وفي المضمون على نحو عادل يميز بين وضعيات قانونية مختلفة للمودع كأن يصار إلى مراعاة النفقات الشخصية الحياتية للأفراد والتشغيلية المؤسساتية التجارية والمهنية وضرورات الاستيراد وحفظ الحقوق”. أما أن تتقرر هذه القيود من قبل جمعية المصارف “التي هي جهاز نقابي للمصارف ولا تشكل سلطة دستورية على المودعين”، فإن هذه القيود تكون غير دستورية وغير قانونية ويقتضي وقفها فورا. ونلحظ هنا أن البيان لم يكتفِ بحصر صلاحية أي تقييد على حق الملكية بصدور قانون، إنما اشترط فضلا عن ذلك أن يكون أي تقييد لحق الملكية مبررا ومتناسبا مع المصلحة العامة المرجو تحقيقها من خلاله، وبحدود ما تقتضيه هذه المصلحة، أي أن يتمّ وفق مبدأي التناسب والضرورة.
واللافت أن النقيب خلف أنهى بيانه من خلال إعلان “الثقة بالقضاء اللبناني لوضع حدّ لأي تجاوز أو تعسف بحق المودعين الذين لا يمكن تحميلهم عبء الأزمة البنيوية للبلاد” على أن “تواظب نقابة المحامين في بيروت السهر على هذا الملف منعا للتمادي في هذه الاجراءات وسعيا وراء إحقاق هذه الحقوق”. وعليه، جاء القرار القضائي الصادر في اليوم نفسه، بالتزامن مع بيان النقيب، بمثابة توأم له وفي الآن نفسه بمثابة باكورة له.
القضاء المستعجل يفتح الباب أمام المودعين لتحرير حساباتهم
مثّل القرار الصادر عن قاضية الأمور المستعجلة كارلا شواح القرار الأول من نوعه في محافظة بيروت، فيما كان سبقه قراران صادران عن قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر ذهبا في اتجاه مصارف بالاستجابة لطلبات المودعين بالتصرف بأموالهم. اللافت في هذا القرار أنه صدر في إطار دعوى وجاهية، أمكن فيها للمصرف المدعى عليه أن يدلي من خلال محامين بعضهم يتمتع بشهرة عالية كوزير العدل السابق شكيب قرطباوي، كلّ ما لديه من حجج معقولة لرد الدعوى. وعليه، يمنحنا هذا القرار مادة غنية لفهم حجج المصارف، بعضها هدفت لتبرير تقييد حقوق المودعين بالتصرف بأموالهم، وبعضها الآخر اقتصرت على إنكار صلاحية القضاء المستعجل. وأهمية الحكم لا تكمن في ردّ مجمل حجج المصرف واعتبار أي قيد على حقوق المودعين بمثابة تعدّ واضح عليهم وحسب، إنما أنه ذهب أبعد مما يفرضه إطار النزاع أو ما يحتاج إليه لبت الدعوى، في اتجاه تعرية سياسات المصارف في هذا المجال وتحميلها مسؤولية الأزمة الحاصلة مما يحرمها امكانية التذرع بها لضرب حقوق المودعين لديها.
المصارف هي مسؤولة عن الأزمة وليس لها التذرع بها
بعدما ذكر الحكم أن المصرف لم ينفكّ يدلي في غير موضع بوجود أزمة مالية محاولا اعتبارها مبررا لنكوله عن الالتزام بموجباته، رأى أن المبرر القانوني الوحيد لعدم الإيفاء بالموجب إنما يكمن باستحالة التنفيذ أي بأن تشكل الأزمة المدعى بها قوة قاهرة، وهو أمر غير متوفر في ظل ممارسات المصارف الحالية والسابقة.
فالتذرع بالقوة القاهرة يعني وجود حدث خارجي غير متوقّع وغير قابل للدفع يحصل بمعزل كلي عن المديون، فيما أن المصارف التي تلقت أموال المودعين “اختارت أن توظفها بفوائد مرتفعة جدا مقارنة بالفوائد العالمية مع ما يصاحب ذلك من مخاطر عالية وحصدت ومساهميها أرباحا خيالية سبق أن نشرتها ولم تظهر هذه الأرباح البتة لتساهم في علاج الأزمة التي تتذرع بها المصارف“ (واللافت أن هذه القاضية أوردت هذه العبارة بالخط الأسود العريض bold ضمن حكمها تأكيدا على أهميتها). وقد أردف الحكم بما يشكل تذكيرا هاما بطبيعة النشاط التجاري وإن أمكن تصنيفه ضمن البديهيات: “من المعلوم قانونا أن التاجر يربح تارة ويخسر طورا وأن رؤوس أموال الشركات إنما شرعت لضمان حقوق دائنيها وأن القانون ألزم الشركات بترك احتياطي إلزامي وآخر نظامي وآخر حرّ، كل ذلك كي لا تعجز عن إيفاء موجباتها، لأن الشركات المساهمة وأهمها المصارف، عصب الحياة الاقتصادية”. وهنا بدت القاضية وكأنها تدين بشكل تامّ المصارف التي تراكمت أرباحها “لثلاثين سنة خلت” من خلال إقراض الدولة ومصرف لبنان بفوائد عالية (يحلو لوزير المال السابق جورج قرام تسميتها بالفوائد المجنونة) نتيجة انخراطها بنشاطات غير مألوفة عالية المخاطر، من دون أن تتخذ أي منها الاجراءات اللازمة لحماية حقوق المودعين. ويضيف الحكم في سياق ما هو بمثابة مضبطة اتهامية أن أيا من المساهمين الرابحين لم يستحضروا “ما قدموه في شركاتهم ولا أي جزء من الأرباح المتراكمة كاحتياطات لتلبية الناس، بل ترفض المصارف والقيمون عليها أن يخسروا سنة واحدة لإيفاء التزاماتهم علما أن مصرفا واحدا لم يستحضر أي سيولة مما أودع خارج لبنان، كما يعلم الكافة… فالخيار أمام المصارف في لبنان إما الربح عند عدم وجود الأزمات وإلا احتجاز أموال المودعين إذا وجدت أزمات سببتها خيارات التوظيف السيئة لأموال ائتمنوا عليها”.
