خريطة لشقة حديثة من موقع مخدومين حيث تبدو غرفة العاملة بحجم زنزانة
بعكس غالبية الأفلام التي تناولت قضية العاملات في الخدمة المنزلية انطلاقاً من وجهة نظر الضحية، اختار فيلم “مخدومين”(2017) لماهر أبي سمرا (الحائز على جائزة أفضل وثائقي من مهرجان دبي السينمائي) الانطلاق من موقع الطرف الأقوى الذي يمثّله “أرباب العمل”، أي الدائرة الواسعة التي تضمّ بالإضافة إلى المكاتب والمخدومين، جميع اللبنانيين المتواطئين بشكل مباشر أو غير مباشر، لاستمرار ما يشبه “نظام العبودية” الحالي.
صوّر أبي سمرا القسم الأكبر من الفيلم في مكتب في الضاحية الجنوبية، موثّقاً علاقات الفاعلين الأساسيين فيه، وآليّات العمل التي تؤدّي إلى قمع وتهميش العاملات. يظهر المكتب في الفيلم، ككيان قمعي، يمتلك بترخيص رسمي، سلطة مصادرة قرار آلاف النساء، إن كان عبر “شرائهنّ وبيعهنّ” كالسلع (مع كفالة ثلاثة أشهر) أو سجنهنّ في غرف مقفلة قبل “تسليمهنّ” إلى الزبائن.
يعرّج الفيلم على مواضيع أخرى مثل التحوّلات الأسرية والاجتماعية التي يخلقها دخول شخص غريب إلى العائلة، في سياق تركيبات جندرية مهيمنة تحدّد الأدوار النمطية بين الأب، سيّد الأسرة ومعيلها المادي، والأم، ربّة المنزل والموظفة التي تحارب من أجل الحصول على استقلاليّتها المادية. وتصبح العاملة في هذه التركيبة بمثابة أم وزوجة بديلة، تحلّ مكان الزوجة الأساسية وتدفع حرّيتها ثمناً لرغبة الأخيرة في التحرّر والاستقلالية.
من ناحية أخرى، تناول الفيلم بشكل مختصر التحوّلات في سوق العمل، من سوق محلي مرتبط بعاملات من الجنسية اللبنانية والسورية والفلسطينية والمصرية إلى شبكة معولمة تستهدف حصراً عاملات من جنسيات وثقافات بعيدة عن العالم العربي. كما يركّز الفيلم على موضوع غرفة العاملة التي تمأسست اجتماعياً ومعمارياً على مدى قرن من الطفرات العقارية، نتيجة تحالف المجتمع والدولة التي أعطت الشرعية والقوننة اللازمة لتكريس هذا النمط العنصري بامتياز.
موقع “مخدومين”
استكمالاً للمجهود البحثي الذي بذله الفيلم، أُطلق قبل أيّام موقع “مخدومين” الذي يمتلك التوجهات الأساسية نفسها للفيلم، لكن مع مادة أكثر توسّعاً، تقارب الموضوع من زوايا ووجهات نظر جديدة. يضمّ الموقع مواد مكتوبة وبصرية، من شهادات وقصص، ومقالات بحثية، ومقابلات، ورسومات مصوّرة، ومقاطع فيديو. تنضوي هذه المواد تحت فصول أربعة هي المكتب، وغرفة العاملة، والعلاقات الأسرية، وأبيض/أسود (تحليل للعنصرية)، وقد عمل عليها باحثون وكتّاب متنوّعون من بينهم نادين بكداش، مريم يونس، محمد أبي سمرا، نزار صاغية، سحر مندور وآخرين.
