شكّلَت مساهمة بيير فيرميرين المبكرة في دراسة التاريخ الثقافي للمغرب وتونس، من خلال أنظمة التدريس، إضافةً نوعيةً في التحقيب التاريخي المعاصر لمسار تشكّل النخب في المستعمرات الفرنسية السابقة، وذلك خارج ثنائية إعادة إنتاج التاريخ الاستعماري، أو إعادة إنتاج السرديات الرسمية لنظم ما بعد الاستعمار. إذ أن الفروق بين المدرستيْن ليست بالجذريّة التي يتخيّلها البعض، لأن التداخل بين النخب الاستعمارية والنخبة التي ورثت حكم المستعمرات كان أكثر تعقيداً من تبسيطه في مجرد ثنائية متضادةٍ.
ظهر كتاب بيير فيرميرين، أول مرةٍ، كأطروحة دكتوراه ناقَشَها الباحث في عام 2002 في جامعة باريس الثامنة، تحت عنوان “تكوين النخب من خلال التعليم العالي الحديث في المغرب وتونس في القرن العشرين”. ثمّ نُشَر لاحقاً ككتاب منقحٍ بعنوان “تكوين النخب في المغرب وتونس: من الوطنيين إلى الإسلاميين، 1920-2000″( La Découverte، باريس، 2002). وفي العام نفسه ظهرت منه طبعة مغربيّة، بعنوان ”المغرب : النخبة والسلطة”( Alizés، الرباط، 2002). ليُعيد معهد البحوث المغاربية المعاصرة (تونس)، إصداره قبل عامٍ في طبعة جديدةٍ. و فيرميرين ليس غريباً عن بلاد المغرب، فقد شكّلت دائماً تخصصاً بحثياً مفضلاً له. حيث عاد في عام 2004 قبل سنواتٍ من الثورة في تونس بكتاب تحت عنوان: “المغرب العربي: الديمقراطية مستحيلة؟” (Fayard ، باريس، 2004). وفي 2012 نشر مراجعةً تاريخية أساسية بعنوان: “بؤس تأريخ المغرب الكبير ما بعد الاستعمار (1962-2012)” (منشورات السوربون، باريس، 2012).
تغطّي مساهمة بيير فيرميرين القرن العشرين بأكمله، حيث استفَاد في منتصف تسعينات القرن الماضي من فتح أرشيف المستعمرات الفرنسية للفترة 1945-1956. فقد شكّلَت هذه الأرشيفات مصفوفة لهذا العمل التاريخيّ الاجتماعي، الذي غطَّى جوانب أخرى منه بفضل مصادر التاريخ الشفهيّ من خلال جولات استقصائية في تونس والمغرب. ويتعّلق جوهر هذه الدراسة، وفقاً للباحث، بـ “تكوين النخبة” من خلال التعليم العالي الحديث، وعبر فهم الأساليب التي تمّ تطبيقها تدريجياً، وبخاصّة منذ الاستقلال، لتزويد هذه المؤسسات التعليمية الناشئة المنخرطة في عملية تحديث غير مسبوقة بمسؤولين تنفيذيين قادرين على قيادتها. ولذلك يجب أن يُفهم “تكوين” هؤلاء المديرين بمعنى “الإنتاج”. ويستثني مسارات التكوين التقليدية، مثل الجامعات الإسلامية القديمة التي حُكمَ عليها بالهامشية في المجال الأكاديمي، وأصبحت غير قادرة على إنتاج نخب ذات موقع اجتماعي فاعل. وهو المصير الذي وجده خرّيجو الجامعة الزيتونية ومسارات التعليم الديني غير الرسمي بعد الاستقلال، مما دفع بعضهم إلى الهجرة نحو الشرق والبعض الآخر امتهن وظائف أقلّ شأناً من العمل الإداري. ولأن الدراسة ذات نهج مقارن بين النموذج المغربي والنموذجي التونسي فإن هذه المراجعة ستقتصر على نتائج البحث في الجانب التونسي.
