تماماً كما تفعل الأنظمة المسيطرة على قرارات الحرب والسلم في استخداماتها الملتوية للقوانين الدولية، يطوّع الإعلام الغربي السائد تلك القوانين في خدمة تعميم السردية المناسبة لأجندته السياسية.
بالمنطق، تشكّل نصوص القوانين الدولية مرجعاً واضحاً وثابتاً للعاملين في الصحافة يستندون إليها لتكوين حكم أو خلاصة حيال واقعة وارتكابات خصوصاً خلال تغطية النزاعات والحروب. ومن المفترض أن يسهّل الاستناد إلى النصوص القانونية على الصحافيين والمحللين الخروج بخلاصات والتوصّل إلى حكم حول واقعة معيّنة: فإمّا أن يكون هناك خرقٌ للقوانين أم لا. وإمّا أنّ جريمة حرب حصلت أو لم تحصل، وفي حال التأكّد من حدوثها فإن إعلان ذلك وإدانة المرتكب هو أقلّ ما يمكن أن يقوله الإعلام بشأن الحدث.
لكن معظم الإعلام الغربي يلجأ إلى النصوص الدولية وإلى استخدام تهمة “جريمة الحرب” كأداة تسويقية ضمن خطة تحريرية منحازة. إذ يختار هذا الإعلام تارةً أن يقدّس تلك القوانين ويبني عليها تحليلاته وأحكامه ويصدر إدانته للطرف المنحاز ضده كـ”مرتكب جرائم حرب”، أو يختار تارةً اخرى، أن يتجاهلها كلّياً ويُخفي أدلّة خرقها من تغطياته، فتغيب الإدانة من عناوينه وتسقط جرائم الحرب عن الطرف “الحليف”. وفي أداء الإعلان عن جرائم الحرب أو التعتيم عليها يكون الإعلام المنحاز قد حقّق ما يسعى إليه في تعميم سردية محدّدة وحفرها في الوعي والذاكرة الجماعية والأرشيف.
هكذا مثلاً، شهد العالم أكبر حملة تضليل سياسية عسكرية إعلامية استخدمت القانون الدولي لإضفاء شرعية على غزو العراق عام 2003 ولتبريره. كان للإعلام الغربي السائد حينها الدور الأكبر في تعميم سردية إدارة جورج دبليو بوش كاملةً حول “امتلاك النظام العراقي أسلحةً دمار شامل محرّمة دولياً” من دون التشكيك فيها أو التدقيق في ادّعاءاتها التي تبيَّن لاحقاً أنها كاذبة وأنه كان من الممكن نفيها من خلال جهود صحافية جدّية لو أراد الإعلام “السعي إلى الحقيقة” وقتها. لكن المنصّات الإعلامية الدولية تحوّلت خلال أشهر قبيل غزو العراق وخلاله إلى منابر لبثّ الرعب والتهويل من خطر النظام العراقي على الأمن الدولي. روّج معظم الإعلام الأميركي والبريطاني والأوروبي للخطاب الذي يقول إنه بات واجباً على واشنطن وحلفائها أن يُسقطوا النظام العراقي “حفاظاً على الشرعية والسلم الدوليَين”، حسب السردية الرسمية – الإعلامية حينها.
جرائم الحرب “روتينية” في أوكرانيا
نداء “الحفاظ على الشرعية والسلم الدوليَين”، عاد وظهر في الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، وحَسَم الإعلام الغربي المنحاز ضدّ روسيا (لا ضدّ الحرب بالمطلق)، أنّ موسكو ارتكبت أكثر من 125 ألف جريمة حرب منذ شباط/ فبراير 2022 وأنه “لا يجب التغاضي عن هذا الأمر”. حتى أن تكرار فكرة ارتكاب روسيا جرائم حرب في الإعلام دفع أحد المحللين إلى وصفها بـ “جرائم الحرب الروسية الروتينية” في عنوان مقاله.
