يندرج هذا المقال ضمن سلسلة من المقالات الشهرية ستنشرها المفكرة القانونية تباعًا، حول قطاع إنتاج الفسفاط في تونس وموقعه ضمن السياسات العامة للدولة. إضافة إلى آثاره الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، بخاصّة في قرى الحوض المنجمي بالجنوب الغربي التونسي (المحرّر).
هنا على بُعد أمتار من السكّة الحديدية بمدينة الرديف التابعة لولاية قفصة، يبيع “كريم”[1] البنزين وبعض السلع الجزائرية الأخرى بطريقة غير نظامية. وكريم ليس الشخص الوحيد الذي يتَعاطى هذا النشاط الاقتصادي. إذ أن العديد من العاطلين والفقراء والعاملين بتشغيل هش ومن كِلاَ الجنسيْن ينخرطون في مجتمع الحوض المنجمي ضمن هذا النشاط المهني غير النظامي. ويمكن تفسير هذا النوع من التشغيل بأبعاد سوسيولوجية مختلفة، فلماذا ينخرط الفقراء والمستبعدون من مراكز اتخاذ القرار ضمن هذه المهن الهشة؟ وكيف يستثمرون القيم المحلية والشبكات العلائقية في هذه الأنشطة الاقتصادية؟ وكيف تحولت هذه الأعمال من ممارسات فردية إلى أفعال جماعية؟
الحدود: سردية دراماتيكية وملاذ الفئات المنسيّة
في سنة 2019 سَافرَ كريم إلى دولة المغرب. ومن هناك انطلق إلى “الناظور” ودخل إلى منطقة “مليلية”، حيث اعتقلته السلطات الإسبانية وقضّى حوالي ثمانية أشهر وخمسة عشر يوما بـمركز مليلية لإيواء المهاجرين، ثم قرّر العودة إلى تونس بعد أن انقطعت الآمال ولم تَترك له السلطات الإسبانية حرية التنقل بين وعبر الحدود الأوروبية. عادَ كريم إلى موطن النشأة واشتغل نادلا في مقهى، ولم يكن له الكثير من الموارد ولكنه بإمكانيات قليلة قرّر الانخراط في بيع المحروقات الجزائرية. وهو يوضح في هذا الصدد:
“عُدت من مليلية سنة 2020 واشتغلت نادلاً بالمقهى ثم في مطلع سنة 2023 اشتريت حوالي 60 لترا من البنزين من عند الجزائريين واستأجرت الدكّان بقيمة 90 دينار واليوم صِرت أبيع وأشتري كميات أكبر وأكثر ممّا سبق، كما أبيع أيضا بعض المنتجات الجزائرية الأخرى مثل العصير أو الزيت أو مشتقات الحليب”.
تُعاني عائلة كريم من قصص الحدود القاتلة للروح الإنسانية. ففي سنة 2008 وَجدت السلطات الأسكتلندية جثتيْ شقيقه وصديقه بمَركَب باسكال[2]Pascal التجاري، الذي خَرجَ من ميناء صفاقس التجاري، حيث صعد شقيقه رفقة صديقه المركب واختبآ في المكان المخصّص للسلع. وكانا بانتظار يومين ليُفتح باب مخزن المركب، لكنّ الأبواب ظلّت مُغلقة لأكثر من سبعة أيام إلى أن نفذَ الأكسجين وودّعا الحياة. دُفنت الضحيتان في مقابر اسكتلندا، ولم تفارق هذه القصة الدراماتيكية حياة أسرة كريم. وهكذا فإنّ الحدود الدولية التي قسمت البر والبحر، والتي فرضَت هيمنة الشمال العالمي على مجتمعات الجنوب، كانت أحد العوامل الأساسية في تنامي القصص الإنسانية الأليمة وحوّلت العديد من المراكب والبحار إلى مقابر جماعية.
رغم معاناته في مركز إيواء المهاجرين وتعرضّه مثل بقية المهاجرين غير النظاميين إلى العنف اللفظي والرمزي وأحيانا الجسدي من قبل السلطات الإسبانية، ورغم القصة الأليمة التي تعرض له شقيقه، يستمر كريم في جمع المال من أجل الاستعداد لخوض غمار الهجرة غير النظامية من جديد:
“تقريبا أربح كل يوم حوالي خمسين دينار، أدفع منها عشرين دينارا تنقسم بين 10د لكل عامل معي، وأحاول يوميا أن لا يتجاوز استهلاكي قيمة 10 دينار، وأدّخر ما تبقّى لكي أتمكن من جمع تكاليف رحلة الهجرة عبر البحر. لأن البر لم يُنصفني ووجدت هذا العمل بديلا كي أوفر به حاجياتي الأساسية وأقدم به يد العون لعائلتي وأدّخر منه تكاليف الهجرة…. ولا زلت أفكر في الحَرقة[3]، كما أجِد تشجيعا من قِبَلِ عائلتي”.
