تصعب الكتابة عمّا يحدث في قطاع غزة من دون ذكر الفظائع والمجازر التي يعيشها أبناء وبنات تلك المنطقة المحاصرة. إذ يتواصل سقوط الضحايا بعد انقضاء الهدنة وتكدّس مشاهد الدمار والتقتيل، لم يعد ممكنا استيعاب حجم الجرائم والفظاعات المرتكبة. حتى كتابة هذه الأسطر٬ قامت قوات الاحتلال بقتل أكثر من 16000 شخصا من بينهم أكثر من 7000 طفل، من دون احتساب آلاف الذين لا يزالون تحت الركام. وقام جيش الاحتلال بتهجير مليون ونصف ساكن من أهالي شمال غزة وقصَفَ المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد واستهدف حتى سيارات الإسعاف والصحفيين والأطفال الخدّج، ومنع الماء والغذاء والدواء والوقود وحتى وسائل الاتصال عن مليوني ونصف انسان. كما مارس شتّى أنواع الجرائم بما في ذلك تجريب الأسلحة الأكثر تقدّما وفتكًا على المخيّمات واللاجئين.
مقابل هذا الحجم الهائل من الإجرام والظلم، تتفاوت ردود أفعال المواطنين ودولهم لتصل حدّ التناقض، خصوصا في البلدان الغربية. وإذ تدافع حكومات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، تفيض شوارع هذه البلدان بالمتظاهرين المطالبين بوقف العدوان. أمّا على مستوى المنطقة العربية وشمال أفريقيا، فتتفاوت التحرّكات رغم الالتحام التاريخي للجماهير بهذه القضية لأسباب متعددة، لعلّ من أهمّها هيمنة الأنظمة القائمة المستبدة التي ضيقت الخناق على شعوبها. فتمّ توجيه وصرف هذه المساندة في أشكال تضامن عفوية في أغلب الأحيان. في تونس، تتمحور هذه التعبيرات التضامنيّة أساسا حول التبرّع من جهة والمقاطعة الاقتصادية من جهة أخرى. تُرسل الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها دول غربية أخرى الأسلحة والقوات وحاملات الطائرات ويُرسل التونسيون المغلوب على أمرهم التبرّعات بالأدوية والغذاء والألبسة والأموال محمّلة بمشاعر تضامن عفوية تُعيد تشكيل المشترك الإنساني بين الشعبين.
تبرّعات مادية، وفي جوهرها عاطفية
كانت أولى التبرّعات المرسلة إلى مطار العريش بمصر مقدّمة من طرف السلطة التونسية وبقرار من الرئيس قيس سعيّد، حتّى قبل الفتح الجزئي لمعبر رفح لتمرير النزر القليل من المساعدات. لكنّ حملات التبرّع العفوية سرعان ما تشكّلت، وإن اتّسمت في البداية بشيء من الضبابية والتخبّط. فقد كان هناك استعداد كبير للتبرّع من دون معرفة الطريقة العملية واللوجستيّة. فمن سيقوم بتجميعها؟ ومن سيقوم بإرسالها إلى غزة؟ وهل سيكون ذلك ممكنًا أصلا؟ لكنّ الإعلان عن تكفّل الهلال الأحمر التونسي بجمع التبرعات المالية والعينية سمح بتتالي وتنظّم المبادرات المقدمة من عدّة مؤسسات لتنويع أشكال التبرعات. فقامت على سبيل المثال منظمة أنا يقظ بفتح خطّ للتمويل التشاركي لجمع التبرّعات المالية التي تجاوزت بتاريخ 20 أكتوبر، 126 ألف دينار. وقامت شركات الاتصالات من جهتها بتسهيل عمليّة التبرّع وتمكين المواطنين من القيام بذلك عبر خطوطهم الهاتفية.
