منذ اليوم الأوّل لاعتقاله في سجن أنصار عام 1982، دأب محمّد صفا على توثيق ما يجري. “إذا بدّك تسأليني متى كتبتُ هذه الموسوعة؟ سأقول منذ أن دخلتُ إلى معتقل أنصار”، وبـ”الموسوعة” يقصد “موسوعة معتقل الخيام – القصّة الكاملة” التي أطلقها في في الذكرى الـ 21 لإقفال معتقل الخيام، بمؤتمر صحافي الأحد الماضي دعا إليه كلّ من “مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب” و”لجنة المتابعة لدعم قضيّة المعتقلين” و”تجمّع معتقلي أنصار”.
“اعتبرتُ أنّي في مهمّة. أوّل 22 يوم هنّي الأصعب، بين الاعتقال والتحقيق والتعذيب وانتظار المجهول، ثم تصبح الأيام شبيهة ببعضها إلى حدٍّ ما”، يتذكّر خلال حديث مع “المفكّرة القانونيّة” الفصول الـ 18 التي تتألف منها الموسوعة، تجربة نضاليّة عمرها 38 عاماً – بدأت عام 1983، يوم إنشاء تجمّع معتقلي أنصار – وحقّقت إنجازات كبيرة على صعيد قضيّة الأسرى والمحرّرين وعائلاتهم. الاعتقال كان الحافز لإنجاز الموسوعة ومدَّهُ بالحماسة اللازمة للعمل على إيصال قضيّة المعتقلين في سجن انصار، ثم الخيام، إلى العالم. يقول صفا: “حين كنتُ في معتقل انصار، اعتقدتُ أنّ الناس في الخارج لا تنام الليل وهي تفكّر فينا وتعمل على إخراجنا. لكنّ الخيبة تكمن في لحظة الخروج. تجدين أمّكِ وأباكِ، والزوج أو الزوجة، وأحياناً قد لا تجدينهما بسبب الضغط الهائل الذي يعيشانه. من هنا، كان من الضروري بالنسبة لي، إيصال صوت وحكاية الأسرى في معتقلات الاحتلال إلى العالم كلّه”.
“كي تبقى الذاكرة حية”
من أمام الإسكوا، مقرّ الأمم المتّحدة، كان إطلاق الموسوعة. هذا المكان الذي يعرفه صفا جيّداً، ويعرفه أهالي معتقلي الخيام جيّداً أيضاً. لعلّهم يحفظون طوله وعرضه ونوعيّة البلاط المُستخدم. هناك، عُقدت مئات المؤتمرات، وتُليت آلاف البيانات. هناك كانت لجنة المعتقلين أوّل جهة تنصب خيمة عام 2000، حيث بقي أهالي المعتقلين نحو شهر. أنشطة تكرّست وأصبحت عرفاً، رغم غياب الدولة ودعمها، بفضل لجنة المعتقلين وأمّهات المعتقلين والمعتقلات اللواتي تمكّنَّ من تحويل اعتصامهنّ كلّ يوم خميس من أمام رصيف الصليب الأحمر الدولي إلى موعدٍ ثابت، سُمّي لاحقاً بـِ”اعتصام أمّهات الخميس”.
حمل المؤتمر شعار: “كي تبقى الذاكرة حيّة” وحضرته الممثّلة الإقليميّة لمفوضيّة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة رويدا الحاج وعدد من الفاعليّات والأسرى المحرّرين. وأكّد صفا وهو رئيس ومؤسّس “مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب” و”لجنة المتابعة لدعم قضيّة المعتقلين” و”تجمّع معتقلي أنصار”، في كلمته أنّ الموسوعة ليست تحقيقاً صحافيّاً ولا بحثاً تاريخيّاً عن نشأة الحركة الأسيرة وتطوّرها، ولا هي توثيق لأنشطة لجنة المعتقلين وتجمّع معتقلي أنصار، بل هي “سفرُ تجربة تاريخيّة تمتدّ من تأسيس التجمّع في آذار 1984 ولجنة المتابعة في أيلول 1993، ولاحقاً مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب في حزيران 2000”. وأضاف: “هذه الموسوعة هي المقاومة الحقوقيّة والإعلاميّة والدبلوماسيّة والاجتماعيّة التي أسَّسناها بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. هذه المقاومة التي نعتزّ بها ونفتخر بتأسيسها وإنجازاتها، تتحوّل اليوم إلى موسوعة تاريخيّة لتكون شاهداً على الإجرام الإسرائيلي وتبقى حيّة في الذاكرة، ذاكرة الأجيال والأحفاد والأزمان. ليست الموسوعة لمعتقل الخيام فحسب، بل صفحات نضال لشعبٍ وانتفاضات ومقاومة من خلف القضبان”.
