شهدتْ تجربة المُحقِّق العدليّ طارق بيطار في قضيّة المرفأ التفافاً شعبيّاً استثنائيّاً، بفعل حرفيته وسيرته وبعده عن الأفرقاء السياسيّين. وقد تجلّى ذلك بوضوح في ثقة الضحايا وشرائح واسعة من الرأي العام عبّرت عنها بوضوح خطابات وهتافات التظاهرات الحاشدة في 4 آب. وعليه، لم تجدْ القوى السّياسية المتضرّرة من قراراته أريحيّة في التهجّم عليه كما اعتادتْ في تعاملها مع القضاء (وهذا ما فعلته مثلا في معرض تصدّيها للمحقّق العدلي السابق فادي صوان)، إنّما تدرّجت في ردود الأفعال على قرارات بيطار، مفضّلة بدايةً إبراز عوائق قانونية أمام تنفيذها، قبل مباشرة حملات التشكيك ضدّ القاضي وصولا إلى التهجّم المباشر عليه.
التحفّظ والتريث
خلال الأيام الأولى من صدور طلبات رفع الحصانات، خلَتْ المواقف السياسية من أيّ استهداف مباشر للقاضي، أقلّه على صعيد القوى والشخصيات السياسية الوازنة. وقد تمثّل الموقف الغالب لديها في تحفظها وتريثها في إبداء آرائها، علما أن بعضها أكّد أن موقفها منها سيتمّ وفق القوانين. ولعل أبرز المواقف في هذا الخصوص موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري غداة صدور الأحكام والذي جاء فيه أنه سيطبق القانون مائة بالمائة، من دون أن يتعرّض لشخص القاضي بيطار أو لقراره. وقد بدتْ هذه القوى وكأنها فوجئت بالطلبات فتركت لنفسها هامشا لاتخاذ موقف منها من دون تسرّع. وإذ تميّز وزير الداخلية محمد فهمي بإعلان استعداده لرفع الحصانة عن المدير العام للأمن العامّ اللواء عباس ابراهيم، فإنه عاد ليتراجع عنه في اليوم نفسه. حتى هذا الأخير (ابراهيم) الذي انطلقت حملات ترويجية لصوره ودوره، فإنّه لزم صمتا مطبقا في الأيام الخمسة الأولى واختار أن يصدر بيانه الأول عن الاستهداف السياسي من خلال محامين أنشؤوا خلية للدفاع عنه. وهذا ما سنعود إليه أدناه.
ولم يعكّر أجواء هذا التحفّظ سوى بعض الأصوات الإعلامية التي بقيت خافتة ومحصورة. منها مقال للنائب السابق ناصر قنديل في صحيفة البناء والذي انتقد فيه القاضي بيطار لتجاوز صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. ورغم تسليم قنديل بطغيان السياسة لفترة طويلة على القضاء، تحدّث عن “خشية من طغيان معاكس تحرّكه سياسة أخرى، يراد له أن يعوّض ضعفاً لبعض مواقع التأثير الداخلية والخارجية في السياسة”. وفي اليوم نفسه، ذهبت ملاك عقيل في مقالها على موقع “أساس ميديا” (وهو موقع مقرب من الوزير نهاد المشنوق) إلى طرح 6 ملاحظات على قرار القاضي بيطار، لتخلص إلى أن الإدعاءات “استنسابية وتشوبها ثغرات جدّيّة” وأن “مصادر قانونية” تؤكد أن بيطار أخطأ في “اعتبار القضاء العدلي هو الجهة الصالحة لمحاكمة رئيس الحكومة والوزراء”.
