في 2010، كان حسونة يترقّب حلول مولوده الثاني، عندما أخذَ زوجته إلى المستشفى الجهوي بجندوبة وقد بدت عليها علامات الوضع. لكن لسبب ما تُوفّيت زوجَتُه، فراحت هي والجنين. لم يكن وقع الفَقْد سهلًا على الأب، غير أنّه ظلّ يُعزّي نفسَه بابنه البكر عُبَيْد، الّذي بذَل كلّ ما في وسعه كأب، ينتمي إلى الطّبقة الشّغيلة، ليُلبّي حاجيات وحيدِه من مأكل وملبس وترفيه، وفق الإمكانيات المُتاحة، إلى أن بلغ 18 عامًا. لم يكن حسونة يتوقّع أنّ آخر عهد له بابنه عُبَيد سيكون يوم 14 أكتوبر الماضي، حين زاره في السجن بعد يومَين من إيقافه بتُهمة مَسْك واستهلاك “الزّطلة”، القنّب الهندي، ليعود إلى البيت في كَفَن.
تروي عائلة عُبَيْد تفاصيل الحادثة، وهي ما تزال تحت وطأة الصدمة ولم تستوعب بعدُ تسارع الأحداث بعد وفاته المُفاجئة. حيث تمّ إيقاف الشاب يوم 09 أكتوبر رفقة ثلاثة من رفاقه في أحد المقاهي بالجهة، لشُبهة مسك واستهلاك الزطلة، لتصدر في شأنه بطاقة إيداع بالسجن يوم الجمعة 11 أكتوبر. لم تكن العائلة تتوقّع أن يتطوّر الملفّ إلى حدّ السّجن، وسعْيًا ولكنّها عيّنت له مُحاميًا، لتخفيف العقوبة عنه، ثمّ تمكّنت من زيارته في السّجن المدني بجندوبة، وهو موقوف على ذمّة التحقيق، يوم الاثنين 14 أكتوبر.
فاجعة الموت
تروي عمّته زهور كيف كان عُبيد يُمازحُها خلال زيارتها الأولى والأخيرة له في السجن، إذ قال لها إنّ الزنزانة قذِرة، ثمّ توجّه إلى والده واعتذر منه عمّا تسبّب له من مشكلات، وسأله مازحًا: “ما رأيك في تصفيفة شعري؟” ثمّ اختبأ وراء الجدار ونظر إلى عمّته ولوّح بيده قائلًا: “أتَو نَحكُوا”، بمعنى “سوف نتحدّث”. يقول حسونة والد عُبَيْد للمفكرة القانونية: “ابني لقِيَ إهمالا في السجن وفي المستشفى. أُطالب بحقّ ابني. فقدت زوجتي وابني وها أنا بعد ثمانية عشر سنة أفقد ابني البكر. أخذوه من المقهى وهو يسير على قدميه بكامل صحّته وأراه يدخل المستشفى هو مُصفّد اليَديْن والقدَميْن وغائب عن الوعي. عندما رأيته في السجن اعتذر منّي ووعدني بأن يَعتمدَ على نفسه وأن يفتح محلّا خاصًّا للحلاقة. وفي المستشفى كان رأسه يتدلّى على صدره في قسم الطبّ العامّ، عوضًا عن نقله إلى الإنعاش”.
فوجِئَت العائلة يوم 19 أكتوبر بمكالمة هاتفيّة من مُهيب، أحد أصدقاء عُبيد، يقول لهم إنّه رآه في قسم الاستعجالي بالمستشفى الجهوي بجندوبة، مُصفّد اليديَن والقدمَين، ولم يكد يتعرّف إليه لشدّة ما كان وضعُه الصحّي متدهورًا. “لأوّل مرة في حياتي أرى صديقي عُبيدًا وهو على تلك الحال. كان شاحب الوجه، زائغ العينين، غائبًا عن الوعي، وقد خَرَجت إفرازات بيضاء من فمه. رحت أحضنه وأبكي وأسأله ماذا حلّ بك، لكنّه لم يُجبني. نهرني أعوان السّجن وطلبوا منّي أن أبتعدَ. ثمّ اتّصلتْ أختي بعائلته لتُخبرهم، ثمّ توفّي عبيد إثر ذلك بيوم”، يقول مهيب للمفكرة. ظلّ عُبيد في قسم الطبّ العامّ بالمستشفَى ليلفظ أنفاسه هناك يوم 20 أكتوبر في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا، بسبب “سكتة قلبيّة”، وفق شهادة الوفاة التي اطّلعت عليها المفكّرة القانونية. تتحَسّر جدّته وتقول بأسًى: “كنت أعتقد أنّني سأسبِقه إلى مثواي الأخير، وها أنا أدفنه اليوم. لقد فقأوا عيني بوفاته. أهملوه وتركوه إلى أن مات”.