لم تكن النهاية المأساوية لشقيقه أو تجربته الأليمة في مركز مليلية حاجزا يمنع كريم من أجل إعادة التفكير في الهجرة بطريقة غير نظامية. فرغم ما تسببت به الحدود (ولا تزال تتسبّب به) من كوارث إنسانية إلا أنّها تظلّ ملاذ الفئات الهشّة. وملاذهم لا يتجسّد في اجتياز الحدود وحلم الوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط فقط، بل تَعتبر الفئات الهشة أيضا أنّ التجارة الحدودية هي أحد البدائل الاقتصادية لتلبية الحاجيات الاجتماعية، وفي هذا السياق يقول كريم:
” نرى في الحدود خبزتنا (مورد رزقنا)، ويُسهم هذا النشاط في إنقاذ المجتمع المحلي، فمثلا نحن نبيع عشرين لترا من البنزين الجزائري بقيمة خمسة وعشرين دينارا. أما البنزين التونسي فهو بقيمة خمسة وأربعين دينارا. كذلك هناك فرق بحوالي 5 و8 دينارات بين الزيت النباتي التونسي والجزائري. وهناك فروقات واضحة بين العديد من المنتجات رغم أنّ منتوجنا التونسي أفضل من الجزائري من حيث الجودة، لكن صاحب العائلة سيبحث عن السّعر الأرخص”.
وحول الحدود، يُضيف كريم موجّهًا الخطاب للسلطات التونسية: “سيبولنا الحدّ” (افتحوا لنا الحدود). في نظره ونظر العديد من العاملين ضمن هذا النشاط الاقتصادي، وبعد أن شارك كريم في عديد مناظرات التشغيل المحلية والوطنية ولم يتمّ انتدابه في الوظيفة العمومية أو القطاع العام، تُصبح الحدود ملجأه وملاذ أغلب الفئات العاطلة عن العمل.
التجارة الحدودية وهشاشة الضمانات الاقتصادية المستقبلية
على بعد حوالي عشرة كيلومترات من مدينة الرديف المنجمية، وفي الطريق الفاصلة بين الحدود التونسية والجزائرية (انظر الصورة رقم 2)، يبيع وليد[4] البنزين الجزائري بطريقة غير نظامية.
يَرى وليد أن هذا الشغل يُحقق الحاجيات الضرورية، وهي أحد المهن التي يُمكن من خلالها تحقيق موارد مُحترمة. ولكن يظلّ هذا النشاط الاقتصادي في نظر وليد وأغلب الباعة العاديين غير المنخرطين ضمن شبكات تهريب كبرى، عملاً غير مُستقر وهشّ وذاهب إلى الزوال. وفي هذا الصدد يوضّح وليد:
“يرتبط هذا العمل بالجبال، فلئن أغلَقَت الدولة الجبال وهو طريق الكنترا (مسالك شبكات التهريب) فسيتوقّف العمل وبالتالي سينتهي في يوم من الأيام. وحتى التجارة الحدودية التي تمرّ عبر المراكز الديوانية والشرطة الحدودية الرسمية، فإنها أصبحت مورد رزق غير دائم. فسياسة الحدود هي المُتحكّم في هذا العمل، مرة تُغلق ومرة أخرى تُفتح”.
يندرج هذا النوع من العمل ضمن الاقتصاد المتحرك، والذي يعني “الاقتصاد الهش الذي سرعان ما يتأثر بالأزمات والفترات الصعبة التي تمرّ بها المجتمعات. فهو اقتصاد متلوّن يضعف ويقوى، يتعافى ويتأزم. وهو خاضع لحالة عدم وضوح المَسَار وغير قادر على تنشيط الدورة الاقتصادية”.[5] لذلك يتسم هذا النشاط الاقتصادي بالضبابية المستقبلية ولا يعتبره المنخرطون فيه حلاّ دائما وقادرا على تحويلهم من حالة العزوبية إلى تأسيس أسرة، حيث يقول كريم: “لا يمكن لهذا النوع من العمل أن يؤسس لي أسرة”.
