استيقظت روى باكراً في بلدتها في قضاء بشري، وفي نيّتها القيام بواجبها الانتخابي عند السابعة صباحاً قبل ازدحام مركز الاقتراع لكي يتسنّى لها تناول قهوتها “ع رواق” مع عائلتها ثم فطور الصباح عندما يصل إخوتها من بيروت، والمغادرة إلى العاصمة قبل “عجقة” بعد الظهر التي تشهد عودة أهالي المناطق إلى العاصمة.
ما إن أدارت روى محرّك سيارتها وقادتها في بشري حتى علقت في زحمة سير خانقة. قالت لنفسها “منيح في إقبال على الانتخابات”، بعد نصف ساعة من السير البطيء، أدركت أنّ الازدحام كان من الطابور المصطّف على إحدى محطات الوقود. أكملت طريقها وفي قنات، إحدى قرى القضاء، عانت روى من الزحمة نفسها فقررت أن تقف في الطابور المنتظر على المحطة لتملأ خزّان سيارتها بالوقود ظنّاً منها أنّ السبب هو أزمة وقود جديدة. عندما وصلت إلى عامل المحطة سألها: “وين بون البنزين تبعك؟”. أي بون؟ ردّت. ضحك وقال لها “لي عم يعطوه الأحزاب والمرشحين”، وأشار إلى الصف الطويل من المنتظرين قائلاً “هودي كلّهم معهن بونات ببلاش” وهو يسألها “ما بتعرفي حدا من القوّات أو من ماكينة ملحم طوق؟ كلّهم عم يوزعوا”.
ما روته روى عن قضاء بشري لـ “المفكرة”، حصل مع ضياء التي تحدثت عن طوابير البنزين على محطة الأمانة التابعة لحزب الله الموجودة في العديد من بلدات الجنوب وصولاً إلى طريق المطار في الضاحية الجنوبية، شهدت الازدحام نفسه، وكانت قسائم البنزين سيّدة الموقف.
الزحمة على محطات الوقود لم تقتصر على بشري والجنوب بل عمّت مختلف المناطق اللبنانية وبالتالي شهد اليوم الانتخابي نوعين من الازدحام: الأول بديهي في يوم انتخابي يتكرّر كلّ 4 سنوات أي الازدحام أمام مراكز الاقتراع، والثاني طارئ، وأشدّ من الأول تمثل بزحمة محطات الوقود.
فقد علق المواطنون وزوار المناطق اللبنانية في 15 أيار في زحمة محطات الوقود التي امتدت الطوابير على بعضها لنحو كيلومتر طولاً وأحياناً على صفين متوازيين في دليل قاطع على نموذج من الرشى التي سبقت اليوم الانتخابي وتخلّلته. وشوهد مواطنون يملأون غالونات بلاستيكية كبيرة بحصّتهم من “بونات” البنزين التي تفوق قدرة خزانات سياراتهم على استيعابها، كون تاريخ انتهاء صلاحية قسائم البنزين كانت محددة.
تقول رئيسة الاتحاد اللبناني للمعوّقين حركياً سيلفانا اللقيس إنّ الاتحاد وجد صعوبة كبيرة في إيجاد وسائل نقل لتأمين انتقال مندوبيه إلى مراكز الإقتراع في الدوائر الـ 15 على الأراضي اللبنانية كافة “كلّه كان محجوز لثلاثة أيام، وإمكاناتنا المالية لا تسمح بالحجز بهذه الطريقة لا لثلاثة أيام ولا بالأسعار التي كانت متداولة”. وتفيد مندوبة الاتحاد في بعلبك الهرمل زينب عثمان أنّ الحافلة الصغيرة “الفان” في مدينة الشمس محجوزة بـ 4 ملايين ليرة لبنانية في اليوم. ولذا اضطر الاتحاد إلى الاستعانة بأصدقاء أو الطلب من مندوبيه استعمال سياراتهم الخاصة.
كلّ ما سبق يفيد بهيمنة أحزاب السلطة على قطاع النقل الذي فاقت فاتورة الوقود الذي استهلكه لثلاثة أيام (الجمعة والسبت والأحد)، عشية الاستحقاق وخلاله وبعده، عتبة الـ 850 ألف صفيحة من وقود البنزين كلفتها 938 مليار ليرة لبنانية أي في زيادة 355 مليار ليرة عن الأيام العادية، وفق ما توقع رئيس تجمع الشركات المستوردة للنفط مارون شماس. ويستثنى من هذه الكلفة، وفق تصريح شماس إلى صحيفة “الجمهورية” مؤخراً “حاجيات ومصاريف وقود وسائل النقل التي استخدمها القوى الأمنية”.