يدخل المخرج ماهر أبي سمرا قبل صناعة أي فيلم، كما يقول لـ”المفكرة” في “مرحلة من العمل البحثي الذي يشارك فيه عادة مجموعة من الأشخاص. نجمع خلال هذه المرحلة مواد تعطينا الخلفية الكافية للمباشرة بالتصوير، لكن غالباً لا يظهر سوى جزء صغير منها ضمن الفيلم، وينتهي بها الحال مبعثرة بدون حفظ أو توثيق يسمح بوصولها للناس. لكن الآن، قرّرت مخالفة القاعدة، بخاصّة أنّ بين أيدينا هذه المرّة مواد ذات إمكانيات وعناصر مشتركة، ويمكن أن تقدم سيرة حقيقية للمكاتب وغرف العاملات منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم”.
استند أبي سمرا والفريق الذي يعمل معه، إلى مقابلات مع أصحاب مكاتب وأشخاص كانوا ناشطين في المجال خلال منتصف القرن الماضي، بالإضافة إلى مهندسين معماريين وأفراد كان أو لا يزال لديهم عاملات في منازلهم. قرّرت المجموعة أن تعمل على تطوير هذه المقابلات وربطها ببعضها، ثم بحسب الشكل الذي تصل إليه في النهاية يمكن عندها التفكير في الوسيط Medium الذي ستوضع ضمنه.
“لم نكن نريد أن نسجن المادة في كتاب تقليدي أو بحثي، فجميعنا يعرف كيف تبقى الأبحاث التي تصدر سنوياً محصورة ضمن خانة ضيّقة من الجمهور ولا يقرأها سوى متخصّصون. أمّا الموقع الإلكتروني فهو وسيط متاح بشكل أكبر إن كان في لبنان أو في بلدان العالم التي يهّمها الموضوع بقدر ما يهمّنا، كما أنّه متلائم مع تنوّع القصص بين مكتوبة وسمعية – بصرية (تضمّ مقاطع فيديو قصيرة للشخصيات) ويتلاءم أيضاً مع التنوّع اللغوي للمشروع، حيث يضمّ العربية، والإنكليزية وقريباً الأمهرية”.
يزداد مؤخراً استعمال مواقع الشبكة العنكبوتية كمنصّات للإنتاج الثقافي، حيث يلجأ إليها الأفراد والمجموعات، الراغبون في تقديم مشاريع ثقافية “مرنة” وقابلة للتطوير باستمرار. ينطبق ذلك على مشروع “مخدومين” الذي يطمح أن يكون موقعاً قابلاً للتغيير المستمر، يمكنه أن يضيف مستقبلاً مواد جديدة “تمتلك نفس الروحية” وتحاول تشريح هذا العالم من وجهة نظر الفئات المهيمنة، علماً أنّ نصوص جديدة ستضاف خلال الأشهر الأربعة المقبلة وفق أبي سمرا، بالإضافة للترجمة الأمهرية. كما أنّ هناك اقتراحات تعاون مستقبلية مع باحثين/ات أو مؤسّسات، ستفتح للموقع أبواباً جديدة على ثيمات مرتبطة بالموضوع نفسه لكن أوسع وأكثر شمولاً.
يضيف أبي سمرا: “الواقع على الأرض يشهد تبدّلات متسارعة بسبب الأزمة الاقتصادية، ما سيحدث تغييراً في طريقة تعامل اللبنانيين مع العاملات. مثلاً هل يمكن العودة للتعامل مع عاملات لبنانيات أو من العالم العربي مجدداً؟ في حال حصل ذلك، كيف ستستجيب الأسر اللبنانية لهذا التغيّر؟ وما هو مصير غرفة العاملة؟ طبعاً، لا نزال نجهل أجوبة هذه الأسئلة، لكن الحلّ الوحيد هو أن نكون جاهزين مستقبلاً من خلال إبقاء المشروع مرناً وقابلاً للتطوّر”.
الست سلمى
عند الدخول إلى الموقع، يجد القارئ نفسه أمام مادة ذات طابع روائي وتحليلي وفلسفي، لا تقدّم فقط شهادات تؤرّخ للخدمة المنزلية في لبنان، بل أيضاً مادّة متشعّبة ترصد تحوّلات البلد المعمارية وتغيّراته الطبقية والاجتماعية والسياسية خلال قرن من الزمن.