تعتَبر السلطات هذا النشاط الاقتصادي موازيا وسلوكا انحرافيًّا، حيث أنه “إذا عجزت أجهزة الدولة وبيروقراطيتها عن مراقبة هذا النشاط الاقتصادي وإخضاعه لآليات ضَبطها مثل الضرائب والمراقبة الجمركية، يصير هذا النشاط من زاوية نظر الدولة: نشاطا غير نظامي”.[6] ولكن المفارقة السوسيولوجية اللافتة للانتباه، هو أنه إذا كان هذا النشاط غير مُهيكل ويشتغل بمنطق الاختفاء والإفلات من رقابة القوات الأمنية الحدودية، فهو في أغلب الأحيان يُواكب التقسيم الزمني البيروقراطي للإدارة الأمنية والديوانية الحدودية، وهذه النقطة يوضحها كريم قائلا:
“أفتح دكّاني الساعة الرابعة فجرا، وأغلقه مع منتصف الليل، فتوقيت عملي يرتبط بالوقت الإداري بمعبر بتيتة الحدودي، فحينما لا تكون هناك سيارات جزائرية تدخل التراب التونسي وأخرى عائدة للجزائر فإن توقيت عملي ينتهي”.
رغم العمل بطرق وعبر مسالك غير نظامية إلا أن وليد وغالبية العاملين في هذه المهنة الهشة يَتَمَنُونَ تنظيم هذه الأعمال غير المنظمة وفتح معبر تجاري من أجل تنظيم عملهم:
“بودّي أن يؤسسوا لنا معبرا تجاريا. فإن وافقوا على هذا المطلب لن ألتفت إلى الدولة، ويجب على هذه الأخيرة أن تُنظّم قطاعنا من خلال إدخال السلع عبر مسالك قانونية، وندفع نحن الضرائب والرسوم الجمركية”.
يقصد وليد بقوله “لن ألتفت للدولة” أنّ هذا النوع من النشاط الاقتصادي يُعتبر بديلا تنمويا محليا بعيدا عن ربط الحوض المنجمي بالنمط الإنتاجي الاستخراجي للفسفاط فقط، ويوضح سمير[7] هذه الفكرة قائلا:
“يجب على الفاعلين والسياسيين وكل النخب أن تطالب بمعبر تجاري عبر بتيتة، فهذا المعبر يمكن أن يكون استثمارا تنمويا واقتصاديا محليا ووطنيا، ولن نظل في حاجة إلى إنتاج الفسفاط فقط”.
دور الشبكات العلائقية والقيم المحلية في استمرارية التجارة الحدودية
منذ مطلع سنة 2023، تمرّ كل يوم تقريبا حوالي 600 سيارة جزائرية وتونسية عبر معبر بتيتة الحدودي[8]، وفي الحَوض المنجمي تدخل كل يوم تقريبا ما بين 200 و250 سيارة جزائرية[9]تقوم ببيع البنزين.
عندما زُرنَا محل كريم، وجدنا أحد التجار الجزائريين يقوم بعملية إفراغ البنزين من خزان سياراته وسكبها في أوعية بلاستيكية. وبعد هذه المشهدية حاولنا أن نفهم العلاقات المتبادلة والتجارية بينهما، لذلك فسّر لنا مستجوبنا هذه الدينامية قائلا:
“في الحقيقة حتى وإن لم يكن لدي المال، فإن التاجر الجزائري يُقدّم لي البضائع ويقول لي استرزق وبعد ذلك سّدِدْ لي الديون”.
وبطريقة كوميدية طرحنا على كريم السؤال التالي: أنت تفكّر في الهجرة غير النظامية، فماذا لو عاد لك التاجر الجزائري غدا ووجدك في جزيرة لامبادوزا الإيطالية؟
وضّح كريم هذه النقطة قائلا: “التعرّف على هؤلاء التجّار مثل كرة الثلج، أي كل مرة أتعرّف على تاجر جديد، ونتعامل مع بعضنا بمنطق الثقة والصداقة التجارية، وبطول المدة التجارية أصبحوا يعرفونني جيّدا”.