إضافة إلى رصد وتسمية خروقات القوانين الدولية التي ارتكبتها روسيا في أوكرانيا انشغل الإعلام الأميركي والأوروبي أيضاً خلال العامين الماضيين بالتفتيش على أدلّة إضافية تدين روسيا في حربها، مثل التحقيق الذي نشرته قناة “دويتشه فيله” الألمانية حول احتمالات ارتكاب روسيا “جرائم حرب بيئية”، ومواكبة هذا الإعلام الجهود التي تُبذل لمحاكمة القادة الروس بتهم خرق القوانين الدولية. كما أُرفقت معظم تلك التغطيات والتحليلات باستطلاعات رأي تبيّن مثلاً أن غالبية الأميركيين مقتنعون “بارتكاب روسيا جرائم حرب في أوكرانيا” وأن معظم الأوروبيين يؤيدون أوكرانيا في حربها ضد روسيا ونسبة كبيرة منهم تدعو الاتحاد الأوروبي إلى “التدخّل من أجل أن تسترجع أوكرانيا أراضيها المحتلّة”.
المصطلحات الاعلامية كانت أيضاً محسومة وواضحة في تغطية الاعلام الغربي للحرب الروسية – الأوكرانية، فما حصل هو “غزو روسي واسع النطاق” وارتكابات الجيش الروسي والكرملين هي “جرائم حرب” والقادة الروس “يجب أن يحاكموا في المحاكم الدولية”.
وفيما تبدو الأمور واضحة ومحسومة في أوكرانيا والجهود الصحافية والتحريرية الغربية تُبذَل في سبيل تبيان الجرائم المرتكبة هناك والدعوة إلى معاقبة مرتكبيها، يغيب ذلك كلّه عندما يتعلّق الأمر بارتكابات نظام الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين ولبنان.
التشكيك بكلّ ما يحدث في فلسطين
هنا، يخفت الصراخ المنادي بـ “الحفاظ على الشرعية الدولية” إلى حدّ اختفائه بالكامل. فوجود الاحتلال الاستيطاني التوسّعي وسرقة الموارد الطبيعية وترهيب وقتل المدنيين والخطف والأسر وتعذيب الأسرى وأسر الأطفال وتعذيبهم واستخدام أسلحة محرّمة دولياً واستهداف الصحافيين والطواقم الطبية والمستشفيات… كلّ تلك الممارسات وغيرها الكثير ترتكبها سلطات الاحتلال الاسرائيلية منذ نشأة الكيان الصهيوني حتى يومنا، وجميعها مخالفة للقوانين الدولية وقوانين الحرب وقوانين حقوق الإنسان.
لكنّ الإعلام الدولي السائد لم يعلن يوماً الاحتلال الإسرائيلي مرتكباً لجرائم حرب ولم يفنّد جرائمه ولم يهوّل منها حتى في عزّ ارتكابها. جلّ ما قد يفعله حيال ذلك، أن يقوم بنقل تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة ونشر خلاصات تقارير المنظمات الحقوقية التي تحذّر أحياناً من الخروقات الإسرائيلية للقوانين الدولية. لا بل في كثيرٍ من الأحيان، كان الإعلام الغربي المنحاز يشكّك في الأدلّة التي تثبت الجرائم الإسرائيلية ويكذّب المشاهد الحيّة والصور التي تنقل تلك الجرائم. وقد يمثّل الجدل السياسي – الإعلامي حول قتل جيش الاحتلال الطفل محمد الدرّة عام 2000 أمام عدسة الكاميرا أحد النماذج الفجّة لحملات التشكيك والتضليل، ناهيك عن التعتيم الإعلامي المقصود على ارتكابات المستوطنين اليومية والممارسات العنيفة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في كافة جوانب حياتهم.