وبذلك، انتهى الحكم للقول بأن الأزمة التي تتذرع بها المصارف لا تتوفر فيها أي من مواصفات القوة القاهرة. فلا هي حدث خارجي غير متوقع ولا هي حدث غير قابل لتجاوزه، بل هي تتعارض مع المادة 156 من قانون النقد والتسليف التي تنص على أنه “على المصارف أن تراعي في استعمال الأموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه”.
وفي اتجاه تجريد المصارف من امكانية التذرع بأسباب خارجة عنها، وبما لا يقل أهمية، أكّد الحكم أن الأزمة لم تنتج عما يحصل منذ 17 تشرين الأول (والقصد منذ بدء الانتفاضة ضد النظام السياسي القائم والتي تترع بها عادة المصارف) بل هي أحد مسبباته. وبذلك، جاء الحكم لينسف الاتجاه إلى قلب الحقائق والذي دأبت عليه أحزاب السلطة والمصارف، وقوامه جعل 17 تشرين الأول سببا للأزمة فيما هي بالواقع مجرد انتفاضة على النظام الذي تسبب بها، وفي محوره العلاقة القائمة بينه وبين المصارف.
تقييد حقوق المودعين بقرار من المصارف تعدّ على حق الملكية
الموقف الثاني بالغ الأهمية في الحكم، وهو يلاقي تماما بيان نقيب المحامين خلف، فمفاده أن ما يقوم به المصرف يشكل خروجا عن النظام الليبرالي المكرس دستوريا وأيضا تعديا على حقوق المودعين، وفي مقدمتها حق الملكية ذات القوة الدستورية أيضا. ويتعزز التوازي بين البيان والحكم من خلال التأكيد على أن فرض كابيتال كونترول (قيود على الرساميل) لا يكون دستوريا إلا بموجب قانون يبررها، وهو أمر غير متحقق لتاريخ صدور الحكم. ونلحظ هنا أن الحكم اشترط كما بيان النقابة أن يكون البيان مبررا وعمليا خاصعا لمبدأي التناسب والضرورة كما سبق وأشرنا. وإذ يلمّح الحكم إلى امكانية اتخاذ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اجراءات مؤقتة في هذا الخصوص، فإنه يستشف من مواقف الحاكم العلنية ما يناقض تماما ما تذرع به المصرف المدعى عليه لجهة وجود تنسيق تام بين الحاكم وجمعية المصارف لتقييد حق التصرف بالودائع. وهذا ما نقرأه بوضوح حين ذكّر الحكم بموقف سلامة الرافض لمبدأ الكابيتال كونترول مع نفيه نفيا قاطعا أي نية باللجوء إليه فضلا عن تأكيده وضع الليرة التي هي “بألف خير”.
وبذلك، انتهى الحكم إلى القول بأن أي تقييد لسحب الودائع إنما يشكل تعديا واضحا على حقوق المودعين، طالما أن جمعية المصارف هي مجرد تجمع مهني ذات أهداف نقابية لا تملك تحت طائلة أي ظرف كان الصلاحية في أن تعدل أو تقيد أو تحصر العمليات المصرفية أيا كان شكلها أو طبيعتها.
وفي الاتجاه نفسه، يسجل أن القاضية أدانت بشكل واضح حجج المصرف المتمثلة في مناقشة مدى حاجة المودع للمبالغ المالية وتحديدا مدى صحة ادلائه بحاجته لتحويل مبالغ مالية لولديه في فرنسا وأسبانيا لإكمال دراستهما الجامعية، والتي احتلت مساحة واسعة من لوائحه. وهذا ما نقرأه بوضوح من خلال تأكيد الحكم “أنه ليس للمصرف الدخول في نقاش مع عميله حول أسباب التحويل والمبالغ المطلوب تحويلها ومدى صحة مقدارها… ومدى الحاجة الملحة إلى إجراء هذا التحويل“، طالما أن للمودع “حق … مطلق بإجراء التحويل.. (و) لم يتوفر أي سبب مشروع يبرر للأخير (المصرف) الرفض“. ويضيف الحكم في الاتجاه نفسه عبارة بليغة تعيد العلاقة بين المصرف وعملائه إلى نصابها الصحيح، وهي عبارة غالبا ما ترددت على ألسنة الناس في تعليقهم على إذلال المصارف لهم والتدخل بخصوصياتهم من خلال مطالبتهم بإثبات حاجتهم للأموال التي هي ملكهم، ومفادها أن “المصرف ليس بولي أمر عملائه بل هو مدين بأموالهم وودائعهم وبالخدمات التعاقدية التي التزم تقديمها لهم“.
