في نوفمبر 2023، تقدّمت إدارة السّجون بشكاية ضدّ المحامية والإعلامية سنية الدهماني بسبب تعليقها على وضعيّة الموقوفين في قضيّة التآمر على أمن الدّولة بسجن المرناقية. لم تكن سنية تُدرك في ذلك الوقت نصّ الإحالة ولا التهمة المُوجَّهة إليها تحديدًا، ولكنّها استنتجت أنّها قد تكون إحالةً على معنى المرسوم 54 الّذي وصفته بسيّئ الذّكر. وقالت تعليقًا على هذه الشكاية في إحدى القنوات الخاصة: “سيقع استعمال المرسوم 54 سيئ الذكر لإسكات كلّ صوت حرّ، لضرب حرية التعبير، لضرب حرية الإعلام”، مضيفةً أنّ هذا النصّ “يُكرّس الدكتاتورية”. لم تنتظر سنية كثيرًا حتّى تُثار ضدّها عدّة قضايا على معنى هذا المرسوم، وتُودَع السّجنَ ليلة السبت 11 ماي 2024 على معنى الفصل 24 منه بسبب تصريح “شُوفْ هَاك البْلاَد الهَايْلة”.[1]
في رصيد سنية الدهماني خمسُ قضايا، جميعُها على معنى الفصل 24 من المرسوم 54. صدر بشأنها مُؤخّرًا، في 11 سبتمبر 2024، حكمٌ بالسجن لمدّة ثمانية أشهر على خلفيّة تصريحها “البلاد الهايلة”، عن الدائرة الجناحية بمحكمة الاستئناف بتونس. شابَت هذه الجلسة خروقات إجرائية وفق ما ذكره أعضاء هيئة الدّفاع عن المحامية والإعلامية سنية الدّهماني في ندوة صحفيّة عُقدت يوم 12 سبتمبر 2024، إذ يقول بسام الطريفي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إنّ النظام السياسي الحالي لا يُقدّر حتى مبدأ المحاكمة العادلة، مُضيفًا أنّ: “المحكمة تستهزئ بالإجراءات وبالمحاكمة العادلة ولا تحترم مبدأ المواجهة، والمرسوم 54 سيف مسلّط على رقاب المواطنين وهو وسيلة لإخماد كلّ صوت معارض”، مُشيرًا إلى توظيف القضاء لضرب الخصوم السياسيّين وكلّ صوت حرّ.
خروقات ونكران للعدالة
يذكر المحامي أنور الباصي أنّ طريقة إيقاف سنية الدهماني لم تَحترم الإجراءات الخاصة بالاحتفاظ بالمحامين الواردة بمرسوم تنظيم مهنة المحاماة لسنة 2011 ولم تُراعِ خصوصيتها. فقد اعتُقلت من “مُلثّمين” عندما كانت في الحمام (بيت الراحة). ويضيف: “يوم 06 أوت تمّ تعيين جلسة سريّة دون علم المحامين، ومديرة السّجن أذنت بإحضار سنية إلى قاعة المحكمة في تمام الساعة الواحدة ظُهرًا يوم 20 أوت، وقامت بكلّ ما في وسعها لعدم تنفيذ القرارات القضائية. سنية فُتّشت تفتيشًا مُهينًا وعُذّبَت ومُنعت من الحضور واحتُجزت قَسْرًا”. وأكّد أعضاء هيئة الدّفاع إيداع شكايَتَيْن في التّعذيب في حقّ سنية الدّهماني لدى وكالة الجمهورية وسِجن النّساء بمنوبة.
أمّا بخصوص جلسة يوم 10 سبتمبر التي كان من المُنتَظَر أن تتأجّل أو يترافع فيها المحامون عن سنية في قضيّة “هايلة البلاد” الّتي حُوكمت فيها ابتدائيًّا بسنة سجنًا. فقد شابتها خروقات تصل إلى حدّ “نكران العدالة” وفق ما ذكره أنور الباصي. إذ قام المُحامون بإيداع مطلب تجريح في رئيسة الدائرة التي أبدتْ موقفًا مُعادِيًا لحريّة التعبير عبر تدويناتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ما يَجعَل حيادَها في قضيّة سنية المتعلٌّقة أساسًا بحرية التعبير، محلَّ تشكيك. وعند رفع الجلسة للتفاوض والتداول بشأن مطلب التجريح، صَدرَ الحُكم القاضي بإدانة سنية الدهماني والحُكم عليها بالسّجن لمدّة ثمانية أشهر، وهو حُكم عَلِم به المحامون من صفحات التواصل الاجتماعي.