لقد استنفرت الماكينات الانتخابية للوائح السلطة أجهزتها البشرية الضخمة معطوفة على إمكانيات مادية هائلة للإمساك بالقطاع في لبنان، واستخدامه في عملية نقل ناخبيها من أماكن سكنهم إلى مراكز الاقتراع في المدن الرئيسية وقرى الأطراف قبل الاستحقا وبعده.
تحالفات لوائح السلطة المتنافسة في الشكل، المنسجمة في المضمون والمتلاقية، صعّبت مهمة المواجهة التي قادتها لوائح التغيير المنبثقة من رحم ثورة 17 تشرين و المنتشرة على مساحة الوطن في 15 دائرة انتخابية. والعبء اللوجستي على كاهل لوائح التغيير، لم يكن له علاقة بإرادة الاستمرار والمواجهة وتحقيق الخروقات التي فاقت التوقعات في بعض الدوائر في جدار السلطة، بل يرتبط مباشرة بتواضع الإمكانيات المادية أوّلاً، في مقابل قدرات مالية مهولة لأحزاب السلطة ما مكّن الأخيرة من حجز آلاف وسائل النقل وفي نصب أعينها هدفين: الأول لنقل ناخبينها طبعاً، والثاني لحرمان اللوائح المنافسة من عامل هام مكمّل لـ “عُدّة” العمل، في وقت تخطى فيه سعر صفيحة وقود البنزين عتبة الـ 500 ألف، مع العلم أنّ معظم المناطق اللبنانية تعاني من نزوح نسب تراوح ما بين 40 إلى 70% من ناخبيها نحو العاصمة والمدن الرئيسية وعلى الأقل نحو مراكز الأقضية.
بيروت
تعتبر عمليات نقل الناخبين ضمن نطاق دائرتي بيروت الأولى والثانية، على أهميتها، أقلّ تكلفة من مثيلاتها بين العاصمة والأطراف في البقاع أو الشمال ومن ضمنه بشري وزغرتا وجرود البترون وعكار أو الجنوب وبعض مناطق جبل لبنان.
وعليه، سيّرت ماكينات لوائح السلطة مئات السيارات الخاصة والحافلات من مختلف الأحجام من الفان إلى البوسطة والبولمان لنقل الناخبين وحتى الدراجات النارية بأسعار متفاوتة حسب نوع وسيلة النقل وحجمها. ولم تكتف الأحزاب بحجز وسائل النقل المرخّصة بل تمّ الإتفاق مع أصحاب سيارات سياحية لقاء مائة دولار لليوم الانتخابي لتغطية رشى انتخابية تحت عنوان استخدام سيارة. وأفاد صاحب شركة تأجير سيارات “المفكرة” أنّ الاتصالات من أحزاب السلطة كافة لم تتوقف قبل الانتخابات وفي يوم الاقتراع “بدنا 100 سيارة”. ويراوح بدل استئجار سيارة الجيب بين 70 إلى 150 دولاراً في اليوم “بس أنا مش رفضت أجّرهم سبق وتعاملنا معهم، بعد الانتخابات بيطلّعوا لنا روحنا ليدفعوا إذا دفعوا”. ويشير صاحب الشركة نفسها إلى أنّه فضّل تأجير سياراته لزبائنه “الأحزاب بتبهدل السيارة وبتمشيها طول يوم الانتخابات ويمكن ما تدفع”.
نموذج القدرات المالية
وزّعت الأحزاب، كلّ على حدة، دعوات لرؤساء أقلام وكتّاب وموظفين مقيمين داخل بيروت وضواحيها للانضمام إلى مجموعات “واتسآب” لتأمين وسائل نقل تقلّهم من منازلهم في العاصمة وضواحيها إلى مراكز الاقتراع في دوائر بيروت الانتخابية، أو منها إلى الأقلام في المدن والقرى في الدوائر الانتخابية كافة. وكذلك حددت أرقام هواتف لمعنيين بالعملية الانتخابية للاتصال بهم من قبل راغبين في الاقتراع سواء بسياراتهم أو بوسائل نقل أخرى.