الإيفاء لا يتحقق بإعطائه شيكا مصرفيا سيحتجز من مصرف آخر
بعدما تثبت الحكم من حصول تعدّ على حقوق المودعين، انتهى إلى التحقق من مدى قانونية العرض المقدّم من المصرف بإيفاء حقوق المودع من خلال إعطائه شيكا مصرفيا مشطوبا ومسحوبا عليه، وهو عرض يأتي ضمن ممارسة لجأت إليها المصارف بشكل منسق فيما بينها عموما للتنصل من مسؤولياتها تجاه المودعين الذين يصرون على سحب أموالهم. وهنا أيضا بدا الحكم متميزا من خلال عدم الاكتفاء بتقييم العملية بحد ذاتها بل النفاذ منها إلى مفاعيلها العملية. ف “لئن كان الشك وسيلة إيفاء لدى الاطلاع ويقوم في كثير من الأحيان مقام النقود، إلا أن الشك المصرفي المشطوب الذي يعرض المصرف المدعى عليه الإيفاء به لا يعتبر كذلك” في الظروف الواقعية الحاضرة وذلك لسببين أسهب الحكم في توضيحهما: الأول، “أن شروط استيفائه الحالية، والمعلومة من الكافة، عبر إعادة حجزه من قبل مصرف آخر، لا تجعله وسيلة إبراء غير محدودة كالنقود” فضلا عن “أن إعادة فتح حساب مصرفي جديد بموجب الشيك المذكور بات بمطلق الأحوال شبه مستحيل بعدما عمدت غالبية المصارف في الآونة الأخيرة إلى رفض قبول طلبات تعاقد جديدة لا سيما بعملة الدولار” .. وإلا (في حال قبول أي مصرف بفتح حساب بالدولار فإن ذلك) “يحصل ضمن شروط وقيود جد ضيقة كشرط تجميد الوديعة لفترة ثلاثة أشهر، الأمر الذي من شأنه أن يدخل المدعي في دوامة لا تنتهي من القيود على حقه بتحريك أمواله والتصرف بها”. وأهمية الحكم لهذه الزاوية هو أن القاضية بررت موقفها في رفض وسيلة الإيفاء ليس بطبيعتها القانونية كما اعتاد عليه القضاة، إنما بالصعوبات الواقعية التي تحول دون استيفاء المودع لحقه، وهي الصعوبات المتمثلة في توافق المصارف اللبنانية على حجز المبالغ المودعة أو التي قد تودع لديها.
إلى ذلك، اعتبر الحكم أن من شأن الإيفاء من خلال شيك مشطوب أن يرغم المودع على التعاقد مع مصرف آخر لتحصيل حقه، وهو أمر يتعارض حكما مع مبادئ الحرية التعاقدية.
وعليه، انتهى الحكم إلى قبول مطالب المدعي بإلزام المصرف بإجراء حوالتين إلى حسابي ولديه في الخارج تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها ثلاثة ملايين ليرة لبنانية لكل يوم تأخير. وفيما صدر الحكم معجل التنفيذ، فإنه ينتظر أن يصار إلى استئنافه في الأيام المقبلة، مما ينقل معركة المودعين مع المصارف إلى محكمة استئناف بيروت التي ستكون أول مواقعها النظر في قبول طلب وقف تنفيذه أو رده. وينتظر إذ ذاك أن يشكل موقف نقيب المحامين والشارع موقفا ضاغطا جدا في اتجاه التأكيد على صحة الحكم.
خلاصة
بالنتيجة، نلحظ أن الموقفين المشار إليهما اعلاه شكلا معا دعامة قيمية وقانونية لحقوق المودعين، ووضعا أسسا تمكن هؤلاء إلى جانب المحامين من مواجهة الاستبداد الجائر وغير القانوني للمصارف في حجز الأموال المودعة لديها وتضع في الآن نفسه السلطات العامة سواء حاكم مصرف لبنان أو المجلس النيابي أمام مسؤولياتها. ومن الملفت أن يحصل هذا الأمر في موازاة لجوء المصارف إلى القوى الأمنية لمطالبتها بالتدخّل لحماية استبدادها وتعسفها في مواجهة مطالب المودعين باسترداد حقوقهم المشروعة. فكأنما معالم معركة حقوق المودعين تتّضح: إنها معركة دولة القانون التي يمثلها موقفا العدلية المشار إليهما أعلاه بما فيهما من بلاغة ووضوح ضد قوى الأمر الواقع. الكل مطالب طبعا أن يضع ثقله لكسب هذه المعركة.