لعبَت القيم المحلية والتاريخية والشبكات العلائقية التي تشكّلت أثناء السيرورة التجارية دورا مهما في ديناميات التجارة الحدودية غير النظامية. فـ”الأفراد الذين حلّوا منذ زمن طويل في هذه الأمّة وانصهروا في القبيلة والأسرة، المحمية بواسطة أشكال التضامن التقليدي، مُقيّدون ضمن نظام القيم الخاصّة في بيئتهم الثقافية، ويجدون أنفسهم اليوم شهودا وفاعلين ضمن الروابط الأسرية والاجتماعية عبر إعادة إحياء القيم في إطار تحوّل كبير.”[10] وهكذا “أصبحت العلاقات الشبكية في المجتمع المنجمي نظاما يوجّه الفعل الاجتماعي بما يؤسس لتقاطع شكلي ضدّ خيارات التنمية وينسجم مع السوق (الموازية) لقواعد غير القواعد الرسمية للمعاملات.”[11] لينجح بذلك هذا النشاط الاقتصادي في توظيف قيم التضامن وعقد الصحبة ومبدأ الثقة، وغيرها من مفاهيم الحياة الجماعويّة للمجتمع المحلي.[12]
التحولات الاقتصادية والأزمة المنجمية و “الزحف الهادئ للمعتاد”[13]
خلال سنة 1969، وصل “عدد أجراء المنجم حوالي 10.260 أجير، وكانت نسبة 30،6% فقط من ضمن هؤلاء مولودة بالمناطق المنجمية، أما 69،4% الباقية ولدت خارجه، وهذا يعني أنّ 70% من موظفي وعمّال المناجم كانوا بمثابة يد عاملة نازحة إليه.” [14] وفي سياق التحولات الهيكلية خلال ثمانينات القرن الماضي، لم تعد للشركات المنجمية القدرة الاستيعابية نفسها لليد العاملة، حيث تقلّص عدد العمال بين سنوات 1984 و2004 من 14259 إلى 6223 عامل في سياق وصلت فيه معدلات البطالة إلى مستوى مقلق للغاية خلال عام 2004. فقد بلغت 38،5% بأم العرائس و26،7% بالرديف و21،2 بالمتلوي و28،4% بالمظيلة.[15]
ضمن هذه السياقات التاريخية الهشة، تَشكّلَ الاقتصاد “غير الرسمي” والذي طرَح أسئلة حول فشل البيروقراطيات الوطنية في احتواء التحولات الاقتصادية والاجتماعية. ويقول هارت وهان في هذا الصدد: “تجلّت الأزمة العالمية في دوائر صنع السياسات التنموية في مطلع السبعينات على هيئة خوف من البطالة الحضرية في العالم الثالث. كانت المدن تنمو بسرعة لكن من دون نموّ مماثل في فرص العمل التي اقتصر فعل تأمينها على الحكومة والشركات.”[16] وبالتالي فإن “إحدى النتائج الأساسية لإعادة الهيكلة وفقا لمبادئ العولمة في المجتمعات المتخلفة تمثلت في عملية مزدوجة يظهر فيها التكامل من ناحية والاستبعاد والتحول إلى القطاع غير الرسمي من ناحية أخرى”.[17]
ومن أجل التكيّف مع أشكال الهشاشة الاجتماعية انخرط العديد من العاطلين والفقراء ضمن الأنشطة الاقتصادية “غير المنظمة” والهشّة وغير المستقرة. وفي مجتمع الحوض المنجمي ينخرط في النشاط التجاري الحدودي التونسي- الجزائري غير المنظم كِلا الجنسيْن، حيث يختص الرجال في تجارة المحروقات وقطع غيار السيارات والعجلات المطاطية والحديد، فيما اختصت النساء في تجارة الملابس الجاهزة ومواد التجميل والأثاث المنزلي، وغيرها من السّلع…[18]
خلال مطلع الألفية، وكَردٍّ واضح على جمود السلطات انخرط بعض الأفراد في منطقة الحوض المنجمي ضمن دائرة الاقتصاد غير النظامي. بعد سنة 2011، حينما يزور المرء القرى المنجمية سيلاحظ تكدّس السلع الجزائرية في الدكاكين المحلية وفوق الأرصفة الخاصة بالسلطات البلدية. وهكذا تشكّلَ ما أصبح يطلَق عليه بـ”الاقتصاد الشارعي”. ويُشير هذا المصطلح الأخير إلى “النشاط الاقتصادي الذي لا يَرتبط فيه الفاعلون بآليات الاقتصاد الرسمي للدولة، ويكون هذا النشاط خارج عن الآليات الضبطية للبيروقراطية الرسمية. وهو اقتصاد لا يعيش داخله معظم الناس، أي أنّ أغلبية الناس يعيشون داخل الاقتصاد الرسمي الذي يتّسم باتساق نظامه والتواتر الذي يُمكن التنبؤ به.”[19] ولا يمكن اعتبار “الاقتصاد الشّارعي اقتصادا غير منظما، ولا يُعتبر أيضا نشاطا فوضويًا مرتبطا بالجريمة والسلوك الانحرافي”[20] بل يعتبر العديد من باعة السلع الجزائرية أنّ هذا النشاط الاقتصادي يندرج ضمن أفعال المقاومة اليومية، وفي هذا السياق يوضّح كريم:
“أنا اعتبر هذا النشاط مقاومة، ويجب أن نحارب دائما لكي نعيش في هذا البلد”.