من بين الحضور الأسير المحرَّر أنور ياسين الذي أمضى 16 عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي والذي لا يفوّت مناسبة وطنية أو نشاطاً متعلّقاً بالأسرى. يقول أنور في حديث جانبي مع “المفكّرة” إنّ هذه الموسوعة قد تكون مساهمة في ترسيخ تجارب المناضلين والمناضلات. “هؤلاء الناس يحملون إرثاً من ذاكرة فيها تضحيات ونضالات، لكنّها أيضاً ذاكرة عنفوان وكرامة، ويجب تعزيز هذه الذاكرة في الجيل الجديد كي يُدرك جذوره وينطلق منها”، تابع. ويرى أنّ مبادرة محمّد صفا مهمّة جداً في هذا المجال، “كونه ليس فقط أسيراً محرّراً ومناضلاً، لا بل عاش تجربتنا جميعاً نحن الأسرى، من خلال متابعتنا ومتابعة أهلنا واللقاءات التي قام بها على المستوى المحلّي والدّولي من أجل إيصال قضيّتنا إلى العالم”.
ملفّ التعذيب
خلال المؤتمر الصحافي، ناشد محمّد صفا محامي لبنان والعالم العربي لإعادة فتح ملفّ التعذيب في معتقلات الخيام وأنصار وسجون الداخل، وكافة الانتهاكات والمجازر الوحشية التي نفّذتها إسرائيل بحقّ الشّعب اللبناني والفلسطيني والعربي، وما زالت تنفّذها حتى اللحظة. وسأل: “أليس مخجلاً أن يقوم محامٍ إسرائيلي و75 ناشطاً إسرائيلياً بعقد اجتماعٍ، في 28 كانون الثاني الماضي، والدعوة إلى فتح ملفّ معتقل الخيام والتحقيق بجرائم التعذيب التي نُفّذت بحقّ المعتقلين، بمناسبة مرور 20 عاماً على الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب؟ أليست هذه الدعوة من قِبَل إسرائيليّين، إدانةٌ لتقصيرنا ولا مبالاتنا جميعاً: حكومات ومحامين ونقابات وأحزاب ومنظّمات حقوقيّة وإنسانيّة، محليّة وعالميّة”؟
وهنا لا بدَّ من السؤال حول الجهة التي يناشدها صفا؟ ولبنان، بدولته وكافة أجهزتها وأحزابها، وقف متفرّجاً أمام عودة المسؤول عن جرائم تعذيب الأسرى في معتقل الخيام، العميل عامر الفاخوري إلى الأراضي اللبنانية من خلال مطار بيروت في أيلول 2019، قبل أن يتمّ تهريبه إلى الولايات المتّحدة لاحقاً؟
يُشير صفا إلى إدراكه التّام لفكرة أنّ فتح ملفّ تعذيب الأسرى في معتقل الخيام لن يكون غداً أو بعد غد، ويقول لـ”المفكرة”: “هذا مسار تاريخي يحتاج لوقتٍ ونيّة وجدّية في العمل على هذا الملفّ. وهذا ما لم نلمسه أبداً. لكنّ ملفّ التعذيب في معتقل الخيام يجب ألا يُطوى”. ويتابع صفا: “بحكوماته المتعاقبة، لم يلجأ لبنان، ولو لمرّة إلى أبسط المبادرات مثل تشكيل هيئة وطنيّة لتوثيق جرائم الحرب ومقاضاة العدوّ الإسرائيلي. لكننا لم نتوقّع يوماً أحكام التغنيج بحقّ العملاء، الذين كُرّم بعضهم واستلم وظيفة رسميّة في الدولة مثل مختار أو رئيس بلديّة. وآخر ما توقّعناه كان استقبال عامر الفاخوري في مطار بيروت، والسّماح له بمغادرة الأراضي اللبنانيّة فيما بعد. هذه طعنة للمعتقلين ولضحايا التعذيب”.
ليس أسهل من الكتابة عن أساليب التعذيب التي كانت تُعتمد داخل معتقل الخيام. من عمود الكهرباء عند مدخل الزنازين، حيث كان يُعلّق الأسير/ة ويتعرّض للجلد أو الرّمي بالمياه الباردة والسّاخنة لانتزاع الاعترافات. مروراً بالمَشي على الجسد والوجه، والتحرّش بالأسيرات، وإجبار المحجّبات على خلع الحجاب؛ وصولاً إلى الصندوق الحديدي الصّغير، أو ما يُعرف بالـ”قنّ”، حيث كان يتمّ وضع الأسير بداخله بوضعيّة القرفصاء، ثم يبدأ الطرق على ظهره من الخارج.