جيل الرواد
يدرس الباحث في القسم الأول من الكتاب تكوين النخب التونسية في الفترة الاستعمارية بين 1929 و1956. وهي شريحة تَشكّل وعيها داخل المدرسة الاستعمارية ذات التكوين المختلط الفرنسي–العربي. فقد كان لمشاركة أكثر من 63 ألف تونسيّ في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الجيش الفرنسي أثر كبير في خلق أفق سياسي واسع لدى النواة الوطنية التي بدأت تتشكل في البلاد، من خلال حركة الشباب التونسي ثم الحزب الدستوري. وقد شهدت المستعمرة الفرنسية، في أعقاب الحرب، تقّدمًا واضحاً في التعليم الحديث. حيث زادت ميزانية التعليم العام أكثر من عشرة أضعاف بين عامي 1919 و1930. شكّلت فترة ما بين الحربيين أوج القوة الاستعمارية الفرنسية، حيث كانت الإدارة الفرنسية تحتاج إلى جيش إداري يضاهي احتياجها للجيش المسلّح لإدارة المستعمرة. لذلك عملتْ على توسيع دائرة التعليم الحديث، وخاصة في تكوين المترجمين. في الوقت نفسه، يُلفت الباحث إلى أنّ هذا التوسّع لم يكن فقط دافعه المشروع الاستعماري، بل الطلب القويّ للتونسيين على التعليم الحديث، حيث تمّ إنشاء 158 مدرسةً بين 1923-1926 بينها 22 مدرسة للبنات المسلمات. وأمام عجز السلطات على تلبية جميع الطلبات، فقد شهدت هذه الفترة تطوير عدد معين من المدارس الخاصة، بتمويل من التجار الصفاقسيين. وقد ارتفع عدد هذه المدارس من 17 عام 1929 إلى 42 عام 1939. وقد قامت هذه المدارس الحديثة بتعليم أكثر من عشرة آلاف طالب، وفق نظامٍ يجمع بين التعليم الديني والتعليم الحديث. كما يرصد الكتاب أصداء هذا الطلب المتزايد على التعليم في الصحافة التونسية العربية والفرنسية، التي كان كتّابها يطالبون بالمساواة في فرص التعليم بين الفرنسيين والمسلمين.
ويقدّم الباحث وجهاً آخر لهذا الإقبال من خلال تأثير صدمة الحرب. حيث قُتل عدة آلاف من المجندين التونسيين؛ وقد وجدَ الناس أن حاملي شهادة التعليم الابتدائي قد تم إعفائهم من التجنيد، وأظهرت لهم الحرب أن التعليم يُمكن أن يكون ضمانة حقيقية ضدّ الموت البشع. كما شهدتْ فترة العشرينيات عودة أوائل الطلاب التونسيين من فرنسا يحملون لقب المحامي أو الدكتور في الطبّ. وقد كان لهؤلاء التونسيين الرواد في المهن الحرة تأثير قادر على إثارة الدعوات والحماس لدى الشباب التونسي. إلى جانب بروز تيار فكري تونسي أصبح يُفسر أسباب الوقوع تحت الاستعمار من جانب ثقافي، يعود أساساً إلى التفوّق المعرفي للمستعمر، وبالتالي فإنه يراهن على التعليم كرافعة للخروج من وضع “الحماية المُذلّ”.