التشكيك المتصاعد والممنهج
بعدئذ، شهدْنا تَحوُّلا في الخطاب العامّ في اتّجاه نشوء ما يشبه الجوقة التي تطرح علامات استفهام حول أداء القاضي. ويستشفّ من هذا التحوّل والتشابه في المواقف وجود مساعٍ منسّقة لمواجهة الالتفاف الشعبي حول القاضي من خلال حملة تصاعدية للتشكيك به، تحت عناوين مختلفة. وقد تمحورتً في غالبها حول عدم نشر التقرير الأمني (الفني) حول أسباب التفجير بما يؤشر إلى نية يإخفاء الحقيقة، وأيضاً حول هوية الأشخاص الذين استدعاهم أو لم يستدعِهم بيطار وسط التلميح بوجود استنسابيّة تهدّد إمكانية ظهور الحقيقة هنا أيضا. وقد ترافقَ التّشكيك في إرادة بيطار بالوصول إلى الحقيقة مع مساعي نيابية لمباشرة تحقيق برلماني في القضية، سواء من خلال مطالبة القاضي بيطار بمجمل الأدلة على اشتباهه بالنواب الذين طالب برفع الحصانة عنهم (9 تموز) أو من خلال طلب الاتّهام الموقّع من قرابة 30 نائبا والذي يهدف عمليّا إلى إنشاء لجنة برلمانيّة موازية. ولعل خير من عبّر عن ذلك هو نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي. فبعد تلاوته بيان الجلسة المشتركة في 9 تموز، قال “ نحن نريد أن نركز من أجل الوصول إلى الحقيقة عبر تسهيل مهمة القاضي بيطار”، إلّا أنّه عاد في اليوم التالي في مقابلة على تلفزيون الجديد وقال “نحن سنبيّن الحقيقة وقد قلنا في بيان الأمس أننا نتعهد بذلك… نحن ننتظر (من القاضي) الجواب الموضوعي الصادق والذي نقتنع بأنه صادق”. وأكّد الأمر على نحو أوضح في 13 تموز في تصريح له لأحد المواقع “ما عندو شي يقدمو، هو لا يريد التعاون معنا، وهو حر… نحن من سيظهر الحقيقة ومش ناطرين إبن البيطار”. وهذا الأمر الذي عادت وأكدت عليه المديرية العامة للإعلام في مجلس النواب في معرض دفاعها عن طلب الاتهام الذي قدمه نواب وأولوية إجراء تحقيق برلماني محذرة من “إستثمار سياسي أو شعبوي يطيح بالنتيجة التي تؤدي إلى العدالة”.
وقبل المضيّ في استعراض المواقف، تجدُر الإشارة إلى أنّ هذه الفترة شهدتْ انقساماً بين الكتل النيابية حول رفع الحصانة عن النواب وصلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. ففي حين أيّدت كتل لبنان القوي والجمهورية القوية واللقاء الديمقراطي طلب رفع الحصانة متمسّكة بصلاحية المحقق العدلي، ذهبت كتل المستقبل والتنمية والتحرير والوفاء للمقاومة في اتجاه معاكس، علماً أن هذا الانقسام اتخذ شكله الواضح بعد نشر طلب الاتهام في 21 تموز. وبنتيجة ذلك، برز خطاب التشكيك بشكل خاصّ لدى الفريق الثاني علما أن مكوّناته اعتمدتْ لتبرير موقفها على سرديات مختلفة كما انتهتْ إلى صياغة مطالب مختلفة أيضا. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه:
التشكيك بالمحقق العدلي في خطاب القوى السياسية المقربة أو المتحالفة مع حزب الله
أول خطابات التشكيك في حيادية القاضي تمثّل في الكلمة الأولى لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في 5 تموز. وفي حين تريّث هذا الأخير في اتّخاذ موقف في هذا الصّدد، فإن العبارات المُستخدمة في خطابه عبّرت بوضوح عن حذر شديد حيال طلبات رفع الحصانة وأبعادها. ومن أخطر ما ورد فيها أن العدالة لا زالت بعيدة والحقيقة مخفية بسبب عدم نشر القاضي ملف التحقيق الفني التقني؛ وأيضا أن تسريب “طلب القاضي الأذونات بالملاحقة” هو “شكل من أشكال التوظيف السياسي”. هذا فضلا عن تساؤله بشأن وحدة المعايير في الاستدعاءات واحتمال وجود استهداف سياسي، وهو ما تريث بشأنه.