ظروف الإقامة بالسجن وتنكيل يوم 20 أوت
بخصوص ظروف الاعتقال، يقول سامي بن غازي محامي سنية الدهماني في تصريح للمفكرة إنّها إجمالًا “سيّئة”، سواءً تعلّق الأمر بسجن الرجال أو سجن النساء، لكنّ مسائل الاستحمام والعلاج وإدخال الأدوية والملابس تطرح إشكالًا. “التفتيش الجَسدِي مُقلِق خاصّة على مستوى الأماكن الحساسة من الجسد، بالإضافة إلى التدقيق في الكُتب التي يتمّ إحضارها للسجينات، وهي عمليّة قد تستغرق أسابيع للتثبت في محتوى الكتب ونوعيّتها، بالإضافة إلى إجباريّة لباس السفساري ومنع ارتداء الحذاء وهي عمليّة تعطّل عمليّة التقاضي لاحقًا”، يضيف سامي بن غازي للمفكّرة.
مع دُخول فصل الصّيف، اشتكَت رملة الدهماني، شقيقَة سنية، من ظروف الإقامة بالسّجن. تقول للمفكرة القانونية: “هناك انتهاكات موجّهة ضدّ سنية بالتحديد. لم يَعد بإمكاننا أن نَمُدَّها بملابس، ولا يحقّ لها أن تلبس سترة بلا أكمام أو قميصًا مُقعَّرًا (sans col)، وليس لها الحقّ في الاستحمام سوى مرّة واحدة في الأسبوع، وهي لا تتحكّم لا في التوقيت ولا في درجة حرارة المياه في حمّامات السجن. فأصبحت تغتسل بخرطوم دورة المياه. في ظلّ تلك الحرارة ومع وجود مياه شديدة البرودة، أصبحت سنية تعاني التهابًا في القصبات الهوائيّة”.
تُعاني سنية الدهماني بطبعها تقلّصًا في حجم الغُدّة الدّرقية، ما يستوجب مراجعةً متواصلةً في جرعات الدّواء. تقول شقيقتها رملة إنّ طبيبتها تفاجأت من تذبذب نتائج التحاليل ووصفت لها جُرعة جديدة في الدواء. “أخذنا الوصفة الطبيّة إلى إدارة السجن منذ 29 جويلية، وإلى حدود تاريخ 15 أوت لم تردّ على طلبنا ولم تتغيّر الجرعة. لماذا وصلنا إلى هذا الحدّ؟ هذا بالإضافة إلى التفتيش الدقيق المُهين… هي معكم وبين أيديكم، ماذا يمكن لها أن تفعل؟ لماذا تُنزَع عنها ثيابُها وترفض الإدارة وضع ستارة حاجبة في زنزانتها؟ لماذا تُجبَر سنية على ارتداء سفساري، هو أجدر بأن يكون خرقة بالية وقذرة؟ لم يعد هناك أيّ قدر من الاحترام”، تحتجّ رملة شقيقة سنية الدهماني.
تحدّثت رملة كذلك عن آثار التفتيش التي لحقَت بسنية في جلسة يوم 20 أوت، التي استوجبت تقديم شكاية ضدّ مديرة السّجن. “ظلّت سنية تعاني اضطرابات في النّوم طيلة عشرة أيّام بمفعول الصّدمة التي انعكست على جسمها. للأمانة غرفتها تُعدّ مقبولة حسب معايير السجن، فهي تَعُدّ ستّ سجينات على عكس الغرف الأخرى التي تُدسُّ فيها قرابة العشرين سجينة. لكنّ الأوساخ المتراكمة جعلت سنية تعاني نوبة عصبيّة. تروي لي شقيقتي أنّ الغرفة تعجّ بالحشرات والوزَغ، وقالت لي إنّها أصبحت ماهرة في صيد الوزغ وقتله”. وتضيف رملة: “لماذا تُضاف هذه العذابات إلى عذاب السجن وسلب الحرّية؟ أن يُسجَن إنسان لمجرّد التعبير عن موقف هو مأساة. اقتُرٍح على سنية أن تذهب إلى المستشفى مع بقية السجينات في عربة سيّارة بلا نوافذ وهنّ يضعن السفساري وأيديهنّ مُصفَّدة إلا أنّ سنية رفضت ذلك، رغم أنّها مريضة. نخشى أن تتواصل الانتهاكات وأن يتكرّر سيناريو يوم 20 أوت”.