توزّعت خارطة النّخبة التونسيّة ضمن جيل الرواد، تحت الاستعمار، على ثلاثة روافد أساسية: الرافد العربي الحديث، وهي النخبة التي تلقّت تعليماً مزدوجاً عربي– فرنسي، في المدرسة الصادقية أو في المدارس المختلطة. وقد توجّه قطاع كبير منها إلى العمل الإداري في المحاكم والإدارات التونسية أو في الإدارة الفرنسية، وقد استفادت من ازدواجية اللغة والثقافة في تحسين أوضاعها الاجتماعية والترقي في السلم الوظيفي والطبقي، رغم أنّ جزءاً من هذه النخبة كان يحمل توجّهات وطنية وحتى استقلالية جذرية. الرافد الثاني، هي النخبة التقليدية التي تلقت تعليماً شرعياً في الجامعة الزيتونية والمدارس الدينية، والتي حافظت حتى الاستقلال على موقع اجتماعي فاعل في التعليم الديني والعمل الإداري في المحاكم والأوقاف. وشأنها شأن النخب ذات التعليم المزدوج كان بعضها ذوي توجهات وطنية والبعض الآخر منخرطا في التيار السائد المُداهن للاستعمار. وهذه النخبة منقسمة طبقياً بين أقلية أرستقراطية يمثلها كبار الشيوخ وأبناؤهم المرتبطون بالبلاط، وأغلبية من أصول ريفية وبدوية أصبحت بفضل الشرعية الدينية والعمل الإداري والمدرسي ضمن البرجوازية الصغيرة. والرافد الثالث، هو النخبة التي واصلت تعليمها المزدوج في الجامعات الفرنسية، ورغم أقلية هذا القطاع إلا أن تأثيره كان واسعاً وعميقاً، حيث قادت هذه النخبة الحركة الوطنية الاستقلالية بدايةً من الثلاثينات، رغم وجود قطاعٍ منها انخرط في الإدارة الاستعمارية. وقد شكلت فترة دراستهم في فرنسا ملامح تفكيرهم الأساسية حول “الوطنية”، هذا المفهوم الذي كان غريباً في بلد كان إلى وقت قريب جزءاً من التكوين الرمزي للخلافة الإسلامية. فقد تركت سنوات الدراسة في فرنسا أثرها الواضح في تفكير هذه النخب حول ضرورة بناء “الدولة الأمة”، تماماً كالنموذج السائد في أوروبا في ذلك الوقت. لذلك يشكل هذا الرافد الثالث جيل “الصحوة القومية”.
جيل الاستقلال
جابهت الطبقة الحاكمة بعد الاستعمار وضعاً إدارياً واقتصادياً حرجاً. فقد أدّى توجّه السلطة نحو توحيد التعليم وإلغاء المحاكم الشرعية وإلغاء الأوقاف إلى خروج النخب ذات التعليم التقليدي من الخدمة المدنية على نطاق واسع. إلى جانب رحيل المئات من شاغلي المناصب العليا من الفرنسيين. إذ تركت سنوات الاستعمار الطويلة أثرها على اختلال التوازن في المناصب العليا. فإلى حدود عام 1952، ضمّت الخدمة المدنية التونسية عشر آلاف تونسي مقارنة بـ 10600 موظف حكومي فرنسي. وهكذا فإنّ التوازن العام لجميع فئات موظفي الخدمة المدنية كان مستقرّا إلى حدّ ما. ورغم ذلك، كان الوضع بين موظفي الخدمة المدنية من الفئة (أ) (المعروفين بكبار المديرين التنفيذييّن) مختلفًا تمامًا: حيث كان هناك 946 تونسيًا مقابل 1628 فرنسيًا، أي بنسبة 36.7%. لتجد الدولة الفتية نفسها أمام فراغ إداري على مستوى القمة. الأمر الذي دفع الرئيس الحبيب بورقيبة إلى سلوك طريقين: الأول طريق استراتيجي في توسيع التعليم العمومي وتحسين جودته وعلمنَته. والطريق الثاني كان تكتيكياً وهو استعماله قطاعات واسعة من النخب الإدارية والسياسيّة التي كانت في صفّ الاستعمار أو قريبة منه أو متحفّظة ضد الحركة الوطنية. وقد استوعب من خلال ذلك مئات المديرين والقُياد والقيادات المحليّة في الهيكل الإداري الجديد، إلى جانب نخب عسكرية وأمنية كانت جزءاً من المنظومة شبه العسكرية والأمنية في عهد الاستعمار. كما حافظ على جزء كبير من شبكة المعلّمين والأساتذة الفرنسيين الذين فضّلوا البقاء في البلاد بعد الاستقلال، وأمَّنُوا خلال عقديْ الخمسينات والستينات الدروس في كثير من المؤسسات التعليمية.