الأسلوب عينه انسحب على تأمين سيارات سياحية شخصية فتمّ دفع 100 إلى 150 دولاراً، و250 دولاراً في اليوم لأصحاب الحافلات الصغيرة (فانات) ضمن العاصمة. وتضاعف الرقم عندما كان سائق الفان أو السيارة المستأجرة يقترع في الدائرة التي يؤمّن نقل الناخبين فيها.
الشمال وجبل لبنان
اختلفت أكلاف نقل الناخبين ضمن النطاق الجغرافي للدوائر الثلاثة في محافظة الشمال عن تلك المعتمدة في بيروت. فتكلفة الانتقال بين قرى حدودية أو جردية ومراكز الاقتراع في فنيدق أو القبيات مثلاً ليست أقل من تكلفة من الانتقال لمسافة تزيد عن 100 كيلومتر بين بشري وبيروت، أو ضعف هذه المسافة تقريباً بين فنيدق وبيروت.
يوضح أحد سائقي “الفانات” على خط طرابلس – بيروت أنّه “تعاقد” مع ماكينة لائحة مدعومة من شخصية شمالية فاعلة بمبلغ ثلاثمائة دولار على كلّ نقلة لقاء نقل ناخبين من بيروت إلى الميناء. ولفت إلى أنّ إيجار النقل معقول قياساً إلى سعر صفيحة البنزين الذي قفز فوق 500 ألف ليرة. فـ “أنا”، يتابع، انتقلت من الشمال إلى بيروت للإتيان بالناخبين، أربع مرات ذهاباً وإياباً، مع ما يمكن أن تكبدّه ذلك من عناء نهار كامل، عدا عن تعرّض سيارتي لبعض الأعطال وطبعاً الاستهلاك”. ويغمز من ناحية المتعاقد معهم: “خلّيهن يدفعوا”. وفتح أحد أحزاب السلطة، الذي يجهد لتقديم نفسه حزباً معارضاً، سجلّاً لمن رغب في وضع سيارته في خدمة اليوم الانتخابي. ولم يفصح مناصروه عن المبالغ التي دفعت لهؤلاء “قالوا منحاسبكم بعد الانتخابات، وبعد ما حاسبوا” وذلك بذريعة عدم رغبة ناخبيهم القدوم من بيروت إلى بشري وزغرتا والكورة وجرد البترون وساحله بحافلات “حبّوا يريحوهم، وهيك قام كل شخص رغب بتشغيل سيارته يوم الانتخابات بتأجير سيارته لهذا الحزب باكراً وقصد بيروت ليعود منها بدفعة من الناخبين ومن ثم يقترع ويعود للاتيان بدفعة ثانية وهكذا دواليك”.
في دوائر جبل لبنان حُلّت أزمة النقل باكراً، إذ تسابقت أحزاب وقوى السلطة وأحزاب دينية لحجز وسائل نقل من كلّ الأحجام: بولمانات، بوسطات، فانات وسيارات عمومية وخصوصية. حتى الدراجات النارية أُدخلت في حسابات القيّمين على الماكينات الانتخابية. وبلغت حمى التسابق ببعض القوى المهيمنة حدّ حجز 20 “فان” بين تجمّع سكني ومركز اقتراع لا يبعدان عن بعضهما البعض أكثر من خمسمائة متر. وتذرّع هؤلاء بحرصهم على “راحة الناخبين”، وضرورة تأمين جهوزية تامّة على مدار اليوم الانتخابي. معلومات مؤكدة وردت “المفكرة” عن دفع مبالغ تتراوح بين 500 ألف ليرة ومليوني ليرة وذلك بحسب حجم واسطة النقل بين المراكز القريبة لسكن الناخبين. وتضاعفت هذه الأرقام بين عاليه – الشوف وبيروت (42 كيلومتراً). ودخل بازار التسابق على حجز وسائل النقل وتشغيل السيارات الخاصة لغايات انتخابية في دائرة جبل لبنان الرابعة (الشوف عاليه) كلّ من الحزب التقدمي الاشتراكي، الجماعة الإسلامية، تنظيم الأحباش، الوزير السابق والمرشح (الخاسر) وئام وهاب، النائب (السابق) طلال إرسلان، التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وحركة أمل وحزب الله، “كلن يعني كلن”.