بالتوازي مع التبرعات المالية اختار العديد من التونسيين تقديم تبرّعات عينيّة. وفي غياب إرشادات واضحة لقائمة المواد التي يمكن أو يجدر التبرّع بها، تحرّرت المبادرات العفوية لتحديد الاحتياجات وماهية التبرعات. فعكست عملية التبرّع التجربة الذاتية لكلّ فرد مع ما يراه من دمار وتقتيل وتمثّلاته لعملية التبرّع والهدف منها، فترجمت بذلك عاطفته وأمنياته لغزة وأهلها. عبّرت جواهر شنا عن تجربة التبرّع قائلة بأنّه رغم الاتفاق مع الأصدقاء على التركيز على التبرع بالأدوية لأنها تمثّل الاحتياج الأساسي لإنقاذ الأرواح، إلاّ أنّها لم تقدر على كبح رغبتها كأمّ في توفير حاجيات أخرى كشامبو الأطفال. وكتبت: “أريد أن أحلم وأؤمن بأن طفلا فلسطينيا، بعد أن تحمّل أهوال التفجيرات الوحشية التي قام بها المحتلّون الصهاينة، سيتمكّن أخيرا من الاستمتاع بحمّام. ستغني والدته تهويدة فلسطينية، وستنام أخيرا بسلام في منزلهم، في وطنهم.” أمّا سارة البراهمي، فكتبت عن حرص أمّها على كيّ ملابس الأطفال قبل إرسالها للهلال الأحمر والتبرّع بها. في حين أجابت ربيعة الدريدي على السؤال حول أيّ أدوية يجب اقتناؤها: “تبرّعوا بالأدوية التي اعتدتم شراءها عند إحساسكم بوعكة أو ألم”. ولعلّ الصورة الأكثر تعبيرا، هي للطفل الذي تقدّم لنقطة جمع التبرعات لتقديم لُمجته قائلا “ليس لديّ شيء آخر للتّبرع به”. ورغم أنّ عملية التبرّع العيني تُبرز أكثر التداخل مع التجربة الشخصية للأفراد بالمقارنة مع التبرّع المالي، إلاّ أنّ التبرعات الماليّة لم تخلُ هي الأخرى من اندماج واندفاع عاطفي. من ذلك تبرّع عجوز تونسي بمدّخرات عمرته (2000 دينار) مجيبا على سؤال المصوّر: “أجل فضّلت فلسطين على العمرة”.
في كلتا الحالتين، لا تُعتبر عملية التبرّع لدى الكثيرين إجابة مجرّدة على أهوال الحرب لتجاوز الإحساس بالعجز أو لتبرئة الذمة، بل هي تعبيرة عاطفية إنسانية تُترجم في عمقها حبًّا وتودّدا وإرادة لتضميد الجراح وإزالة الألم.
المقاطعة: لن نُعطيكم أموالنا لتدعموا قتل أحبابنا
كغيرها من الدول، خصوصا في المنطقة العربية٬ تعالت في تونس النداءات لمقاطعة المنتجات والشركات التي لها علاقة بالاقتصاد الاسرائيلي أو بدعم الحرب. عرفت حملة المقاطعة هذه المرّة مشاركة شعبية عفوية واسعة، لما كان لهذه الحرب من وقع على نفوس متابعيها وما ولّدته من إحساس بالعجز والغضب في آن واحد. قد لا يكون فعل المقاطعة بالنسبة للعديد من الأفراد نتاج وعي وفهم كامل للاقتصاد العالمي ومكانة السوق التونسية فيه ولكنّه يُترجم رفضا قاطعا للمشاركة في هذه الجرائم بأي شكل من الأشكال وإن كان بتقديم مليم واحد لشركة قد تكون لها علاقة بالمحتلّ من قريب أو من بعيد.
ورغم أنّ المقاطعة تصطدم مع عادات استهلاكية متجذّرة٬ يشارك التونسيون تجاربهم مع المقاطعة ويبحثون عن أجوبة في تجارب آخرين. فينشر البعض تفاعل أطفالهم العفوي مع المقاطعة، ومبادرتهم بالتخلّي عن منتجات تعوّدوا عليها. ويتداول آخرون قائمة المنتجات البديلة تونسية الصنع وذات الجودة.
زخم المقاطعة كان واضح المعالم خصوصا في المغازات الكبرى حيث تتكدّس المنتجات المعنية بالمقاطعة خصوصا تلك المستوردة، وفي هجرة المستهلكين لنقاط بيع تمّ إعلان ضرورة مقاطعتها وهو ما دفع هذه الشركات على اتباع تكتيكات مختلفة لاستمالة المستهلكين. فعلى سبيل المثال٬ أعلنت مغازات كارفور تونس٬ في مرحلة أولى٬ عن انخراطها في حملة التبرّعات التي ينظمها الهلال الأحمر لتبييض صورتها خصوصا بعد تداول صور تقديم وجبات غذائية من الفرع الإسرائيلي للشركة الفرنسيّة الأمّ لجنود الاحتلال. وأصدرت في مرحلة ثانية بيانا للرأي العام لتوضّح بأنّها تابعة لشركة تونسية وأنّ “قراراتها الاتصالية والتجارية تُتّخذ محليّا بما يتماشى مع القيم التونسية”، وأنّ ما يصدر عن مغازات كارفور في مناطق أخرى لا يلزمها في شيء. هذا بالطبع مع الإعلان عن التخفيضات المتزايدة فيما يتعلّق بعدة منتجات تحت شعار أنّ الشركة تدعم القدرة الشرائية للتونسيين، علّها تستعيد حرفاءَها المقاطعين.