كما صدرتْ سلسلة من المواقف عن نواب ومسؤولين في حزب الله وأمل ذهبت في الاتجاه نفسه. فبعدما برر عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب حسن عز الدين توقيعه على عريضة طلب الإتهام، أشار في 25 تموز أنّه “من حقنا أن نسلك هذا الطريق ولا يحقّ لأحد تعطيله أو رفضه، رغبة بسوق التحقيق في اتجاه آخر لأغراض معروفة”. كما أشار النائب قاسم هاشم في بيان في 22 تموز إلى أنّ “الإثارة والشحن والتحريض، كلها تثير بعض الشكوك، فالحقيقة تصونها دماء الشهداء بعيدا من التدخلات وبعض النوايا الخبيثة”.
في الاتجاه نفسه ذهب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية الذي صرّح في 21 تموز خلال زيارة له للبطريرك بشارة بطرس الراعي أن “هناك ضغطا كبيرا على القاضي طارق بيطار والمحكمة قد تستعمل كورقة ضغط من خلال الظروف الاقليمية والدولية”. وتحدّى فرنجية القاضي بيطار أن يقول أين ذهبت النيترات ومن أدخلها الى البلد، قال “هو ما عندو شي وأنا بعرف إنو ما بيعرف” وأضاف أن “المحكمة سياسية والجواب سياسي”، على اعتبار أن “الوزير مش شغلتو يعرف إذا النيترات بينفجر”.
في 28 تموز، أفتى نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، في مقابلة له على المنار، أنه قانونياً يجب أن تتم المحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء الوزراء. وتساءل حول سبب أن يكون التحقيق عند المحقق العدلي، قال “هل لأن المحقق العدلي ينوي السير بطريقة معينة تريدونها أن تذهب إلى المحقق العدلي؟ كلا، طالما القانون يقول أنّه من الممكن محاكمتهم هنا (أي أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء الوزراء) فمن حقنا أن نقول هذا”. وعليه، اعتبر قاسم أن المحاكمة أمام المحقق العدلي هي تسييس للتحقيق، وأوضح “أي حين تقول لي من الممنوع أن تذهب بهذا المسار بل اذهب بهذا المسار، هذا إسمه تسييس”. النائب المُشتبه به علي حسن خليل تحدّث في 29 تموز على “قناة الميادين”، عن استغلال دماء الشّهداء في التّحضير للانتخابات النيابية، مُشيراً إلى استثمار سياسي في القضيّة. الأمر نفسه أشار إليه زميله النائب محمد نصر الله في 31 تموز، متحدّثاً عن “استنسابية وتسييس”. كما ذهب في الاتجاه نفسه اللواء عباس ابراهيم شخصيا وأيضا من خلال خلية المحامين المنشأة للدفاع عنه. وقد ذهب هؤلاء في بيان أصدروه في 17 تموز إلى حدّ التحدّث عن “أيادي خفيّة وراء الحملة الممنهجة بحق موكلنا اللواء عباس إبراهيم”. ثم صدر بيان آخر في 23 تموز، ألمحوا فيه إلى وجود تنسيق بين المحقق العدلي ومكتب الادعاء في نقابة المحامين بما يخالف مبدأ الحيادية، ليعلنوا بوضوح عن ارتيابهم “المشروع والقانوني” حيال المسار الذي يسلكه التحقيق والذي يسهدف “موكلنا من دون أدنى شك”.