يُفتتح الفصل الأول من الموقع بشهادة امرأة تحمل اسم سلمى (ذكرت بشكل مختصر في الفيلم)، تستند بجزء منها إلى قصة حقيقية، أما الجزء الآخر فقد نسجه أبي سمرا من مقابلات مع نساء عملن في المجال خلال القرن الماضي.
ولدت سلمى خلال العشرينيّات في أحد أكواخ حي الكارنتينا، ثم عند بلوغها التاسعة، وضعها والدها في دار أيتام تابع لإحدى الرهبانيات، كما كانت تفعل العائلات الفقيرة في ذلك الزمن.
هذا الخيار كان يهدف أولاً للتخفيف من الحمل الاقتصادي للفتيات على أهلهنّ، وثانياً للحصول على منفعة مادية منهنّ بعد أن يجد الدير عملاً لهنّ في منازل الطبقات الوسطى والعليا (بفضل شبكة العلاقات التي تملكها الكنيسة). تلعب الراهبات هنا وظيفة السمسار، لكن بدون مردود مادي مباشر، بل رصيد معنوي تستفيد منه الكنيسة بأشكال مختلفة.
تخبرنا سلمى أنّ مهنة السمسار كانت موجودة خلال تلك الفترة، وضمّت نساءً ورجالاً، البعض منهم كان ينتقل بين القرى اللبنانية والسورية الفقيرة بحثاً عن آباء راغبين في تشغيل بناتهم، علماً أنّ العمر المفضّل للعمل يومها كان متدنيّاً للغاية ويتراوح بين 7 و12 عاماً، لتسهيل الهيمنة على الفتاة أو إعادة تربيتها من جديد، بشكل يقولب ثقافتها الأصلية لتتلاءم مع نمط حياة مخدوميها (يمكن إعادة ذلك أيضاً لأسباب اجتماعية – ذكورية بأنّ الفتيات غير ناضجات جنسياً خلال تلك المرحلة العمرية).
عملت سلمى لخمس سنوات في منازل اختارتها الراهبات، بين الأشرفية، زقاق البلاط، ورأس النبع. أحبّها الجميع بسبب شخصيّتها الهادئة والمتّزنة وقوّتها ومهارتها في العمل. لذلك لم تتردّد الراهبات في إعطائها مهمات جديدة كل فترة. أول البيوت التي عملت فيها كان بداخلها خمس عاملات بالإضافة إلى الطاهية التي امتلكت علاقة خاصّة مع العائلة، من مظاهرها، جلوسها معهم صباحاً إلى الطاولة لاحتساء القهوة. لكن بالرغم من بقاء هذا النوع من العاملات مدى الحياة مع العائلة نفسها، إلاّ أنّها لم تكن تحصل على امتياز النوم في غرفة منفردة، وكان عليها النوم مع العاملات الأخريات.
خلال تلك الفترة كان لبنان يواجه أزمة لاجئين حادّة، بعد نكبة فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل وتهجير حوالي مئة ألف فلسطيني من قراهم إلى مخيّمات متفرّقة من لبنان. كان ذلك من أوّل التحديات التي يواجهها البلد المستقل حديثاً عن الانتداب الفرنسي، لكن في الوقت نفسه، كانت فرصة لكثيرين للاستفادة من تزايد المساعدات الإغاثية.
شاركت البعثة البابوية والكنيسة في أعمال الإغاثة، ما تطلّب موظّفين جدداً كانت سلمى من بينهم، العاملة ذات السمعة الجيدة بين الراهبات حينها. هكذا، عادت الفتاة لتكون على تماس مع الشرائح الفقيرة، بدون التخلّي عمّا كسبته من العلاقة بالكنيسة والراهبات.