تُحيلنا مفردة “الحرب” إلى معاني عديدة منها الحرب والصراع ضد الدولة، على غرار عدم دفع الرسوم الجمركية وتجاوز الأطر القانونية التي هندَسَتها البيروقراطيات الوطنية، فهي لا تعني الاستيلاء على مكاسب الفقراء والحرب ضدهم. وتتطابق هذه الدلالات مع مصطلح الزحف الهادئ للمعتاد الذي نسجه الباحث آصف بيّات، والذي “يشير إلى الأفعال غير الجمعية المباشرة، والتي تتسم بالنفس الطويل لأفراد وأسر متفرقين أثناء سعيهم لسدّ حاجاتهم الضرورية (الأرض للإيواء، الخدمات الحضرية، العمل غير الرسمي الخ) وذلك بطريقة غير قانونية هادئة.”[21] فهذه الفئات تُكافِح من أجل البقاء ولا ينتظرون القدر لتحديد مصائر حياتهم. ولكن يختلف الزحف الهادئ عن استراتيجيات البقاء أو المقاومة اليومية، فالمكاسب التي يحصل عليها الفاعلون لا تُؤخَذ على حساب الفقراء من أبناء جلدتهم ولا على حساب أنفسهم (كما هي الحال في استراتيجيات البقاء) ولكنها تؤخذ على حساب الدولة والأغنياء والأقوياء. مثل الحصول على الكهرباء لا من جيرانهم وإنما من كوابل الطاقة الرئيسية التي تشرف عليها البلدية.”[22] أو من خلال إدخال السلع عبر الحدود ودون دفع رسوم ديوانية أو دفع الإتاوات لصالح القباضة المالية التابعة للسلطة التونسية.
وفي سياق الكفاح، يتسم هؤلاء الفاعلون بـ”الحراك الهادئ طويل المدى، وهي صور من النضال السطحي أو المفتوح دون قيادة أيديولوجية أو تنظيم محدد المعالم”.[23] فهم عن وعي أو من دونه مُكافحون مناضلون ضدّ السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي عَبدّت الطريق نحو الأزمة المنجمية وأنتجت جيوشا من العاطلين والفقراء والعاملين في أشغال هشة ليختاروا مسالك أخرى بطريقة هادئة وغير نظامية بغاية تلبية حاجياتهم الاجتماعية ضمن دائرة اقتصادية غير قادرة على إنتاج القيم المواطنية والصحوة الاقتصادية. فصورة السكة الحديدية القريبة من محل كريم والتي كانت تنقل عربات محملة بثروة الفسفاط[24]، صارت اليوم إحدى العلامات الدالة على استحالة العمل في الشركات المنجمية، وصارت أيضا أحد مظاهر الاستياء والإحباط[1] ، ويقول كريم في هذا السياق:
” أرى السكة الحديدية كل يوم، وحينما يشتغل أي محرك أو آلة بشركة الفسفاط أسمع صوتها باعتبار قربها من المنزل وفضاء العمل، وبودي أن أشتغل في شركة الفسفاط، وأنا أريد العمل في مؤسسة الفسفاط باعتباري صاحب شهادة ميكانيك. لكن شاركت في المناظرات المحلية والوطنية وسجلت أيضا في إحدى الشركات الأهلية. ولكن واقعيا لا يوجد أي شيء… سابقا كنت لاعب كرة قدم في الجمعية الرياضية المحلية وكنت منخرطا أيضا في أحد نوادي المسرح، لكن الدولة قتلت فينا الأحلام من خلال قلة الإمكانيات وعدم التشجيع، وأنا أعمل هنا وأبيع البنزين رغم ما ينتجه هذا العمل من أمراض في الجسد، لأن نقل البنزين وبيعه لديه آثار صحية سلبية”.