وفي حرب الإبادة المستمرّة على غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 شاهد العالم تفاصيل وقائع إبادة يومية موثّقة بالصوت والصورة والبثّ المباشر، لكن الإعلام الغربي استمرّ في التضليل وفي تبنّي سردية مرتكبي الإبادة، ثم اضطرّ بعد سنة، إلى نشر خبر اتهام الأمم المتحدة اسرائيل بارتكاب جرائم حرب من خلال تدميرها الممنهج لنظام الرعاية الصحيّة في غزة. حرصت وسائل الإعلام الغربية التي غطّت خبر تحقيق الأمم المتحدة على عدم تبنّي نتائجه، وأي ذكرٍ لـ”جرائم حرب إسرائيلية” يُنسب مباشرة للأمم المتحدة وللجنة تحقيقها فقط. كما حرص الصحافيون على تضمين مقالاتهم تلك ردّ إسرائيل الدفاعي ورفض المسؤولين الاسرائيليين كلّ التهم الواردة في التحقيق الأممي وتبريرها، وأحياناً كان النفي الإسرائيلي للاتهامات هو الخبر لا الاتهام بحدّ ذاته (!). طبعاً، لم يتبنَّ معظم المحللين الغربيين خلاصات التحقيق الأممي ولم يعترفوا بها كوقائع تدين مرتكبها.
هكذا، وصلنا مع الإبادة في غزة إلى مستوى غير مسبوق من التبرير الإعلامي المنحاز لاسرائيل والذي بات يأخذ بُعداً سوريالياً في الفترة الأخيرة. إذ نشر هاورد جاكبسون مثلاً، وهو أحد الروائيين البريطانيين (حائز على جائزة “بوكر” 2010) مقالاً ومقابلة قبل أسبوعين يشكو فيهما من الأداء المعادي لإسرائيل في الإعلام الغربي ويقول إنّ “نقل الإعلام الغربي، ليلة بعد ليلة، مشاهد قتل أطفال غزة وبثّ مقاطع قاسية جداً لمعاناة أهلهم والتركيز على أن العدوان الاسرائيلي هو عدوان وحشي” يبيّن إصرار الإعلام على “التشهير باليهود وإحياء أساطير قديمة حول قتل الأطفال”. ما يروّج له جاكبسون هو مستوى جديد في أساليب قلب المعادلات واللعب على وتر معاداة السامية وتحويل الجلاد إلى ضحية في إلقائه اللوم على صور القتل لا على مرتكب القتل.
الجريمة وجهة نظر في لبنان
الوضع في لبنان لا يختلف عن غزة وكامل فلسطين المحتلة من حيث إنكار الإعلام الغربي ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق أرضه وشعبه. فمنذ بداية حرب الإسناد عام 2023 سُجّلت جرائم حرب عديدة قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في لبنان تتعلّق باستخدام قنابل الفسفور الأبيض ضد المدنيين (وثّقته “المفكرة القانونية” في مقالين)، وبالتدمير الممنهج للقطاع الصحّي والإغاثي وإعاقة عمله، واستهداف “قوّات الأمم المتحدة لحفظ السلام”.
ورغم أن الأدلّة على تلك الجرائم واضحة وموثّقة، يُنكر معظم الإعلام الغربي تصنيفها كجرائم حرب ويرفض اتهام الاحتلال الإسرائيلي بارتكابها.
حول جريمة استخدام الفسفور الأبيض ضد المدنيين مثلاً، تمرّر محطة “أورونيوز” هذه الواقعة الجرمية الخطيرة كتفصيل ثانوي مقتضب وعابر داخل تقرير إخباري عن غارة إسرائيلية على بيروت، وتنسبه حصراً إلى منظمة حقوقية. أما تحقيق وكالة “رويترز” وتقرير قناة “سكاي نيوز” عن الموضوع، فرغم احتوائهما على شهادات بعض سكّان الجنوب من الذين عاشوا الغارات الفسفورية ورغم الأدلّة القاطعة التي قدّمها هؤلاء السكّان وتوثيق تقارير المنظمات الحقوقية أدلّة إضافية على ذلك، أبقى المقالان جريمة الحرب تلك قيد التساؤل والتشكيك وخصّصا للجيش الإسرائيلي مساحة بارزة لنفي تلك الاتهامات وتبرير ارتكابها.