حتى عام 1967، كان هناك ارتياح شعبيّ بنجاح إصلاح التعليم والخطة العشرية للتعليم الشامل (1958-1968). كما تمّ إدماجها في خطّة الانطلاقة الاقتصاديّة الرباعية التي أطلقها وزير الاقتصاد أحمد بن صالح (1965-1968). لكن فشل المشروع التعاضدي وتنامي الأزمة الاجتماعية، جَعلَ هذا الارتياح ينقلب إلى سخط متعدّد المستويات. وفي صيف عام 1967، قدّمت لجنة التعليم في مجلس الأمة (البرلمان) تقريراً يُشير إلى أن الأهداف المُعلنة عند الاستقلال لم تتحقق حتى الآن، وأن تطبيقها لم يمكّن من تزويد الاقتصاد التونسي بالمديرين المتوسطين الذين يحتاج إليهم. وكانت الانتقادات الرئيسيّة تدور حول صعوبة تدريب المعلمين في جميع مراحل التعليم، وعواقب”التّدريب السطحيّ” للعديد من المعينين، و”تراجع المستوى العام” في اللغة الفرنسية على وجه الخصوص. ونلاحظ أنه في عام 1967، لم يتم ملء سوى 35% من الحاجة إلى أعضاء هيئة التّدريس من قبل التونسيين. علاوة على ذلك، كان التعليم الابتدائي يعاني حتى العام 1967 من ندرة المعلمين مزدوجي اللغة، حيث أن 38% من عدد المعلمين من حاملي شهادة التحصيل، أي من أحادي اللغة العربية ذوي الخلفية الزيتونية.
الجانب الآخر من المشهد هو تطوّر الاحتجاج الطلابي والحركات الاجتماعية في البلاد نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات. وهو ما دفع السلطات إلى التحرّك في مجال التعليم نحو إعادة توجيه السياسات التعليمية، لأن المبادئ الرئيسيّة التي أُعلنت عند الاستقلال لم تؤدّ إلى النتائج المتوقّعة. وقد حال النمو الديموغرافي القوي دون الالتحاق بالمدارس لجميع التلاميذ في سن المدرسة، وظلّ تأميم أعضاء هيئة التدريس مجرّد أمنيّات بسبب الاعتماد الشديد على المتعاونين الأجانب (خاصة الفرنسيين)، ولم يتقدم التعريب خلال الستينيات (الظاهرتان الأخيرتان على ارتباط وثيق). ثم واجه المسؤولون عن السياسات التعليمية نيرانًا شديدة من الانتقادات من العديد من قطاعات المجتمع، ولكن أيضًا من داخل من هم في السلطة. وبالإضافة إلى الانتقادات اليساريّة التي تعدّ الأشدّ، والتي تؤكّد على “الطابع الطبقي للتعليم”، تعرضت السلطات التعليمية لهجوم من قبل مؤيدي التعريب، سواء التقليديين مثل النخب الدينية أو الحداثيين مثل الوزير أحمد بن صالح.
عند هذا المنعطف، بدأت السلطة تستفيق على أوهام “أحادية النخبة”، وهي الفكرة التي أراد بورقيبة تحقيقها بعد الاستقلال، مستنداً إلى فلسفة وضعيةٍ تريد خلق مجتمع موحّد ونخبة موحدة تسير خلف قائد واحدٍ وحزبٍ واحدٍ. لكن بورقيبة تَغافلَ عن أن سياسته في سبيل توحيد التعليم وعلمنَته وتوسيعه ستخلق بالضرورة نخبةً ذات تفكير نقدي، لن يكون سهلاً وضعها جميعاً في قالبٍ واحدٍ أو جعلها تسير خلف القائد في صمت. لقد خلَقت مدرسة بورقيبة معارضيها. ولم تدرك البلاد سبعينات القرن الماضي حتى ظهرت أجيال جديدة من النخبة التونسية تعلن معارضتها للسلطة بشكل جذريّ يطال تكوينها الطبقي وموقعها الدولي وكذلك – وهو الأهم – شرعيتها وشرعيّة قائدها الأبوية. وهي فضلاً عن ذلك نخبة غير موحدة، متنوعة المشارب ومختلفة التفكير بين اليسار واليمين والوسط، وبين القومية والأممية والمحلية.