لم يقتصر الاستعداد الشعبي للانخراط في المقاطعة على الحلقة الأخيرة في سلسلة الاستهلاك. فقد تمّ تداول شهادات لبعض أصحاب المقاهي والمطاعم الذين يقاطعون بعض المنتجات ويرفضون بذلك تقديمها بمحلاّتهم وشراءها من الموزّعين. هذا بالإضافة إلى تنظيم عدة أنشطة للدّعوة للمقاطعة سواء داخل مغازات كارفور أو أمام مطعم “KFC”. ورغم سلميّة النشاط، قام المسؤولون عن المطعم بطرد الناشطات الداعيات للمقاطعة بمساعدة أعوان الأمن ومن ثم قاموا بتقديم شكاية جزائية ضدّهنّ، حُفظت في اليوم التالي من قبل وكيل الجمهورية.
وعلى الرغم من ضعف تنظّم المنخرطين في حملة المقاطعة الحالية، على عكس حركة “BDS” مثلا، وعدم قدرتهم على إنتاج خطاب موحّد وجامع يقدّم شروط المقاطعة وقائمة الشركات والبضائع المعنية بها حسب الأولويّات بحيث يتحوّل إلى مرجع لكلّ المنخرطين في المقاطعة ويعزّز نجاعتها، إلاّ أنّ الاستعداد والانخراط الشعبي العفوي كان كبيرا. فالهبّة الشعبية لم تكن في حاجة لأي شعارات أو سردية مقنعة تربط بين فعل الاستهلاك وقنابل المحتلّ. بل مثّل فعل المقاطعة مساهمة فردية وعفويّة في تأكيد الاصطفاف مع المضطهدين والتخلّي عمّا يضرّ بهم. كما أنه يترجم مبادرة الشعوب في تسليط عقوبة على المشاركين في الجرائم في ظلّ هوان الأنظمة عن درء العدوان على قطاع غزة.
سينما المقاومة: “تلك مساهمتنا في حرب الصورة والبروباغندا”
أياما قليلة بعد بداية الحرب وبعد إلغاء مهرجان أيام قرطاج السينمائية من طرف وزارة الثقافة، برزت مبادرة “أيام سينما المقاومة“. تتلخّص الفكرة في عرض أفلام فلسطينية في الساحات العامّة لصالح الجمهور من المارّة للتعريف بالقضية وللتّفاعل حولها. في حوار للمفكرة القانونية٬ صرّح هشام المحرزي أحد المشاركين في هذه المبادرة: “لقد قرّرنا فتح جبهة أخرى للحرب ألا وهي الصورة والصوت والمونتاج والسينما. لقد اتفقنا على استعمال الصورة لخوض النقاش في السياسة ولتقديم القضية وحيثيّاتها وكيف بدأت والتعريف بالمقاومة الفلسطينية وأيقوناتها كوسيلة مُثلى للتّحرر”.
بالنسبة للمنظّمين٬ كان السياق دافعا مهمّا للتسريع بالمبادرة. فقد مثّل إلغاء أيام قرطاج السينمائية٬ وهو المهرجان الذي يحمل في جوهره فلسفة المقاومة بل ويعدّ شكلا من أشكالها، إحساسا بالخذلان وجبتْ الإجابة عليه. تترجم المبادرة حسب أماني غيماجي “إيمانا مترسّخا بأنّ للصورة قوةٌ مقاوِمةٌ وجب تقديمها للجمهور وتعريف المتفرّجين من الأجيال الشابة عليها”.
في حوارهم مع المفكرة القانونية٬ أكّد منظّمو “أيّام سينما المقاومة” على أنّ مبادرتهم لا تتعلّق بتقديم أفلام تصوّر التراجيديا الفلسطينية ولا بتقديم أفلام متميّزة على المستوييْن التقنيّ والفنيّ. فقد كان الهدف المركزي من خوض هذه التجربة مع جمهور المارّة يتمثّل في رفع المعنويات خلال هذه الحرب والتعريف بمجتمع المقاومة الفلسطينية من فصائل ومثقّفين وسينمائيين وغيرهم، والمساهمة في هذا الالتفاف حول القضية للحفاظ على الزخم الشعبي وتكثيفه.
