“
صحيح أن الصور والفيديوهات التي بثتها وسائل الإعلام وتناقلها المواطنون عبر وسائل التواصل الإجتماعي للتظاهرات التي تمركزت في ساحتي الشهداء ورياض الصلح في بيروت، تصدرت مشهد الحراك المطلبي المندلع في لبنان منذ 17 تشرين الأول 2019، لكن المناطق اللبنانية كافة لم تلتزم ب”المركزية” التي طالما تمتعت بها العاصمة اللبنانية. عجت ساحات صيدا وصور والنبطية والشوف وعاليه وطرابلس وعكار والبترون وجبيل وجونيه والزوق وزحلة وبعلبك والهرمل ب #ثورة_أكتوبر و#لبنان_ينتفض، حيث نزل عشرات آلاف المواطنين وخصوصا في طرابلس وصيدا اللتين شهدتا الأعداد الأكبر من المتظاهرين بعد العاصمة بيروت.
وإذا كانت بيروت هي الجامعة نظرا لاحتضانها أبناء الوطن كافة، فإن لخروج طرابلس وصور والنبطية وصيدا والشوف وعاليه وبعلبك الهرمل دلالة وأهمية تكاد تكون الأبرز في حراك تشرين أول 2019. هذه المناطق التي تعتبرها قوى السلطة “مضمونة الولاء” ولا تخرج عنه، برغم الحرمان والفقر والمعاناة وانعدام الإنماء المتوازن فيها وغرق أهلها وشبانها وشاباتها في البطالة في ظل عدم وجود فرص عمل أو مشاريع إنمائية، وكذلك سيادة الإستزلام والمحسوبيات.
وكما تظاهرات بيروت، لم تبرز جهات محددة في الدعوة إلى التظاهرات التي بدت كرد فعل الشعب على الأداء المزمن للحكومات المتعاقبة وبوجه هذه السلطة وأفرقائها الممسكين أنفسهم بالبلاد منذ ما بعد الطائف ولغاية اليوم. وتداعي الناس في مكبرات الصوت وعبر وسائل التواصل الإجتماعي وفي الساحات إلى التجمع وترتيب أولويات الهتافات وكتابة الشعارات.
الفيحاء تكسر النمط السائد
للمرة الأولى تخرج طرابلس إلى ساحة النور تمزق صور رموز الزعامات فيها من رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الرئيس السابق نجيب ميقاتي إلى النائب فيصل كرامي، فاقتحام مكتب نائبها العلوي علي درويش. أرسلت طرابلس رسالة في كل الإتجاهات. طرابلس المدينة الموجوعة برغم تمثلها بنواب ووزراء وتعاقب رؤساء حكومات لبنان من بين زعاماتها، بقيت مدينة الحرمان وأشبه بمنطقة ريفية فقيرة ومعدمة في الريف العكاري أو البقاعي النائي، حيث تحتل نسب الفقر فيها المرتبة الأولى بين مدن لبنان ومناطقه.
وكذلك خرجت طرابلس التي أغلقت ظروفها الأمنية والسايسية والجو الذي ساد فيها لسنوات طويلة دور السينما ال 11 التي كانت تميز حياتها الثقافية والفنية، خرجت عما فُرض عليها سابقا ليرقص أبناؤها على وقع الأغاني الوطنية والموسيقى ولتحتفل باستردار روحها الوطنية الجامعة في سلة من المطالب بعيدا عن حسابات مناطقية وطائفية وزعامات محلية.
فإثر انتهائهم من صلاة الجمعة، انضم للخارجين إلى الشوارع نساء وأطفال وشبانا وشابات يهتفون ضد رموز السلطة كافة من رئيس الجمهورية إلى نواب طرابلس أنفسهم مرورا برئيسي مجلس النواب والحكومة نبيه بري وسعد الحريري. طرابلس التي سجنتها القوى السياسية لسنوات طويلة في اشتباكات دورية ومستمرة بين باب التبانة وجبل محسن زادت من فقر المدينة وبطالة أبنائها وحرمانها ودمارها، شهدت للمرة الأولى هذه الكثافة بالتظاهرات التي وصلت إلى عشرات ألآلاف من المعتصمين في ساحة النور. هناك اختفت الأعلام الحزبية كافة، ورفرف العلم اللبناني وحده في أيدي الطرابلسييين على مختلف انتماءاتهم. وهناك أحرقوا صور نواب المدينة وزعامتها المعلقة على أبنية طرابلس الفقيرة. كما قام أبناء جبل محسن في خطوة مقصودة إلى مهاجمة نائب الطائفة العلوية في المجلس النيابي علي درويش وهو من كتلة الرئيس نجيب ميقاتي الذي مزقوا صوره أيضاً (صور ميقاتي) وتجمعوا حول دارته في طرابلس وهتفوا ضده. وعادت طرابلس “البلد” كما كان يسميها أبناء الكورة وعكار والمنية والبترون، حيث قصدها بعض أبناء هذه المناطق للإنضمام إلى تظاهرتها المركزية كعاصمة لبنان الثانية.