جيل الأزمة
ظلّت المدرسة دائماً القناة الرئيسيّة لإنتاج النخبة في تونس، بخاصّة على مستوى التعليم العالي. ذلك أن نظام الجدارة الموروث من القرن التاسع عشر في فرنسا، والذي يطبّق على نطاق واسع إلى حد ما في المغرب العربي من قبل المستعمر، أصبح في الواقع النمط الجديد لإضفاء الشرعية على النخبة المغاربية حتى بعد الاستقلال. غير أن الجدارة التعليمية لم تكن مُعلّقة في السماء، بل تتفاعل مع الشبكات العائلية والقاعدة الاقتصادية للعائلات والظروف السياسية التي تلعب دوراً أساسياً، ليس فقط في إنتاج النخبة بل في تحديد معالمها وأدوارها. هذا التمهيد يبدو ضروريا لفهم طبيعة الأزمة التي دخلَت فيها تونس منذ نهاية السّبعنيات، بعد انفتاح اقتصادي رسّخَ شكلاً جديداً من رأسمالية المحاسيب وخَلقَ واقعاً طبقياً جديداً.
كان عقد الثمانينات عقد الأزمة متعددة الأوجه في تونس. دخلَ النظام السياسي الذي بناه بورقيبة نفق النهاية. وقد تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية حادّة، شكّلتها نتائج انفتاح السبعينات، وأدخلت البلاد إلى حظيرة صندوق النقد الدولي. ولم يُشرف العقد على النهاية حتى خرج بورقيبة من الحكم بانقلاب عسكريّ. في عهد زين العابدين بن علي شهدت البلاد اضطرابات كبيرة في نظام التعليم. بعد إطلاق الوزير التيجاني الشلي إصلاحات التعليم العالي في عام 1989، عيّن الرئيس بن علي، الحقوقي محمد الشرفي على رأس وزارة التربية. والذي بلورَ مشروعه الإصلاحي خلال عامين من المشاورات وأسفر عن قانون 29 جويلية 1991. حافظت اللغة الفرنسية على موقعها كلغة أجنبية إلزامية للتلاميذ الذين يجتازون شهادة البكالوريا، لكن التعديلات طالت الجوانب المتعلقة بالدين، فقد كان هذا الإصلاح يجري في سياق حربٍ بين النظام والحركة الإسلامية. لاحقاً واصل خليفته، الدالي الجازي، عمله من خلال إعادة اللغة الفرنسية إلى التعليم العالي، وبخاصة في كليات الآداب (أساسا في شعبة الفلسفة).
كانت هذه الإصلاحات تهدف إلى معالجة إرث السبعينيات، وقد حظيت بدعم البنك الدولي الذي نشر تقارير عدّة حول التعليم التونسي في ذلك الوقت. لم تكن أزمة التعليم في تونس في ذلك الوقت بعيدةً عن التوجه النيوليبرالي للنظام. فقد أصبحَت الدولة عاجزةً عن استيعاب العدد الكبير من الخريجين في الإدارة. حيث توجّهت نحو ما تسمّيه “الملاءمة بين سوق الشغل ومخرجات التعليم”، وبذلك فقد التعليم دوره الرمزي في إنتاج النخب، وأصبح جزءاً من عملية الإنتاج الاقتصادي. وعلى الهامش خلق هذا الواقع أنواعاً جديدةً من النخبة مثل “النخبة العاطلة عن العمل” و”النخبة المهاجرة”، والتي كانت جزءًا أساسياً من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي ستشهده البلاد خلال العقد الأول من القرن الحالي، والذي سينتهي بدوره إلى نهوض ثوري غير مسبوق، طالما كان حلماً يراود نخباً تونسية، وهدفاً دفعت نخب أخرى حياتها من أجله.