لماذا الموسوعة وما دورها؟
نسأل صفا عن أي دور ستؤدّيه الموسوعة، فيجيب: “عندما أستعيد أرشيف تحرّكاتنا، أرى ثروة هائلة يجب توثيقها وذاكرة يجب تكريسها، منذ البيان الأوّل لتجمّع معتقلي أنصار ثمّ لجنة المتابعة ولاحقاً مركز الخيام. كلّ فصل من هذه الموسوعة يصلح لأن يكون كتاباً لوحده”.
3 نيسان، ذكرى إقفال معتقل أنصار. 14 تمّوز، يوم الأسير اللبناني. 22 نيسان، يوم الأسير العربي. 7 تشرين الثاني، يوم المعلّم المعتقل. جميعها تواريخ هامّة في الروزنامة الوطنيّة، لم تكن لتكرّس لولا نشاط صفا ورفاقه المناضلين طيلة 38 عاماً. وأهمّية هذه التواريخ تكمن في أنّ بعضها بدأ من الخاص وانطلق نحو العام. فـَ22 نيسان، هو في الأساس تاريخ اعتقال سمير القنطار، لكنّه تحوّل إلى يوم للتضامن مع الأسير العربي. والسّابع من تشرين الثاني هو يوم اعتُقلت سهى بشارة، فأصبح لاحقاً يوماً للاحتفال بالمعلّم المعتقل.
الأسرى.. بين النسيان والاحتضان
لسنا نفضح سرّاً إن قلنا إنّ الناس بمعظمها كانت تنظر بلا مبالاة إلى قضيّة الأسرى، حتى الإعلام كان يغطّيها من باب رفع العتب. يُدرك صفا ذلك، ويعتبر أنّ التعاطي الحكومي مع ملفّ الأسرى لم يكن مختلفاً عن التعاطي الشعبي والإعلامي. لكنه يقول لـِ”المفكّرة” إنّ نقطة التحوّل بدأت مع المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عُقد في جنيف عام 1993، حين طُرحت قضيّة الأسرى اللبنانيّين بقوّة على المستوى الدّولي من قِبل وزارة الخارجيّة.
بين عامَي 1985 (تاريخ تأسيسه) و1995، بقي معتقل الخيام معزولاً عن العالم. عشر سنوات كانت خلالها أبواب معتقل الخيام مقفلة أمام الدولة والمنظّمات الدّوليّة الإنسانيّة أو الحقوقيّة. يُطلق الأسرى اسم “مرحلة الجوع” على الفترة الممتدّة بين 1985 و1987. ويقول صفا عنها: “هذه أصعب وأقسى مرحلة عاشها الأسرى في معتقل الخيام. أحد الأسرى يروي كيف وصل به العطش لدرجة أنه شرب بَوله، وآخر يروي كيف مدّ لسانه لرفيقه كي يتمكّن من بلّ ريقه”.
كان الخيام معتقلاً منسيّاً، حسب وصف صفا، حتى تأسيس لجنة المتابعة للمعتقلين عام 1992. ونتيجة الحملات التي قامت بها اللجنة والاعتصامات والندوات من أمام المقرّ الإعلامي للأمم المتّحدة، وكان مقرّه قبالة الحمّام العسكري، أصبح صوت الأسرى وذويهم مسموعاً. يستذكر صفا هذه الفترة قائلاً: “كنّا 3 أو 4 أشخاص، لم يكن هناك احتضان رسمي أو شعبي لقضيّتنا قبل طرحها على المستوى الدّولي عام 1993، ومساندة المنظّمات الإنسانية والحقوقيّة الدّولية لنا”.
الإنجاز الأوّل الذي حقّقته لجنة المتابعة تمثّل بدخول الصّليب الأحمر الدّولي إلى معتقل الخيام للمرّة الأولى عام 1995، بعدما رُفع شعار “افتحوا معتقل الخيام أمام الصّليب الأحمر” مراراً وتكراراً، وقبل أن يتحوّل لاحقاً إلى “أغلقوا معتقل الخيام إلى الأبد”.
هذه المراحل، وسواها الكثير، موجودة في الموسوعة التي تصدر عن دار الفارابي. ورغم كلّ المجهود والوقت اللذين صرفتهما لجنة المتابعة لمعتقلي الخيام لتوثيق كلّ ما هو مرتبط بقضيّة المعتقلين، يعتبر صفا أنّ هناك نواقص. “لا ندّعي أنّ الموسوعة شاملة. صحيح أنّ العنوان يتضمّن عبارة القصّة الكاملة، لكنّها ليست كاملة. قد تُسجّل عليها بعض الملاحظات وقد نكون أغفلنا عن بعض الأحداث، لكننا أقدمنا على خطوة لم يُقدم عليها أحد”.
حكايات الأسرى نرويها، ونعاود سردها أو كتابتها.. لكنّ كلّ حرف هنا يختصر عذاب آلاف المعتقلين، حتى بعد اللحظة التي خرجت فيها قبضاتهم من نوافذ الزنازين معلنةً الحريّة في 25 أيار عام 2000.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.