فيما يعتكف القضاة اللبنانيون عن العمل منذ أكثر من أسبوع للمرة الثانية عام ٢٠١٧[1]، يعود النقاش حول قانونية ومشروعية هذه الخطوة. فمن المعلوم أن المادة ١٥ من قانون الموظفين العامين تمنع هؤلاء من الإضراب. ولطالما استُعمِلت هذه المادة لثني القضاة عن التوقف عن العمل بحجة مخالفة القانون، بالإضافة إلى حجج أخرى تعتبر أن الإضراب لا يليق بالقضاة. وكما في السبعينيات كذلك اليوم، تبقى هذه المسألة ذات أبعاد سياسية أساسية تتعدى النقاش التقني والمهني المحدود.
فإذا جُرِّدَ القضاة من أبرز وسائل التحرك أي الإضراب، كيف يواجهون السلطة السياسية عندما تسخّر المحاكم لخدمة مصالحها الخاصة أو تتدخل في أعمالها؟ ونعلم أن لهذه السلطة وسائل عديدة للضغط على القضاة، كالتشكيلات القضائية التي ما زالت تتطلب موافقة الزعماء السياسيين ورضاهم، أو تعيين معظم أعضاء مجلس القضاء الأعلى. وإذا لم يتمكن القضاة من التوقف عن العمل لإعادة التوازن لعلاقة القوة مع الطبقة السياسية، فماذا يبقى لهم غير زيارة السياسيين لتسويق مطالبهم، أو تقديم الخدمات أملا بالمحافظة على رضاهم الذي يُتَرجَم في التشكيلات والامتيازات وغيرها؟ وكيف يحمي القضاة حقوق الناس وحرياتهم الخاصة والعامة في ظلّ معادلة من هذا النوع تكرّس ضعفهم الواقعي أمام أصحاب النفوذ؟ فشيطنة إضراب القضاة هو جزء مهم من سياسات إخضاعهم وتهميش سلطتهم الرقابية لمواقع النفوذ السياسي والمالي. وقد رافق هذا النقاش القضاة منذ عشرات السنين إنما في بلاد كثيرة، ومنها فرنسا[2] ولبنان.
وأمس، نشرت المفكرة مقالا استعرض أبرز الأحداث والنقاشات التي دارت في القضاء اللبناني حول مسألة الإضراب، وبالأخص في ثمانينيات القرن الماضي، أي في قلب زمن الحرب الأهلية التي حضنت أكثر الحراكات القضائية تصادما مع السلطة واستفزازا لها حول مسائل أساسية كضمانات القاضي المعنوية والمادية واستقلاليته[3]. وقد بينا في المقال المذكور الحدث الحاصل بتاريخ 24 نيسان 1982 حين أعلن قضاة لبنان للمرة الأولى في تاريخهم قرارهم بالإضراب حتى تحقيق مطالبهم المادية والمعنوية لتحقيق استقلال القضاء الكامل. وقد اتخذ القرار وقوفا بعدما رفض القضاة الاقتراع السري وبإجماع الحاضرين البالغ عددهم 356 قاضيا، وقد تعالى في إثر ذلك التصفيق وتبادل القضاة التهاني مشيدين بالوحدة والقرار التاريخي المتّخذ[4].
بعد يومين من هذا الحدث (26/4/1982)، وردا على الاعتراضات الكثيرة على استقلال القضاء، نشر القاضي السابق فرنسوا ضاهر (استقال من القضاء في أواخر الثمانينات بعدما انهارت القوة الشرائية لرواتب القضاة بعد انهيار العملة الوطنية) رأيا قانونيا بيّن فيه أحقية القضاة بالتوقف جماعيا عن العمل. ومن أبرز ما تضمنه هذا الرأي: "قرار القضاة بالتوقف الجماعي عن العمل لا يشكل إضرابا … بل موقفا حملت السلطة القضائية على اتخاذه نتيجة وجودها في حالة استحالة من استمرار الاضطلاع بمهامها الدستورية… الخطورة ليست في بدعته بل في الخلفيات والمعطيات التي استوجبته. وإن الجسامة في الخطر هو أن تجد السلطة القضائية نفسها في وضع لا يمكنها النفاذ منه إلا عبر تعطيل دورها وتعليقه لحين، لأنه عملا بالقواعد الدستورية العامة التي تنظم علاقات السلطات الدستورية فيما بينها، يكون التعاون والتعامل والتحاور الشريف قد انقطع بين السلطة القضائية وأي من السلطتين الدستوريتين الباقيتين على الأقل. كما يعني كذلك أنه توجد حالة انعدام وزن بين السلطة القضائية وبقية السلطات الدستورية، وبالتالي خلل فيما بينها، بحيث أصبحت ممارسة السلطة القضائية لمهامها أمرا غير جائز ما لم ترتضِ لنفسها انتقاصا في كرامتها وهيبتها.
أما وأن السلطة القضائية ترتبط قانونا من الناحيتين المالية والإدارية فقط بالسلطتين الباقيتين، فلا تتمتع بالاستقلال الكامل، لا يعقل والحالة هذه، أن تستغل بقية السلطات هذه الرابطة لتحكم قبضتها على السلطة القضائية وتتحكم بواسطتها باستقلالها المبدئي. وإذ حصل مثل هذا الاستغلال أو هذا الافتئات أو هذا التجاوز اختلّ مبدأ فصل السلطات وتعذر بالتالي على السلطة القضائية أن تتابع القيام بمهامها، فتوقفت قسرا ولزوما عن ممارسة تلك المهام".
وتنشر المفكرة هنا هذا الرأي من ضمن جهودها لإعادة تكوين الذاكرة المفقودة أو على الأقل المحجوبة عن نضالات القضاة في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، وانطلاقا من قناعتها بأهمية تطوير القضاة لأدوات تحركهم الجماعي لتحقيق استقلالية القضاء في لبنان.
[1] بعد اعتكافهم الأول في آذار الماضي. [2] أنظر مثلا في حالة نقابة القضاة الفرنسيين عندما أضربوا عام ١٩٧٦:Liora Israël, 2009, “Un droit de gauche ? Rénovation des pratiques professionnelles et nouvelles formes de militantisme des juristes engagés dans les années 1970”, Sociétés contemporaines, num. 73, p. 60. [3] للاطلاع على دراسة مفصلة حول هذا الموضوع، أنظر: نزار صاغية وسامر غمرون، ٢٠٠٩، "التحركات القضائية في لبنان"، في نزار صاغية (إش.)، حين تجمع القضاة، بيروت: دار صادر. وقد استعملت عدة مقاطع من هذا البحث في المقال الحالي. [4] كما ورد حرفياً في صحيفة النهار، ٢٥/٤/١٩٨٢.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.