لكن لم يمر وقت طويل قبل أن تبدأ سلمى باستغلال موقعها الجديد، من خلال اتخاذ مهنة تأمين العاملات للعائلات الغنية بالتعاون مع سماسرة، مستهدفة أولاً المخيّمات الفلسطينية، بما أنّها المناطق الأكثر عوزاً وفقراً، ثم لاحقاً مناطق مثل عكار، جبل محسن، سير الضنية، وجبل العلويين في سوريا…
ازدهر عمل سلمى وآخرين مثلها بعد مجيء فؤاد شهاب إلى الحكم، وافتتاحه مرحلة من التحديث المؤسّساتي. افتتحت حينها مكتبها الأوّل في بدارو، أحد أحياء بيروت الراقية (التي تمركزت فيها عدّة مؤسّسات رسمية)، بعد استحصالها على رخصة “وكيل” بواسطة أحد أقاربها الذي كان قد أصبح موظفاً رفيع المستوى. تطلّب ذلك إيداع مبلغ عشرة آلاف ليرة في المصرف، تحت اسم وزارة العمل (خلال التسعينيّات، سيصبح المبلغ 50 مليون ليرة).
خلال الستينيّات، تطوّر عمل سلمى التي أصبح اسمها حينها الست سلمى، وافتتحت مكتبين جديدين في أحياء بيروتية أخرى، حيث صارت تستقدم قانونياً بين 5 آلاف و10 آلاف فتاة لبنانية وفلسطينية وسورية ومصرية، وهي حصّتها من السوق الذي تشاركته مع 8 إلى 15 مكتباً في بيروت، اُفتتحت جميعها خلال الحقبة الشهابية (1964 – 1958).
طبعاً، اختلفت نسب الجنسيات بحسب المراحل الزمنية، ففي بداية السبعينيّات مثلاً ستتراجع نسب العاملات القادمات من جبل العلويين بعد أن كانت الفئة المهيمنة، بسبب فرض التعليم الإلزامي في سوريا، أما خلال الحرب فسيتراجع استقدام المصريّات (وفق إحدى الشهادات) كما ستؤدّي التحيّزات الطائفية، إلى توقّف شرائح من اللبنانيين عن التعامل مع الفتيات السوريات والفلسطينيات.
بكل حال و”كما أضفت الحقبة الشهابية الطابع الرسمي على هذا النموذج من العمل، تمكّنت السياسات الشهابية من خلق طبقة وسطى جديدة مِن الخبراء والموظفين الحكوميين، الضباط، المهندسين، الأطبّاء، رجال الأعمال، والمحامين” الذين سيصبحون جميعاً زبائن الست سلمى المحتملين.
يمكن أن نضيف إلى هؤلاء أيضاً، زبائن من الأرستقراطية التقليدية الذين يتحدّر بعضهم من الأسر الإقطاعية، والفئات البرجوازية التي توسّعت في بيروت بسبب نموّ التجارة مع سوريا والمنطقة العربية وتطوير المرفأ وزيادة تراكم رأس المال خلال الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى فئات جديدة ظهرت بعد هروب الرساميل العربية عقب حركات التأميم خلال الخمسينيّات، ودخول المال الخليجي خلال الازدهار النفطي.
تحوّلات “غرفة الخادمة”
في الفصل الثاني من الموقع، تسرد لنا المهندسة عبير سقسوق تحوّلات تلك الفترة التي شهدت بيروت خلالها طفرة عقارية ترافقت مع ارتفاع أسعار الشقق والميل لاستغلال أكبر قدر ممكن من المساحات المبنية. “اختفت تدريجياً البيوت الصغيرة المحاطة بالجنائن وحلّ مكانها نمطٌ معماري جديد قوامه العمارات السكنيّة المتعددة الطوابق. بات المسكن يشكل وحدة وظيفية، وأصبحت غرفه تجسّد نظرة جديدة إلى المكان تفصل بين مناطق النهار والليل على الطريقة الأوروبية، وأمكنة النومَ عن السكن، وأمكنة النوم والسكن عن الخدمات”.