سنية الدهماني تحت أضواء سامي الفهري
اختارت سنية الدهماني التوجّه إلى قطاع الإعلام رغم تخصّصها الحقوقي واشتغالها لفترة في قطاع المحاماة. بدأت سنية في الظهور الإعلامي سنة 2008 مع برنامج “الحق معاك” الّذي كانت تبثّه قناة “تونس 7” قبل أن تصبح “القناة الوطنيّة” بعد 2011. وهو برنامج اجتماعي يسلّط الضوء على المظالم التي يتعرَّض إليها المواطنون ويطرح عليهم حلولًا قانونيّة. كانت شركة كاكتوس برود Cactus Prod التي يمتلكها كلّ من بلحسن الطرابلسي صهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وسامي الفهري هي الجهة المنتجة لهذا البرنامج. بعد الثورة، تمكّن بلحسن الطرابلسي من الفِرار من البلاد، ليظلَّ سامي الفهري يواجِه قضايا تتعلّق بشبهات فساد واستغلال نفوذ، نظرًا لعلاقه الشراكة التي ربطته بصهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. في ذلك الوقت، كانت سنية الدهماني محامية سامي الفهري، ما جعل صورتها ترتبط به وبالقناة التي أسّسها بعد الثورة والتي كانت تحمل اسم “التونسية”. ثمّ تكوّنت قناة الحوار التونسي في 2014 بعد إشكاليات إدارية وماليّة مُعقَّدة، وكانت سنية الدهماني مُتعهّدة بتكوين ملفّ هذه القناة، وبالإشراف على الجوانب القانونيّة والعقود والنظام الأساسي وذبذبات البث وغير ذلك، وهي لا تُخفي انحيازها إلى سامي الفهري وإلى قناة الحوار، مدفوعةً بشعور “الانتماء” إلى المؤسسة التي تقول عنها إنّها “وُلدت في أحضانها”.
ظلّت سنية الدهماني في قناة الحوار التونسي لمدّة تناهز العشر سنوات، كمعدّة برامج ومُعلّقة تلفزيّة قارّة في عدد من البرامج السياسيّة والاجتماعية مثل تونس اليوم والحق معاك وبرنامج “لتسقط الأقنعة” bas les masques، وكمقدّمة برنامج عِوَضًا عن سامي الفهري في “حكايات تونسيّة”، ثمّ غادرت قناة الحوار لتخوض تجارب مختلفة في قنوات تلفزية خاصّة أخرى مثل حنّبعل والتاسعة وقرطاج +، بالإضافة إلى حضورها في عدد من الإذاعات مثل “الديوان” و “إي أف أم”. لم يكن حضورها بارزًا في ظلّ تعدّد البرامج وتنوّع المُعلّقين فيها، ولعلّها كانت من أقلّهم إثارةً للجدل إذا ما قورِنت بأخريات وآخرين، ولكنّها حافظت على مواقف معتدلة نسبيًّا وسط زحام نسب المشاهدة والسجالات السياسيّة.
سنية و والتغيّر النقدي لنظام 25 جويلية
عندما فاز قيس سعيّد في انتخابات 23 أكتوبر 2019، قالت في إحدى الإذاعات الخاصّة إنّ هذه الانتخابات تَعكس عدم ثقة الناخبين في السياسيّين من داخل المنظومة. وعلّقت على قيس سعيّد بالقول: “لم نسمع له لا موقفا ولا تصريحا”، مُشيرةً إلى اكتفائه بتفسير بعض الجوانب القانونية في مرحلة التأسيس وكتابة دستور 2014، من دون تقديم رؤية إصلاحية سياسيّة أو مجتمعيّة. انتقادها للطبقة السياسية جعلها تبتهج بـ25 جويلية 2021، حيث كتبت على حسابها الشخصي على انستغرام: “بعيدًا عن تأويل القانون ودستورية القرارات من عدمها، كان لزْمًا أن يفعل أحدٌ أيّ “غَلْبَة” تْخَرِّجْنا من الغْلَبْ اللي بارِكْ علينا” (كان لزاما على أحد أن يبتدع شيئا يخرجنا من الوضع الجاثم علينا) مُضيفةً أنّ الدستور الّذي لا يحمي شعبه لا نُدافِع عنه لـ”إنقاذ الخَوَنة” على حد تعبيرها. فيما قالت في تصريح آخر في إحدى القنوات الخاصّة يعود إلى فيفري 2022 إنّ الفرح الّذي أبداه الشعب يوم 25 جويلية يُعبّر عن اللحظة في حدّ ذاتها، وليس احتفاءً بقيس سعيّد شخصيًّا، مُحذِّرةً من خطورة هيمنة صورة حكم الفرد على المشهد السياسي والإعلامي. لكنّ احتفاءَها بإجراءات 25 جويلية بدأ يتلاشى تدريجيًّا مع تردّي الأوضاع الحقوقية والاقتصادية والسياسيّة، حيث وجّهت نقدًا لاذعًا لرئيسة الوزراء السابقة نجلاء بودن في تصريح يوم 22 فيفري 2022، قالت فيه إنّها “عار على المرأة التونسية” ونعتتها “بالمزهريّة” التي جُعلت فقط للزينة، لمجرّد أنّها أوّل امرأة تُعيَّن رئيسة “حكومة” في العالم العربي، لكنّها لا تمتلك صلاحيات رئيس الحكومة وتكتفي فقط بالتبسّم في وجه الرّئيس وتأييد كلّ ما يقوله. فيما علّقت في تصريح آخر يعود إلى جانفي 2022 بأنّ الفترة الحاليّة تحت حكم قيس سعيّد ليست أفضل من فترة حكم بورقيبة التي قال عنها الرئيس إنّها فترة “حالكة” وقالت: “أتمنى ألا تكون الفترة القادمة أَحْلَك مئات المرات من فترة حكم بورقيبة”.