وفي حين طالب عضو كتلة “التنمية والتحرير” النائب محمد خواجة في تغريدة له “أهالي الشهداء والجرحى والمتضررين، عدم السماح لتجار السياسة والدم وتحريض شاشات تلفزة مدفوعة الأجر باستغلال قضيتكم، وهي قضية بحجم وطن”. في اليوم ذاته 3 آب، دعا زميله النائب علي خريس إلى الأمر نفسه متحدثاً عن “محاولات مكشوفة ورخيصة، الهدف منها وضع التحقيق تحت ضغط الإبتزاز الشوارعي وإثارة الغرائز الطائفية والسياسية، لغايات بعضها انتخابي وبعضها يخدم أجندات فتنوية مشبوهة، تتلاقى مع ما يخطط من مشاريع للمنطقة”. وتحدّث عن “تسييس وتشفّ وخضوع لابتزاز أصحاب الأجندات المشبوهة”. وصبّ بيان حزب الله في اليوم نفسه قبيْل ذكرى الانفجار في هذا الاتّجاه، فتحدّث عن ضرورة العمل الجادّ للوصول إلى الحقيقة الكاملة غير المنقوصة “بعيدا عن الاستغلال السياسي الرخيص وتصفية الحسابات والصراعات الداخلية الضيقة التي تخفي في طيّاتها الكثير من الأهداف الخبيثة”. وطالب البيان الجهات القضائية الابتعاد عن الاستنساب والضغوط وأنه يجب وضع حدّ “أمام التلاعب الداخلي والاستغلال الخارجي وتوجيه الاتهامات وتشويه الحقائق”.
بدوره أشار النائب الوليد سكرية في ذكرى انفجار المرفأ في 4 آب، إلى تسييس واستنسابية وقال: “ما تزال علامات الاستفهام قائمة حول الاستدعاءات واقتصارها مع القاضي البيطار على فريق معين وغضّ الطرف عن فريق آخر”.
التشكيك في المحقق العدلي في خطاب تيار المستقبل
برز خطاب هذا الفريق بشكل خاص غداة الإعلان عن لائحة النواب الموقّعين على طلب الاتهام، والتي ضمّت إلى نواب حركة أمل وحزب الله نوابا من تيار المستقبل. وتبعاً للحملة الحاصلة ضد هؤلاء والذين وصفوا بنواب العار أو نواب النترات (منهم بهية الحريري) واستتبعها سحب نائبين من تيار المستقبل توقيعيهما عن الطلب، بدا تيار المستقبل محرجا، الأمر الذي فرض عليه تبرير اعتناق نوابه موقفا مماثلا لمواقف حزب الله وأمل في هذا الخصوص. وقد وجد ضالّته من خلال اعتماد أسباب تختلف تماما عن أسباب هذين الأخيرين للتشكيك بحيادية بيطار، ومن أهمها تقاعس هذا الأخير عن الادعاء على رئيس الجمهورية ميشال عون رغم علمه الثابت بوجود النترات. وقد أمل تيّار المستقبل من خلال ذلك إثارة العصب الطائفي على غرار ما فعله في أعقاب ادّعاء المحقق العدلي السابق فادي صوان على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، من خلال إثارة إشكالية تمتّع رئيس الجمهورية (الماروني) بحصانة أكبر من الحصانة التي يتمتع بها رئيس الحكومة (السني). واللافت أن المستقبل عزّز خطاب تشكيكه بالقاضي من خلال التلميح إلى أنه لا يقدم إجابات حول من استقدم النترات ومن وراء الشركة الوهمية التي أتت به، والتي لم يخف الناطقون باسمه علاقتها بالنظامين السوري والإيراني.
أول الشواهد على هذا الخطاب تمثّل في المقابلة التي أجراها أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري على تلفزيون “الجديد” في 22 تموز، والتي تساءل فيها: “أين مسؤولية رئيس الجمهورية الذي اعترف بعظمة لسانه أنه كان يعلم بالنيترات؟” وقال الحريري أنه كما أحال بيطار قضاة إلى محكمة خاصة بهم، كذلك النواب والوزراء لديهم محكمة خاصة هي تحاكمهم. والحجة القانونية التي ساقها أحمد الحريري أنّه “ما كانت وضعت هذه المحكمة في الدستور لو لم يكن لها حاجة”، مضيفا أن “السؤال الأساسي ينحرف عنه المواطن، من خلال شعبوية تجري للاستغلال ولتحريف التحقيق، هو أولاً من أتى بالنيترات؟ نريد جواباً من القاضي، ومن وراء الشركة الوهمية التي أتت به؟” وتابع مجموعة الأسئلة نفسها التي ساقتها أطراف عدّة. ثمّ طالب الحريري بتحقيق دولي لأنه “في نهاية المطاف غير مسيس”.