يقول قيس المحسني محامي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تصريح للمفكّرة القانونية: “إنّ النيابة العمومية فتحت تحقيقًا في الوفاة المسترابة، غير أنّه لا يوجد إلى حدّ الآن اختبارات وعيّنات لتشريح الجثّة لمعرفة أسباب الوفاة الحقيقية”، وينقل عن العائلة كيف أنّ عُبيدًا لم يكن يعاني مشاكل صحّية وكيف كان يُمازحهم ويُحاول التخفيف عنهم خلال زيارتهم له في السجن. وإذ سعت المفكرة إلى الاتصال بالهيئة العامة للسجون والإصلاح لتبيّن تطورات الملفّ وحقيقة الوفاةالمُسترابة، إلا أنّها لم تتمكن من الحصول على إجابة.
ليلة المواجهات الطّويلة
اهتزّ حيّ الملجة الكحلة بجندوبة لوفاة عُبيد ذي الثمانية عشر سنة،. ورغم الهدوء الّذي يبدو عليه ذلك الحيّ، إلّا أنّه كان خلال الليلة الفاصلة بين الثلاثاء 22 أكتوبر والأربعاء 23 أكتوبر مسرحًا لمواجهات بين الشرطة وعدد من أبناء المنطقة، انتهَت باستعمال الغاز المسيل للدّموع ومحاصرة الحي وإطفاء النور العمومي ومداهمة المنازل واعتقال عدد من الأفراد من بينهم طلبة وقُصَّر، وفق ما جاء في بيان فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بجندوبة، الصادر يوم 23 أكتوبر 2024. “يوم الاثنين، خرجنا لنحتجّ سلميًّا في حدود الساعة السابعة والنصف مساءً أمام مركز الشرطة لإظهار حقّ عُبيد والاستفسار عن سبب وفاته. وجدنا أنفسنا في مواجهة ضرب وعنف وغاز مسيل للدموع، ثمّ أُطفئت الأنوار العمومية وانقطع التيار الكهربائي على منطقة جندوبة الشماليّة وتمّ غلق محيط منزل الضحية عُبيد ومداهمة الحديقة المحاذية للمنزل وإيقاف عدد كبير من الشباب خصوصًا من الطّلبة”. يقول إيهاب صديق عُبيد ليواصل حديثه قائلًا: “قوات الشرطة داهمَت المنازل وألقت بالغاز المسيل للدموع داخلها. حتى أسطح المنازل أصبحت مُستهدفة وكلّ من يخرج من بيته يتمّ إيقافه. في حدود الساعة الواحدة صباحًا تراجعت قوات الأمن مع حلول وفد الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”.
ترتّبت عن وفاة عُبيد في ظروف مسترابة مواجهات بين المتساكنين والشرطة، إثر جنازة الضحية يوم 22 أكتوبر، تسبّبت في إصابة أحد الأعوان نُقل على إثرها إلى قسم الإنعاش وفق ما ذكره محامي العائلة قيس المحسني في تصريح للمفكرة القانونية، وأُصيب فيها محمّد أمين المحمودي الّذي تقول والدته للمفكرة القانونية إنّه كان يُتابع المواجهات دون أن ينخرط فيها، لتُسدَّد في وجهه عبوة من الغاز المسيل للدّموع. “رغم أنّ ابني كان فقط يُراقب ما يحدث، إلا أنّ قوّات الشرطة قادته إلى السيارة وتلقّى كدمات بالماتراك (عصا البوليس) على عينه المُصابة والتي كان يضع عليها عدسة بصرية، وقد تقرّحت عينه وأصبحت تنزف دمًا. أخذوه إلى المستشفى ثمّ عادوا به إلى مركز الشرطة”.
وفي حديثه للمفكرة القانونية، يقول المحامي قيس المحسني إنّ هناك موقوفين U]M إلى حدّ الساعة، من بينهم ستّة طلبة كانوا في حالة تقديم وقاصران اثنان، وثلاثة أفراد في حالة إيقاف، أُفرِج عنهم جميعًا مساء يوم الخميس 24 أكتوبر، على أن يتمّ تعيين موعد لسماع الموقوفين يوم 07 نوفمبر القادم، فيما تحدّدت جلسة لبقيّة المُحالين ليوم 18 نوفمبر، بما فيهم الطّلَبة. وتتنوّع التّهم وفق ما ذكره المُحامي بين الاعتداء بالعنف الشديد على موظّف عمومي، تبعًا لتعرّض أحد أعوان الشرطة لإصابة على مستوى رأسه تسبّبت في نقله إلى قسم العناية المُركَّزة، بالإضافة إلى تهم أخرى مثل المشاركة في عصيان وتكوين وفاق قصد الاعتداء على الأشخاص والأملاك، إلى جانب تهمة الاعتداء المُدبَّر على حريّة الجولان والإضرار عمدًا بملك الغير والهرج والتشويش بالطريق العامّ ورمي موادّ صلبة على أملاك الغير، وفق تكييف النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بجندوبة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.