في الوقت نفسه، بدأت المشاريع العقارية في ذلك الوقت، بإدراج “غرفة الخادمة” في الملصقات والمواد الترويجية: “بصفتها إحدى مظاهر الحداثة المدينية والتطوّر والرفاهية التي تحلم بها الطبقات الوسطى الصاعدة”. فرض ذلك تحوّلاً في شكل غرفة العاملة، من غرفة التتخيتة فوق المطبخ التي تتصل عادة بدرج ضيّق في البيوت المقتصرة على طابق أو طابقين (يقول أحد المهندسين إنّ ذلك لم يكن مشكلة حينها بسبب عمر العاملات الصغير جداً!) إلى شرفة زجاجية او غرفة غسيل أقرب إلى السجن الانفرادي، منعزلة عن غرف النوم الأخرى، في المباني الأحدث عمراً.
تأخذ سقسوق مبنى دورافور الشهير في عين المريسة وبناية كتّانة في كليمنصو، كنموذجين للتحليل. يُنظر للمبنيين عادة بشكل إيجابي بين المتخصّصين في العمارة، بسبب فضاءاتهما المريحة للسكن ومساحاتهما الواسعة، إلّا أنّ كثيرين يتجاهلون وجود طابقين في المنزلين للعاملات المنزليات، منخفضي السقف (أقل من مترين) ويخصّصان عادة للغسيل والنوم، حيث لا شبابيك كافية فيهما أو مساحات مريحة للحركة.
يذكر أنّ القانون اللبناني يمنع البناء على أساس خرائط تضم غرفاً للسكن ذات مواصفات غير إنسانية (مدى النظر وكمية الضوء التي تدخل إلى الغرفة)، لذلك يتحايل عادة المطوّرون العقاريون على القانون بتواطؤ مع السلطة، ويضعون غرف العاملات تحت تسمية تتخيتة، غرفة مونة، حمام، غرفة غسيل… علماً أنّ القانون الحالي للبناء يستلزم أن تكون مساحة غرفة العاملة، التي أصبحت غالباً قرب المطبخ (أو مكان الشرفة المتحوّلة إلى غرفة زجاجية) أقلّ من 8 أمتار مربّعة كي تكون ضمن فئة الخدمات.
مؤخراً صارت ترفق هذه الغرف بحمام صغير كي لا تستعمل العاملة حمام العائلة. في بعض الحالات يخلق المطوّر العقاري باباً خلفياً للعاملة، من أجل التقليل من اختلاطها بالأسرة خلال دخولها وخروجها من المنزل. تتحدث أيضاً إحدى الشهادات عن وضع بعض العائلات مجلىً منفصلاً للعاملة، لمنع احتكاكها مع ربّة المنزل خلال إعداد الأخيرة الطعام.
تنطلق سقسوق لتفكيك المسارات التي ولدت فيها “غرفة الخادمة”، من تحقيق ذي طابع شخصي وعمومي في آن معاً، يتمحور حول حادثة حصلت مع “عائشة”، الفتاة النيجيرية التي كانت تعمل في منزلهم. يومها (خلال النصف الثاني من الثمانينيّات) وضعت الفتاة “منقل الفحم” في غرفتها قبل وقت قليل من خلودها للنوم، ما أدى إلى نقص الأوكسيجين من الغرفة ووفاتها. كانت والدة سقسوق قد منعت العاملة سابقاً من إدخال المنقل، وحذّرتها من خطورة الفعل الذي “سيجعلها تموت متفحّمة” وفق ما تنقل سقسوق عنها. لكن رغم ذلك، كرّرت الفتاة فعلتها لاحقاً.