حول جريمة استهداف المستشفيات والعاملين في الإغاثة، ورغم أنه بات من الواضح أن الاحتلال يعتمد هذا الأمر كمنهجية لتدمير القطاع الصحّي والإغاثي في لبنان كما فعل في غزة، فإن معظم وسائل الإعلام الغربية التي تغطّي تلك الاستهدافات المتكرّرة لا ترَى في هذا الفعل المقصود أي خرق للقوانين الدولية. تعدّد وكالة “أسوشييتد برس” الاستهدافات الإسرائيلية للمستشفيات وتتحدّث إلى بعض العاملين في القطاع الصحي وتظهر مخاوفهم والظروف الصعبة التي يواجهونها لكن المرّة الوحيدة التي يأتي فيها التقرير على ذكر عبارة “جريمة حرب” كانت نقلاً عن تصريح وزير الصحة اللبناني فقط، ما يجعل فكرة ارتكاب إسرائيل جرائم حرب ضد القطاع الصحّي تبدو كرأي خاص بالوزير اللبناني أو كوجهة نظر لا كوقائع يمكن إثباتها وتصنيفها.
قناة “بي بي سي” وصحيفة “ذي غارديان” رصدتا في تقارير مفصّلة الضربات الإسرائيلية على المستشفيات التي خرج بعضها من الخدمة تماماً، لكن أيضاً لا ذكر لارتكاب أي مخالفة للقوانين الدولية، لا جرائم حرب هنا أيضاً. قناة “دويتشه فيله” حجّمت الموضوع وأوردته في سلّة أخبار متفرّقة نقلاً عن وزارة الصحة اللبنانية مع الحرص على التذكير بأن اسرائيل “تتعرّض لهجمات متكررة من حزب الله”، ومع تغييب كلّي لذكر أي جرائم حرب مرتبطة بالوقائع المذكورة. في الاعلام الفرنسي أيضاً، مرور سريع وتبسيطي للاستهدافات الإسرائيلية للقطاع الصحي من دون أي تلميح لإمكانية أن يشكّل هذا الأمر خرقاً للقوانين الدولية.
ثم جاءت الاعتداءات على “قوّات الأمم المتحدة لحفظ السلام” لتلفت انتباه الإعلام الأوروبي تحديداً، لكن حتى هنا، لجأت معظم وسائل الإعلام إلى الأسلوب التحريري المعتاد كي لا توجّه إصبع الاتهام إلى اسرائيل. قناة “أورونيوز” تجاهلت فكرة جريمة الحرب تماماً واكتفت بنقل خبر مقتضب سريع عن استهداف “القبّعات الزرقاء” مع التركيز على “عدم معرفة مصدر إطلاق النار” والإشارة إلى أن “الحادثة وقعت في المنطقة العازلة وأنه لم تستطع الأمم المتحدة تحديد الجهة التي أطلقت النار على قوّاتها” مضيفة أن تلك القوّات تعرّضت للقصف “بعد أن رفضت طلب الجيش الإسرائيلي الابتعاد” عن مكان تواجدها. قناة “فرانس 24” اعتمدت خبر “وكالة الصحافة الفرنسية” ونسبت عبارة “إمكانية ارتكاب جريمة حرب” لأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مع تجهيل كامل للفاعل في العنوان وفي تمهيد الخبر رغم أن التصريح الرسمي أتى على ذكر “اقتحام الدبابات الاسرائيلية بوابات قاعدة تابعة لليونيفيل” في جنوب لبنان. مجلة “ليكسبرس” الفرنسية من جهتها صاغت أربعة أسئلة عن حوادث الاستهدافات الإسرائيلية لقوّات حفظ السلام لم يكن من بينها سؤال واحد حول إمكانية تصنيفها جريمة حرب، إذ وردت فكرة خرق القوانين الدولية في التصريح الرسمي للأمم المتحدة فقط تحت سؤال عن “ردة فعل الأمم المتحدة” والذي جاء بعد سؤال “كيف تبرر إسرائيل هذه الهجمات؟”.