شرعت السّلطة في قضم هامش الحريّات تدريجيًّا، وفي هدم ما تبقّى من مؤسسات مثل المجلس الأعلى للقضاء في جانفي 2022. علّقت سنية الدهماني في مارس 2022 على تدخّل الرئيس في القضاء بالقول إنّ الرئيس هو الّذي يُصدر أحكامًا في أكثر من مناسبة ويمنح “صكوك الغفران” لمن يريد. وإثر عزْله 57 قاضيًا في جوان 2022، قالت سنية الدهماني إنّ كلّ السُّلط بيد الرئيس بما في ذلك السلطة القضائية، مُضيفةً أنّه لا يكتفي بالصلاحيات الّتي أَوْكَلها لنفسه وإنّما لا ينفكّ يطلب المزيد.
ومع مواصلة المنظومة الحاكمة قمعَ المعارضة بإثارة قضايا التآمر على أمن الدّولة ضدّ عدد من السياسيين ورجال الأعمال في فيفري 2023، عدّلت سنية موقفها لصالح الحقوق والحريّات واحترام الإجراءات، خاصّة وأنّها كانت تُعلّق على البرامج السياسيّة بحضور عدد من أنصار الرئيس. عند إيقاف المناضل عزّ الدين الحزقي في فيفري 2023 عبّرت عن استيائها وغضبها من موقف المعلق الإعلامي رياض جراد المُساند لقيس سعيّد، حين اعتبر أنّ إيقاف الحزقي يُعدّ من باب “تطبيق القانون”، إذ دعته إلى “احترام المقامات” ومراعاة التاريخ النّضالي للرّجل. وكانت السلطة قد منعت التداول الإعلامي في قضيّة التآمر على أمن الدّولة، إلا أنّ سنية اعتبرت أنّ الشفافية تقتضي أن يعرف التونسيّون ماذا وراء هذا الملفّ وما هي تفاصيل القضايا والتُّهم الموجَّهة، وذلك بعض انقضاء فترة الإيقاف التحفّظي في أفريل 2024. وأكّدت في إحدى الإذاعات الخاصة أنّ رئيس الدّولة هو الشخصية الوحيدة التي ظلّت تتحدّث عن الملفّ، وتساءلت: “لماذا يحقّ للرئيس فقط أن يتداول في ملفّ التآمر؟ لماذا لا يسري قرار منع التداول على الرئيس أيضًا؟”
ومع تواتر قضايا حريّة الرأي والتعبير خصوصًا مع إيقاف الشابَّيْن يوسف شلبي وضياء نصيري في ماي 2023 اللَّذَين نشرَا أغنية ساخرة تنقد الممارسات البوليسية، علّقت سنية الدهماني بالقول إنّ هذه الدّولة تكره شبابَها، مؤكّدةً عودة “دولة البوليس” وسطوة المؤسسة الأمنية التي تمثّل “الحزام الّذي يحمي الرئيس”.
مع بداية الحديث عن الانتخابات الرئاسية وبداية طرح أسماء بعض المُرشَّحين المُحتَملين في فيفري 2024، علّقت سنية الدهماني بالقول إنّ الأنظمة الشمولية لا تتحمّل الرأي المخالف والمعارضة، في إشارة إلى ما قاله رئيس الدّولة عن “تزوير العقول”. وذكرت في تصريح آخر أنّ بعض المترشحين الجدّيين قد يُمثّلون خطرًا بالنسبة إلى المسار وأنصاره، مضيفة: “أتعلمون ماذا يريد أنصار الرئيس؟ يريدونه أن يتسابق بلا منافسين وينال هو المرتبة الأولى”.
[1] هذا التعليق الاستنكاري يُستعمل بصيغ مختلفة في العامية التونسية. وقد استعملته الدهماني للتدليل على أن الأوضاع في تونس متردية وليست جاذبة لبقاء المهاجرين فيها.