وإلى جانب التوحد على رفع العلم اللبناني، شهدت تظاهرة طرابلس رفع شعارات عدّة ومتنوعة، رددها المتظاهرون بحماسةٍ عالية، مثل: “كلن يعني كلن، ونصرالله واحد منن”، “يسقط حكم الأزعر”، “يلا ارحل ميشال عون، يلا ارحل حريري، يلا ارحل يا بري”، “بري بري أنت شي بخري”، “ثورة ثورة”. وهذا إلى جانب الهتف على وقع الأغاني الثورية: “لبنان لح يرجع”، “أنا بتنفس حرية”.. وقد حضر عصر الإثنين إلى وسط الساحة الفنان مارسيل خليفة، وغنّى أغانيه الثورية التي رددها معه المتظاهرون.
صور والنبطية
وإلى جانب طرابلس، خرجت صور وشقيقتها النبطية لتكسران محظورات نقد الثنائي الشيعي في الإعلام وعلانية، برغم أن المدينتين دفعتا ثمن هتاف المتظاهرين يوم الجمعة في 18 تشرين الأول 2019، إعتداء على الخارجين عن النمط السائد في عدم تسمية الأمور بأسمائها، وعلى رأسها شتم رئيس مجلس النواب نبيه بري واتهامه بالفساد مع زوجته رندة بري وإطلاق هتافات بهذا المعنى ضدهما. وهاجم المتظاهرون في النبطية مكاتب النائبين محمد رعد وهاني قبيسي ومنزل النائب ياسين جابر، فيما أحرق من وصفهم الناشطون ب”المندسين” استراحة صور لارتباط ملكيتها ب رندة بري.
ولم ينتظر مناصرو حركة أمل، وفق ما أفاد ناشطون ومتظاهرون وسائل إعلام والمفكرة القانونية، انقضاء يوم الجمعة حتى ينقضوا على المعتصمين في الساحات منكلين بهم. ووصف بعض هؤلاء الناشطين صور مثلا ب”الثكنة التي احتلها مناصرو الحركة”، وتحدثوا عن ظهور مسلح علني مدعم بالصور والفيديوهات وبإطلاق النيران على ناشطين وإصابتهم بجروح خطيرة. وكذلك حصل اعتداء على المتظاهرين في النبطية وحصلت عمليات كرّ وفرّ أدت في نهاية المطاف إلى دخول بلدية النبطية على الخط وإتمام تسوية بعدم تعرض عناصر الحركة للمتظاهرين في مقابل عدم هتاف هؤلاء ضد الرئيس بري وزوجته، وهكذا كان، برغم عدم توقف المضايقات ضد الناشطين ولكن ليس بالوتيرة نفسها كما حصل في اليوم الأول.
وفي صور، وتزامنا مع حرق مندسين استراحة صور التي تبعد 1.5 كيلومتر عن مكان الإعتصام في ساحة العلم، وأمام اعين القوى الأمنية التي تساهلت في ردع هذه المجموعات، تم بث إشاعة حرق صور للإمام موسى الصدر، وهذا ما لم يحدث بتاتا، وفق ما أكد الناشطون. بعد ساعات أعلنت حركة أمل تظاهرة مضادة للحراك يوم السبت في 19 تشرين أول، وفي نفس توقيت الإعتصام (الساعة 11 من قبل الظهر) في ساحة العلم نفسها. بعدها قام الناشطون بتغيير مكان الإعتصام تفاديا للصدام، ونقله الى داخل مدينة صور، شارع ابو ديب وكان عددهم حوالي ال 300 شخص. وخلال اعتصام هؤلاء تم الهجوم عليهم من قبل حوالي 500 شخص بوجود النائب علي خريس، والمسؤول الاقليمي للحركة في جبل عامل علي اسماعيل(كونهما كانا يشاركان في تظاهرة حركة أمل) بالعصي تزامنا مع انتشار واسع للسلاح في كامل المدينة وبين المتظاهرين (حوالي ال 100 مسلح). وتم سحل المتظاهرين وضربهم وتفريقهم وإيقاع أربعة جرحى. وتزامن ذلك مع وجود قوى أمنية التزمت الحياد تجاه الإعتداء .
كما تم الاعتداء على مراسلي تلفزيون الجديد عند توجههم لنقل المستجدات. بعد ذلك، اختفت الهتافات التي كانت تطلق في اليوم الأول ضد الرئيس نبيه بري خوفا من ردة فعل عناصر حركة أمل .وتداول الناشطون صورا لتحرك آليات مدججة بالسلاح الثقيل (دوشكا) على مفترف العباسية صور وأبو الأسود . وبدأ في صور والنبطية مساء الإثنين بث شائعات عن اتهامات بتمويل خارجي وترداد اسطوانة “شغل سفارات” بحق المتظاهرين الذين قدر عددهم الناشطون بنحو 2500 مواطن.