عائشة هي واحدة من عدّة فتيات أفريقيات، أتت بهنّ عائلة سقسوق المهاجرة في نيجيريا والسنغال وسيراليون. يمكن رؤية العملية كتبادل للعمالة، لكن بشكل غير متساوي طبعاً، بما أنّ اللبناني هو الطرف الأقوى في أفريقيا وفي لبنان في الوقت نفسه، حيث يحاول لعب دور الرجل الأبيض هنا، والمستعمر هناك.
عند استعادة حادثة عائشة، تجد سقسوق نفسها أمام تساؤل بسيط: في حال عوملت عائشة بشكل إنساني أكثر ووضعت في غرفة ذات تهوئة أفضل، هل كانت ستبقى على قيد الحياة؟ في حال كان الجواب “نعم”، ألا يتحمّل حينها كلّ من شرّع هذا النظام من البناء، مسؤولية عن قتلها؟ (هناك سؤال آخر يمكن أن نطرحه أيضاً عن احتمال حصول سوء تواصل لغوي، لعب دوراً سلبياً بالنسبة لعائشة التي ببساطة لم تفهم قصد الأم).
طبعاً لا تنحصر مشكلة هذه الغرف فقط بالتهوئة والمساحة الضيّقة والموقع ضمن المنزل، بل أيضاً بتكثيفها لديناميّات الهيمنة والقمع والإخفاء التي تطال بشكل مباشر الصحّة النفسية للعاملات وتقديرهنّ لذواتهنّ، ما يساهم في زيادة نسب الكآبة، والإحباط، والإنتحار. تذكر بعض الإحصاءات أنّ عاملة على الأقلّ تنتحر أسبوعياً في لبنان (قبل انخفاض عددهنّ بسبب الأزمة الإقتصادية)، مع العلم أن أكثرية هذه الحوادث تحصل في بيروت، التي تتناقص المساحات المخصّصة فيها للعاملات بشكل أكبر من المناطق الأخرى.
الحرب وتحوّلات السوق
وفق شهادة زين، صاحب المكتب الذي يعتمد عليه أيضاً ماهر أبي سمرا كشخصية رئيسية في فيلمه، يعود تزايد عدد العاملات الآتيات من أفريقيا وجنوب غرب آسيا إلى فترة الحرب (تحديداً عام 1978 حيث استهدف في البداية نساءً من فيتنام وتايلاند بالإضافة للنساء الآتيات من البلدان الأفريقية) ولذلك ارتباط وثيق بالفلتان الأمني الذي كان موجوداً يومها. فمن أوّل الأشخاص الذين أدخلوا العاملات من سريلانكا بأعداد كبيرة إلى لبنان، كان أحد مقاتلي حركة أمل الذي يحمل الجنسية السيريلانكية. وقد حصل ذلك عام 1985 بعد سيطرة الحركة (مع ميليشيات أخرى) على مطار بيروت وأجزاء واسعة من بيروت الغربية (هو العام نفسه الذي شهد عمليات خطف طائرات، استعملت مطار بيروت كمكان آمن للمفاوضات).
بكل حال، لم يكن حينها الانفلات الأمني كافياً لحصول العمليات التجارية، بل تطلّب ذلك أيضاً علاقات يفترض نسجها مع شبكات إقليمية وعالمية، سيّرت كارتيلات لنقل العاملات بين بلدان العالم، تواطأت معها دول، وموظفون كبار، ووزراء، وأجهزة أمنية، وسفارات، ومكاتب طيران.
أما العوامل التي ساعدت في توسيع هذا النمط من السوق بين اللبنانيين، فكانت بالإضافة إلى المعاشات المنخفضة التي تتقاضاها الفتيات الآتيات من سريلانكا (وتوقّف مجيء العاملات من مصر وتراجع أعدادهنّ في سوريا ولبنان)، تفضيل اللبنانيين وجود إثنيّات ملوّنة “مختلفة عنهم” ما يؤمّن شعوراً بالتفوّق العرقي والهيمنة، و”خصوصيّة” أكثر (وفق إحدى الشهادات) بسبب الحاجز اللغوي والثقافي الذي يمنع العاملة من اختراق عوالم المخدومين.