في اتجاه التشكيك نفسه، ذهب الوزير السابق نهاد المشنوق، في مؤتمره الصحافي في 23 تموز، والذي قلّل فيه من شأن التحقيق العدلي. وقال “”أنا الوحيد من بين كلّ الذين ادّعى عليهم المحقق العدلي، لم يستمع إليّ لا هو ولا المحقّق العدلي السابق”، وقال أن المدعي العدلي استند فقط على مستند يتعلق بمرور البضاعة “ترانزيت” في لبنان، مبدياً استغرابه أنه الوحيد الذي عليه “شبهة جديّة” في محاولة للإيحاء أنه مستهدف. وقد انتهى إلى القول بأن “التحقيق الدولي المحايد هو الوحيد الذي يجيب على هذه القضية أما التحقيق المحلي فلن يصل أبداً (بحياته) إلى نتائج حاسمة ونهائية”.
في الاتجاه نفسه ذهب سعد الحريري. فبعد أن قدم مناورته باقتراح اسقاط الحصانات (وفي مقدمتها حصانة رئيس الجمهورية) في قضية تفجير المرفأ خلال مؤتمر صحافي في 27 تموز، كرّر الحريري أسئلة التشكيك بأداء القاضي وفي مقدّمتها كيفية وقوع الانفجار.
كما تحدّث النائب محمد الحجار في 30 تموز على “الجديد”، واضِعاً طلب رفع الحصانة في خانة “الشعبوية” و”الهوبرة”. وتحدّث بدوره عن استثمار سياسي. قال: “البركان الذي عصف ببيروت وأهلها وأحيائها، ليس منصّة للمزايدات والاستثمار السياسي في أحزان المواطنين المنكوبين، واتّخاذها ممرّاً لتسجيل المواقف وإغراق المسار القضائيّ بتوجيهات شعبوية لتهريب الحقيقة.”
مواقف تشكيكية أخرى
ومن خارج هذين الفريقيْن، سجّل فُرقاء سياسيُّون آخرون مواقف تشكيك بالمحقّق العدلي، بدت بمثابة مجاملة لحلفائهم السياسيين والذين لم يخفُوا اختلافهم معهم بشأن التمسك بصلاحيات هذا الأخير.
أبرز هؤلاء النائب جبران باسيل، الذي رأى في مؤتمر صحافي أن من واجب المحقق العدلي “طمأنة كل الذين يريد أن يستمع لهم بأنه لا يأخذ قراراً مسبقاً بتوقيفهم، وأنه مستعدّ لأن يستمع لهم وأن يعطيهم حق الدفاع الكامل عن أنفسهم”. لا بل ذهب أبعد من ذلك في اتجاه القول بأن من واجب القاضي مراعاة خواطر النوّاب والوزراء والرؤساء. ف “لا يجب أن يتكوّن شعور لدى أحد بأي استهداف أو أي انطباع بتشفٍّ أو باستنسابية أو بإرضاء رأي عام أو وسائل تواصل إجتماعي”. كما عاد باسيل وكرّر فكرة وجوب وحدة المعايير ليمرّر من خلالها دفاعا مبطنا عن حصانة المدير العامّ لأمن الدولة أنطوان صليبا. وهذا ما نستشفّه من قوله أنه “لا يمكن للعدالة أن تكون استنسابية أو انتقائية. هناك موظفون غير مسؤولين عن الموضوع بشكل مباشر قاموا بواجباتهم، كتبوا، نبهوا، حذروا، وهم مسجونون منذ عام. ويوجد موظفون آخرون مسؤولون عن الموضوع، لم يقوموا بواجباتهم وحتى اليوم لم تجرِ مساءلتهم”.
ومنهم أيضا النائب نقولا نحاس في 24 تموز في حديث لبرنامج “نهاركم سعيد” على الـ LBCI الذي صرّح بأن “المحكمة العليا أهمّ من المحكمة العدلية وأسرع منها”. وأضاف أن “المسار الذي يسير به المحقق العدلي طارق بيطار طويل، ولا يزال يدور في الحلقة الخارجيّة بعيدًا عن اللّب، فيما الوقت يُداهمه”، وذلك في سياق تبريره للتوقيع على طلب الاتّهام رغم موقفه بالعدول عنه.