[1] – مقابلة مباشرة أجريت يوم 5 ماي 2023 على الساعة الخامسة والنصف مساء بمدينة الرديف مع كريم، شاب من الرديف يبلغ من العمر 25 سنة ومتحصل على شهادة تقني في الميكانيك وعاطل عن العمل، وكريم هو الاسم المستعار.
[3] الحرقة: هي المصطلح المستعمل في العامية التونسية للتعبير عن الهجرة غير النظامية.
[4] – مقابلة مباشرة أجريت يوم 1 ماي 2023 على الساعة السادسة مساء بمدينة الرديف مع وليد، شاب من الرديف يبلغ من العمر ثلاثون سنة، وحاصل على الباكالويا وعامل بشركات البيئة والغراسة بالحوض المنجمي ومنخرط ضمن التجارة غير النظامية. ووليد هو الاسم المستعار.
[5] – حامد، (المنجي)، “مفارقات التنمية في الحوض المنجمي”، مجمع الأطرش، تونس، 2021، ص 94، 95.
[6] – ماجدي، (إحسان)، “بريكاريا نهج إسبانيا: مقاربة أنثروبولوجية للاقتصاد الشارعي في تونس”، في سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس: مقاربة سوسيو أنثروبولوجيّة، تحرير وتنسيق: سفيان جاب الله، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2022، ص 199- 226، ص 210.
[7] – مقابلة مباشرة أجريت يوم 1 ماي 2023 على الساعة الرابعة مساء بمدينة الرديف مع سمير إطار أمني بمعبر بتيتة الحدودي، سمير هو الاسم المستعار.
[10]– بورقية، (رحمة)، ” القيم والتغيّر الاجتماعي في المغرب”، ترجمة: محمد الإدريسي، مؤمنون بلا حدود، ترجمات: قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، الرباط، 03 أكتوبر 2018، ص 1-15، ص 7.
[12] – سعداوي، (محمد فوزي)، “التقاطع الملتبس بين التهريب والإرهاب على الحدود الغربية للبلاد التونسية”، في الإرهاب والتهريب في تونس: دراسات في الوضعيّة الرّاهنة، إشراف: عميرة عليّة الصغيّر، المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، جامعة منوبة، 2017، ص 95- 114، ص 102.
[13] الزحف الهادئ للمعتاد، هي مقاربة نظرية نسجها الباحث آصف بايات، يمكن للقارئ العودة إلى: بايات، (آصف)، ” الحياة السياسية: كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط”، ترجمة: أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014.
[14]– التايب، (عائشة)، ” التحولات الحضرية بمناطق الاستغلال المنجمي بالمغرب العربي: المناطق المنجمية بالجنوب التونسي مثالا”، المجلّة الجزائرية في الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعية، إنسانيات، عدد 42، 2008. الموقع وتاريخ زيارته: http://journals.openedition.org/insaniyat/6727 ; DOI : https://doi.org/10.4000/insaniyat.6727 ، 15 ديسمبر 2022 على الساعة 17:56.
[15] – Ben Jannet,( Zouheir),”Jeunes, Etat et dynamique de la révolution en Tunisie. Enquête dans le Bassin-Minier de Gafsa” , in, Christiana Constantopoulou (S/D), Récits de la crise : mythes et réalités de la société contemporaine, collection logiques sociales, Paris, l’Harmattan, 2017, pp 277- 302. P 284.
[19] – جاب الله، (سفيان)، “سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس: مقاربة سوسيو أنثروبولوجيّة”، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2022، ص 11.
[24] – تقريبا من عام 2009 وخاصة بعد سنة 2011 إلى حدود كتابة هذه الأسطر لم تعد شركة الفسفاط بمدينة الرديف تنقل مادة الفسفاط عبر القطارات لثلاثة أسباب: الأول وهو تعطل السكة الحديدية بعد فيضانات الرديف في خريف 2009، ثانيا فتح شركات لنقل المواد المنجمية عبر شاحنات ضخمة، وثالثا موجة الاعتصامات.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.