الجنوب والبقاع
وفي الدوائر الانتخابية في الجنوب والبقاع، أنجزت الماكينات الانتخابية لأحزاب وتيارات السلطة مهماتها على هذا الصعيد، ووضعت برامج نقل تتناسب وقيود الناخبين في مدن وقرى المحافظات الأربعة. ولعلّ أبرز خطوط النقل التي نشطت هي من العاصمة والضاحية إلى مراكز اقتراع في مدن وبلدات الدوائر الانتخابية الست.
وكشفت المتابعات الميدانية لعمليات التعاقد مع شركات نقل متخصصة، ومع سائقين عموميين عن اتفاقات شفهية تعود لأيام قليلة بعيد إعلان موعد إجراء الإنتخابات النيابية، فضلاً عن امتلاك عشرات الحزبيين من كلّ الأحزاب لمعارض تأجير سيارات، أو شركات نقل متوسطة الحجم (فانات) أو كبيرة (بواسط وبولمانات). ومن الأمثلة الفاقعة على حمى تنفيع المحسوبين وشراء أصواتهم بغطاء يراد منه شرعنة العملية، حجزت أحزاب السلطة في بنت جبيل جميع حافلات النقل المتوسطة والصغيرة. في المقابل، لم تتمكّن لائحة “معاً نحو التغيير” الاتفاق مع أي مكتب نقل، وحتى صاحب “فان” بسبب سطوة أحزاب السلطة ودفعهم مبالغ أكثر من السعر المتداول، ناهيك عن محاربتهم للوائح المعارضة حتى على مستوى استئجار سيارة.
في مواجهة سطوة السلطة والمال وربما الترهيب، لجأت لائحة “معاً نحو التغيير” في النبطية – بنت جبيل إلى الطلب من مؤيديها استخدام أي وسيلة متوفرة للانتقال من بيروت الى مراكز الاقتراع في الدائرة، أو استخدام سياراتهم الخاصة على نفقتهم، فالمهم كان تسجيل موقف والإقتراع ضد نهج سلطة أفقرت شعبها ودمرت مؤسسات الوطن.
في دائرة البقاع الثالثة – بعلبك الهرمل – حيث واحدة من أوسع شرائح المجتمع في لبنان تعتمد في معيشتها من العمل كسائقي “فانات”، سُدّت جميع المنافذ أمام أي مساع لاستئجار سيارة أو فان. فالأحزاب هناك تعاقدت مع كلّ أصحاب الفانات تقريباً نظراً لارتفاع نسبة النازحين من أبناء بعلبك – الهرمل نحو بيروت والضاحية الجنوبية، والتي تلامس 55%. وتراوح إيجار الفان الواحد ذهاباً وإياباً 4 ملايين لكل رحلة.
بولمانات سورية
وليس بعيداً من سيطرة أحزاب السلطة مجتمعة على قطاع النقل لأيام ثلاثة وربما أكثر، برز نفوذ بعضها في الداخل السوري حيث تعاقدت أحزاب السلطة على كافة دوائر البقاع من الغربي وحدوده مع الشام إلى البقاع الشمالي على حدود الهرمل مع القصير وحمص مع شركات نقل سورية لإحضار ناخبين لبنانين مقيميين في سوريا للاقتراع، كلّ بحسب سجلّ قيده بالتنسيق مع السلطات السورية. كما تعاقد مرشحون مع سيارت أجرة صغيرة لناخبين يتعذر انتقالهم في الأوقات المحددة لانطلاق البولمانات من العاصمة السورية أو من محافظة السويداء.
في استحقاقات سابقة كانت جموع الناخبين اللبنانيين المقيمين في سوريا تصل مساء السبت إلى أماكن مجهّزة لإقامتهم ومن ثمّ يتمّ نقلهم بسيارات صغيرة أو فانات إلى مراكز الاقتراع ومن ثم إرجاعهم إلى حيث إقامتهم على أن تتم إعادتهم مساءً إلى سوريا. بدلات نقل الناخبين من سوريا تكلفتها مضاعفة اليوم، فهي إلى جانب دفع إيجار لامس 500 دولار للبولمان الواحد، تكبّدت اللوائح المعنية نفقات إقامة وتوفير وجبة الغداء للناخبين فضلاً عن دفع مبالغ مالية لا تقلّ عن مائة دولار لكل ناخب. وعملية اقتراع الناخبين اللبنانيين الآتين من سوريا لا تقتصر على دائرة انتخابية واحدة، بل أن عملية توزيعهم بعد وصولهم تشمل معظم الدوائر الإنتخابية وهذا يتطلب أسطولا كبيراً من السيارات الخاصة المستأجرة أو الفانات.