التشكيك نفسه برز في العديد من المقالات الصحفية، منها ما كتبته الصحافية ملاك عقيل في 31 تموز، واضعةً كل القضية في سياق الخلاف بين النائب جبران باسيل ورئيس الوزراء سعد الحريري.
ويلحظ أنه في خضمّ كلّ ذلك، عمدتْ بعض المواقع إلى بثّ أخبار بشأن ارتباطات سياسية للقاضي، من دون أي دليل جدي. ومن أبرز هذه الأخبار ما نشره موقع “أساس” في 10 تموز لجهة أن لقاءً جرى بين قائد الجيش جوزيف عون والقاضي طارق بيطار (وهو ما نفته مديرية التوجيه في قيادة الجيش) أو أيضا ما نشره الموقع نفسه في 28 تموز لجهة أنّ القاضي بيطار شوهد يدخل قصر بعبدا للاجتماع إلى الوزير السابق سليم جريصاتي. وقد نفى المكتب الاعلامي للمحقق العدلي الخبر جملة وتفصيلاً. كما نفى الوزير جريصاتي في بيان منفصل حصول أيّ تواصل بينه وبين المحقّق العدلي.
وبالخلاصة، بدا أحزاب السلطة والإعلاميون الذين يديرون في فلكها وكأنهم يسعون إلى التّشكيك بشخص القاضي، وذلك بحجج مختلفة وغالبا من دون أيّ دليل. وخير مؤشّر على ذلك هو أن كلاً منهم لم يجد فعلياً ما ينتقده في شخص القاضي سوى ما لم يقلْه، ولم يجدوا ما ينتقدونه في مسار القضية سوى ما لم ينشره بعد من نتائجها. ولعل أسوأ ما تخلّل هذا الخطاب هو سعي كثيرين منهم إلى تظهير القضيّة على أنها قضيّة خلاف أحزاب أو محاور أو قضية عدالة طوائف، لا قضيّة ضحايا وجناة. فإذا تكاثرت عبارات التشكيك بالمحقق العدلي والصادرة عن أطراف ومواقع عدة، سهل إذ ذاك على القوى السياسية المناوئة للمحقق العدلي الانتقال إلى المرحلة الثالثة في مقاربتها لطلبات رفع الحصانة، وهي مرحلة الهجوم المباشر.
الهجوم المباشر
المرحلة الثالثة تمثّلت في شنّ القوى السياسية هجوما مباشرا على المحقّق العدلي بيطار. وهنا نلحظ أن هذا الهجوم صدر بداية عن مراجع إعلامية قبل أن يتحول إلى هجوم سياسي واضح.
أخطر المقالات التي اعتمدت لهجة اتهامية نشر على موقع “المدن” في 26 تموز. وقد شكّك المقال في حياديّة القاضي واتّهمه بتطييف القضيّة معتبراً أنّ “المتهمين السياسيين فيها كلهم من طائفة غير طائفة القاضي، مع أن في طائفته من لا يقلّون اشتراكاً في العمل الذي استدعى نشوء القضية، وربما كانوا أكثر ضلوعاً فيه من سائر المتهمين أو من أكثرهم”. وتساءل عن سبب استدعاء رئيس حكومة تصريف الأعمال من دون استدعاء رئيس الجمهوريّة ليستنتج: “يبدو سلوك القضاء وكأنه إعلاء لطائفةٍ وجعْل ممثلها فوق البشر، واستخفاف بطائفة أخرى واستباحة لكرامتها”.
وقد شهد التهجّم على القاضي تطوّرا آخر مع البيان الذي أصدرته نقابة الصحافة في 2 آب والذي تضمّن هجوماً مباشراً غير مسبوق على القاضي بيطار. وقد ذهب البيان إلى حدّ اتهام القاضي بأنه مسيّس، “ينفذ خطة مرسومة له”. واللافت أن البيان ذهب إلى حد توجيه “ملاحظة” للقاضي وهي أن “الإهمال في الوظيفة لا يمكن أن يصبح جريمة”.