يذكر هنا أنّ المجتمع بأكمله تكافل من أجل الإبقاء على هذه المعادلة تجاه العاملات، من المكتب الذي يسجنهنّ أوّل وصولهنّ، إلى السلطات الرسمية التي تعطي الغطاء القانوني لممارسات عنصرية مثل قانون الكفالة الذي يحوّل العاملة إلى سلعة، أو قانون البناء الذي يكرّس غرفة العاملة ضمن فئة “الخدمات” وليس السكن، وصولاً إلى الأجهزة الأمنية التي إما تمتنع عن التدخّل في مشاكل العاملات لصالح المكتب، أو تقوم بسجنهنّ مباشرة وترحيلهنّ بدون وجود إثباتات على ارتكابهنّ جرائم حقيقية وأخيراً القضاء حيث يتمّ تغييبهنّ عن محاكماتهنّ.
مكتب زين ومقاتل حركة أمل
صوّر ماهر أبي سمرا جزءاً كبيراً من فيلمه في مكتب للعاملات الأجنبيات في شارع معوّض – الضاحية الجنوبية، الذي يمثّل نموذجاً شبيهاً بشارع بدارو من ناحية تمثيله صعود طبقة وسطى جديدة (الفارق أنّ تطوّر الشارع حصل خلال التسعينيّات، وبفضل “برجوازية جديدة” تمتلك شبكات تجارية تعمل بين أفريقيا ولبنان وألمانيا). أسّس المكتب زين، وهو ميكانيكي سابق، أصوله من بلدة شقرا الجنوبية، دخل المجال بعد تولّي أحد أقاربه وزارة العمل أوائل التسعينيّات.
فتح تعيين الوزير، أبواباً جديدة لزين وأقاربه الذين بدأوا يعملون جماعات في المجال. ساعدته هذه الصلات أولاً على فهم السوق وما يتطلّبه أن تصبح صاحب مكتب ناجح، كما وفّرت له خدمات لم تكن ستتاح لغيره بسهولة.
بدأ زين أوّلاً بالتعاون مع شبكة سماسرة في لبنان وسريلانكا يؤمنون تأشيرات من السفارة اللبنانية في كولومبو وموافقات مسبقة من وزارة العمل في لبنان. كان استقدام العاملة الواحدة يكلّفه بين 400 و500 دولار بالإضافة إلى بطاقة الطائرة، أمّا المبلغ الذي يتقاضاه من الزبون فهو بين 800 و900 دولار، ومعاش العاملة بين 80 و100 دولار.
بقي التعامل مع سريلانكا مهيمناً على السوق حتى أواخر التسعينيّات. عندها بدأ بالتراجع مقابل دخول فئات جديدة من أثيوبيا، الفيليبين، والهند. مع ذلك بقيت تسمية سريلانكية مرافقة لمهنة العاملة، ما يدلّ على تعامل اللبنانيين معها بصفتها سلعة، كما يحصل مع الماركات عادة التي تشير إلى سلع معيّنة، مثل الكلينكس (المحارم)، أو الهوفر التي تشير إلى آلات تنظيف السجاد.
من الجنسيات الأخرى التي بدأت تدخل لبنان في النصف الثاني من التسعينيّات، يمكن ذكر الهنديات اللواتي استطاع زين إدخالهنّ بعد تعرّفه على رجل هندي دفعه ليعمل كسمسار، لكن استقدام الهنديات لم يستمر طويلاً بعد إيقاف الهند السماح للفتيات بالعمل في الخدمة المنزلية في الخارج. أما الجنسيات الأخرى التي دخلت السوق بعد تراجع العاملات من سريلانكا، فيمكن ذكر الجنسيات الإثيوبية والفيليبية والبنغلادشية.