كانت النّقاشات الأوليّة حول هذه المبادرة حسب المنظّمين تتركّز حول نقطتين مركزيّتين: فحوى الأفلام التي سيتمّ اختيارها وكيفية اختيار أماكن العرض.
فيما يخصّ فحوى الأفلام المختارة وموضوعها٬ كان المعيار الأساسي هو “أن تعبّر الأفلام عن المقاومة في شتى أشكالها”. وتضيف أماني غيماجي: “نحن لا نعتبر أيام سينما المقاومة كمجرّد شكل فنّي، وإنما هي فعل مقاومة بامتياز. فهي تقاوم اضطهاد المحتلّ وسردية حلفائه في الدول الغربية وسياسة تشويه القضية والذاكرة التي تمارسها الأنظمة، بل وتقاوم أيضا الهيمنة الثقافية التي تُفرض على المجتمع.”
حتّى أماكن العرض لم تخلُ من رمزيّة مقاومة. فقد اختار المنظمون منذ البداية “التركيز على الأماكن التي تمثّل مراكز للهيمنة الثقافية في تونس كأماكن للعرض”. فنظّموا أوّل العروض على حائط مبنى المعهد الفرنسي بتونس، كردّ على إسراع المسؤولين عن المعهد بإعادة طلاء الحائط بعد أن استهدفته شعارات حائطية لمتظاهرين مناصرُين للقضية الفلسطينية. من جانب آخر٬ كان الهدف في عرض أفلام في فضاءات مفتوحة وليس في قاعات السينما المعتادة. فأيّام المقاومة “ليست مبادرة مقدمة لروّاد قاعات السينما بل هي فكرة تهدف للوصول لأكبر عدد من المشاهدين”. فسينما المقاومة تتوجّه بالأساس إلى من لم تتسنّ له الفرصة للاحتكاك بهذه القضايا عبر شاشات السينما. كما وقع التركيز أيضا على اختيار فضاءات مفتوحة من دون حدود معمارية في مساحات عمومية لا تحتاج أي شروط للوصول لها كالشارع والحدائق والساحات العامة.
من جهة أخرى أكّد المبادرون بأنّ “أيام سينما المقاومة” هي مبادرة مفتوحة للعموم وهي بالتالي فكرة مشاعة، يشجّع من بادروا بها بأخذها ونسخها في أماكن أخرى. وهو ما تمّ تحقيقه فعلا بحيث تمّ تنظيم سينما المقاومة بجهات عديدة داخليّة، معظمها يفتقر أصلا لقاعات سينما، مثل جندوبة والفحص وزغوان وباجة ومرناق والمهدية، وكذلك في معهد ثانوي بحلق الوادي، بطريقة تلقائية ومستقلة عن المبادرين بها.
في الردّ على سؤال المفكرة فيما يتعلق بمستقبل هذه المبادرة٬ أجاب المنظّمون:”نُريد لهذه المبادرة أن تُصبح حركة عفوية تنتشر إلى حلقات أخرى بأماكن متعددة ومختلفة٬ كلّ حسب موارده”. كما أكّدوا على ضرورة أن تبقى هذه المبادرة مستقلّة في التخطيط لها وفي تنفيذها، متخلّصة تماما من كل طابع مؤسّسي. فهم يريدونها مفتوحة لكلّ من يريد المساهمة بها دون قيد أو شرط لتخلق بذلك حالة مقاومة عامة متواصلة قوامها الصورة.
هذه المقاومة الثقافيّة تتكامل مع المقاومة المادّية والاقتصاديّة التي تمثّلها أشكال التبرّع والمقاطعة. لكنّ التحدّي الأبرز يبقى في ديمومتها ومأسستها، وفي البحث عن إكساءها أكبر قدر من النجاعة والتأثير. في هذا الإطار، يقول الكاتب الفلسطيني مجد كيّال في حواره للمراسل “يجب أن تكون هذه لحظة الوعي بمحدودية فكرة التضامن الرمزي والتعبيري… الوعي بأنّ فكرة التعبير الرمزي، دون أثر مادي، وحدها، تلعب في مصلحة البنية العليا للأنظمة الغربية… بالتالي لا بدّ من إبدال فكرة التعبير بفكرة الأثر المادي. إبدالها بفكرة أنّ التظاهر والتحرّك السياسي لا يهدف إلى التعبير عن آرائنا، إنّما أن نشكّل ضغطاً فعلياً له تكاليف مالية وسياسية وأمنية ويخلخل المؤسسات”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.