وقد بلغ هذا الهجوم حدّه الأقصى في حديث أمين عام حزب الله في 7 آب. وبعدما تحدث عن وسائل إعلام محلية وعربية معروفة وجهات حزبية سياسية معروفة وشخصيات معروفة وجمعيات معروفة، وجهت الإتهام منذ اللحظة الأولى على هذه الشاشات إلى حزب الله، أضاف “بدأ الاستثمار السياسي المقبوض والمدفوع ثمنه أميركيا وسعودياً وفي خدمة اسرائيل، وضمن تسوية حسابات سياسية أيضاً تم التركيز على العهد، ولكن كان التصويب أكثر على المقاومة”. وجزم نصر الله أنّ هناك من حوّل القضيّة من قضيّة إنسانيّة إلى قضيّة سياسيّة طائفيّة. وتساءل نصرالله عن سبب عدم كشف القاضي عن نتيجة التحقيق، وتابع قائلاً “لإنه يوجد تواطؤ سابق ولاحق”، معتبراً أنه إذا ما صدر تقرير الآن بهذا الشأن “ستدفع شركات التأمين مليار و200 مليون وقيل مليار و600 مليون دولار للأشخاص الذين دفعوا تأميناً على أرواحهم وأملاكهم”. ثم خاطبه مباشرةً “لماذا التأخير؟ لماذا؟ ماذا تنتظر؟” ورأى نصر الله أن الموجود حتى الآن لدى قاضي التحقيق هو استنسابية ولا يوجد وحدة معايير. وتساءل نصر الله كيف بمكان يستدعى رئيس وزراء حالي ووزير أشغال سابق، “لماذا لا يستدعي رئيس حكومة سابق، هل لأنك تستضعف رئيس الحكومة الحالي”. وتابع نصر الله قائلاً: “أنا أمام عوائل الشهداء أقول رسمي، هذا المحقق العدلي يعمل في السياسة، هذا المحقق العدلي مسيّس، إذا كنتم تريدون الحقيقة وألا يظلم أحد فهذه هي الحقيقة (أي ما يقوله نصر الله)”. ودعا القاضي أن يعمل من خلال “وحدة معايير”، فيعود ويسير الملف في مساره الطبيعي. وختم قائلاً “نحن كجهة لن نقبل بالإستهداف السياسي أبداً”.
وهذا ما عاد النائب حسين الحاج حسن ليرجّع صداه في حديث له على إذاعة النور في 11 آب، معتبراً أن شركات التأمين وكارتالاتها تمارس ضغوطا للاستثمار السياسي “التي يُمكن أن يكون لها دور في منع نشر التقرير للتملّص من دفع التعويضات”.
وقد شهد سقوط جلسة الهيئة العامة في 12 آب للنظر في طلب الاتهام موجة جديدة من الاتهامات ضد القاضي بيطار. ففيما كرر نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، كلامه عن “استنسابيّة في الادّعاءات القضائيّة”، ظهر النائب علي حسن خليل غاضباً وقال “نحن أولياء دم في هذا الملف” ليتساءل “كيف يشمل القاضي البيطار في الاتهام بقضية انفجار المرفا وزراء معينين ولا يتهم غيرهم؟”
خلاصة:
هذا ما أمكننا قوله عن المراحل الثلاث التي قطعتْها القوى السياسية الحاكمة في اعتراضها على قرارات المحقق العدلي بشأن الادعاء على وزراء ونواب وموظفين عامين وطلباته برفع الحصانة عنه. ففيما تصاعدتْ هذه المواقف من تريّث وتحفّظ إلى تشكيك ممنهج، فإنّها وصلت بعد 4 آب إلى حدود الإدانة والهجوم المباشر. أكثر ما نخشاه في هذا السياق هو أن يذهب هؤلاء إلى مرحلة رابعة قد تتمثّل في المطالبة بتنحية بيطار على خلفية الارتياب المشروع بحياديته. وما يزيد من مخاوفنا في هذا الخصوص هو تضمين العديد من خطابات إشارة إلى هذا الارتياب صراحة أو ضمنا.