يقول زين: “كان هناك حرباً احتكارية تدور حول هذه الجنسيات الثلاث، بين أقوياء ونافذين، تخترق الدوائر الفاعلة في إنجاز معاملات العاملات في كل من لبنان والفيليبين وإثيوبيا. كان وزير الخارجية الإثيوبية مثلاً، الرجل الثاني بقوّة نفوذه في إدارة الدولة، يتقاضى من السماسرة مئة دولار عن توقيع أي معاملة لتسفير عاملة. أما في بنغلادش، فكان 3 أو 4 أشخاص نافذين هم من يوقّعون معاملات تسفير العاملات…”.
السيدة ماري والطبقة الوسطى
في نهاية التسعينيّات “تصدّرت العاملات من الفيليبين لائحة المرغوبات من الفئات المتوسطة والعليا، بسبب تعليمهنّ المتقدّم، وإجادتهنّ اللغة الإنكليزية، وامتلاكهنّ شخصية “مستقلّة ومتمدّنة” تسمح بتحوّلهن إلى ما يشبه “مديرات المنزل”.
لم يمرّ وقت طويل، قبل أن يتمكن زين من دخول هذا السوق، بمساعدة مكتب كان قد سبقه إلى مانيلا، وحقق ثروة من ذلك. في رحلته الأولى، اكتشف زين وجود مؤسّسات بغاية التنظيم واللا إنسانية في آن، من بينها مؤسسة “السيدة ماري” التي تشرف على تدريب مئات الفتيات في الوقت نفسه وتأهيلهنّ وتحضيرهنّ للسفر، لكن في الوقت نفسه “تقوم بتخزينهنّ وتكديسهنّ بطرق غير إنسانية وكأنهنّ، لسن من بني البشر”.
يذكّر هنا أنّ المؤسسة التي تعامل معها زين، أنشأت في فترة لاحقة مؤقعاً إلكترونياً بدأ بنشر صور العاملات الجاهزات للسفر. لعب هذا دوراً في زيادة الإقبال على مكتب زين الذي صار يُنظر إليه كأنه أكثر حداثة من غيره، ما ساهم في تحسين سمعته وتوسيع سوقه.
يخبر زين في مكان آخر، قصصاً صعبة التصديق عمّا كان يحصل معه خلال رحلاته. مثلاً كانت السيدة ماري تنظم قبل وصوله كلّ مرة، “حملات إعلانية تشمل إذاعات وصحفاً محلّية ولافتات شوارع، تنبئ بقدوم رجل أعمال لبناني لإجراء مقابلات مع فتيات لشتغيلهنّ في لبنان والسعودية والكويت”. كان زين يصل في الخامسة صباحاً إلى مطار مانيلا فيُستقبل في قاعة كبار الزوّار بناء على علاقات السيدة ماري ونفوذها. وفي الطريق من المطار إلى المكتب الذي يُجري المقابلات فيه، كانت سيارة تتقدّم سيارته وتذيع عبر مكبّر للصوت نداءات بوصوله، فيما يرى زين جموعاً من العابرين تتلفّت إلى سيارته وتتوقف مستطلعة ما يحصل.
لكن لن يستمر الحلم طويلاً، فخلال حرب تموز 2006، ستصدر سلطات الفيليبين قراراً بمنع سفر الفتيات للعمل في لبنان، ومنذ ذلك الحين تراجع دخولهنّ بشكل كبير رغم تواطؤ مكاتب الاستقدام لاحقاً مع مكاتب فيلبينية وخليجية على حيلة تسمح بإعادتهنّ، لكن بتكلفة مضاعفة لم تُعِد السوق إلى سابق ازدهاره.
يذكر أنّ بعض المكاتب عمدت للاستعاضة عن النقص باستقدام فتيات من مدغشقر متعلّمات، لكنّهنّ يتكلّمن الفرنسية وليس الإنكليزية، ما تطلّب إعادة الاعتبار للفرنكوفونية في منازل أبناء الطبقات الوسطى الراغبين في التميّز عن غيرهم.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.