صيدا
عند تقاطع مستشفى ايليّا في صيدا، ركّزت عاصمة الجنوب اعتصاماتها ومكان مشاركتها في حراك تشرين 2019. تظاهر أهلها بالآلاف بعيداً عن الإنتماءات الطائفية والحزبية، حاملين الإعلام اللبنانية فقط. أتوا من المدينة نفسها ومن حارة صيدا، جزين، الشرحبيل، وإقليم الخروب من مختلف الأعمار، ورجالا ونساء وشبانا وشابات. برغم أن التجمع في الليلة الأولى جاء بمبادرة من مجموعة صغيرة من شباب التنظيم الشعبي الناصري لكن الناس توافدوا لاحقا بشكل عفوي من دون دعوة من أية جهات.
وهتف المعتصمون ب “الشعب هو القائد والمعلم/ يا سياسيين لبنان العظيم خرا عليكم أجمعين /
We are studying for a future we don’t have /
Fuck You!// يسقط حكم المصارف يا كلاب النظام/ /نطلب بالغاء جميع الصناديق “المهجرين ومجلس الانماء والاعمار/ هيدا مال الشعب لازم يرجع/ مشروع سد بسري لن يمر: مشروع الهدر والفساد والتدمير البيئي/ الحلم ما صار حقيقة و الجبل تحت الحديقة/ صيدا مش ناقصها أوتوسترادات يا ست الكل / #لا_لمشاريع_الفساد.
ولم تشهد صيدا انتهاكات تذكر، باستثناء دهم عناصر من الجيش اللبناني صباح 20 تشرين الأول 2019 مكان الإعتصام بهدف فضّه. لكن المعتصمون لم يغادروا ثم بدأت الناس بالتوافد وتراجع الجيش عن المحاولة.
البترون
قطع ناشطو البترون وجوارها الطريق السريعة عند “جسر المستشفى”، الإتجاهين، بعدما تجمعوا بالمئات من مختلف الأعمار ومن دون رفع أي أعلام غير العلم اللبناني. وكما بقية المناطق، لم تتول جهة معينة الدعوة للإضراب وإنما حصل ذلك من خلال التداعي عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
وهتفت البترون: ” بدنا نسقطنّ متنا من الجوع”، “ثورة، ثورة، ثورة، ثورة…”، “كلنّ يعني كلنّ”. ولم يُسجل أي جرحى أو ضحايا أو توقيفات.
جبيل
وكما في البترون، كذلك في جبيل، قطع الناشطون الطريق على الاوتوستراد الدولي، عند صيدلية الرحباني، في الاتجاهين. واعتصم المئات في المكان ملبين دعوة عامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هاتفين “ايه يللا حكومي طلاعي برا”، “جبران باسيل استقيل … اذا مش كرمالك، كرمال كس امك”، “ثورة ثورة ثورة ثورة…”، ” ثورتنا حضارية ما بدنا نسب حدا”…
مواطنون يتظاهرون للمرة ألأولى
كان لافتاً نزول العديد من المواطنين للمرة الأولى في حياتهم إلى الشارع للتظاهر، وهي من أهم الميزات التي تطبع حراك تشرين أول 2019. وأفاد نحو 50 في المئة على الأقل ممن استفتاهم مراسلو المفكرة في المناطق عن مشاركتهم للمرة ألأولى في حياتهم في التظاهرات. ففي طرابلس مثلاً أفاد 7 ناشطون/ات من أصل 10 أنهم يتظاهرون للمرة الأولى ليعزوا مشاركتهم إلى الوضع السيء والذي لم يعد محتملاً في لبنان. وكما في طرابلس كذلك في صيدا (6 من أصل 10) وفي صور (7 من أصل عشرة) كما في البترون وجبيل ومناطق أخرى.
وجمعت الشعارات المطلبية الرافضة للضرائب والمطالبة بمحاسبة الفاسدين ووقف الهدر والسرقة وخلق فرص عمل جديدة والحد من هجرة الجيل الشاب المعتصمين. وأكد معظم هؤلاء أن سبب نزولهم إلى الشارع هو شعورهم بفقدان ألأمل واضطرارهم إلى البحث عن حياة أفضل خارج لبنان بأنفسهم أو عبر هجرة أبنائهم، كما اضطرارهم إلى الإستزلام للزعماء لإيجاد فرصة عمل وهو ما يتسبب بارتهانهم واهاناتهم وإذلالهم، وإلا فالبطالة نصيبهم.
وتحدث كثر عن تحصيلهم شهادات علمية عالية أو تحصيل أفراد من عائلاتهم هذه الشهادات، ومع ذلك لا يجدون فرص عمل، فيما روى كثر عن العوز في ظل فقدانهم لأشغالهم وهم معيلين أساسيين لعوائلهم.
“