شكل مطلب تحقيق اللامركزية الإدارية مطلبًا ثابتًا طوال تسعينيات القرن الماضي، حيث أفصح معظم السياسيين والمعنيين بالإصلاح الإداري في لبنان، مراراً وتكراراً، عن رغبتهم في إصلاح نظام الدولة الإداري والسياسي من خلال تحقيق اللامركزية الإدارية وإعطاء السلطات المحلية مزيدًا من الصلاحيات والمسؤوليات في إدارة شؤونها الخاصة وتقديم الخدمات العامة التي تستجيب لحاجات أهالي المناطق وأوّلياتهم.
اليوم، بعد انقضاء أكثر من عقدين على إقرار “وثيقة الوفاق الوطني” المعروفة باتفاق الطائف، ما زال مشروع اللامركزية الإدارية حبراً على ورق بالرغم من وعود الحكومات المتعاقبة في هذا المجال، وكل ما تمّ التقدّم به من طروحات واقتراحات ومشاريع قوانين، بهذا الخصوص. ورغم أن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قد أدرج المشروع المذكور في خطاب القسم، وسعى إلى وضعه موضع التنفيذ بتشكيله في صيف 2012 لجنة خاصة كلفها وضع مشروع قانون للامركزية الإدارية الموسّعة، فقد ظلّ التردّد سيد الموقف لأن مفهوم اللامركزية ما زال محفوفاً بالغموض والالتباس.
وقد أجمعت مشاريع القوانين الخاصة باللامركزية الإدارية على تعزيز السلطة المركزية وأجهزتها الإقليمية على صعيد المحافظات والأقضية، ما يستدعي، أولاً، تحديد مقوّمات اللامركزية، ثم الانتقال إلى إثارة المسائل الأكثر تعقيدًا واختصاصًا، كمسألة إعادة النظر في التقسيمات الإدارية، واللامركزية المالية، والرقابة، والتوظيف والتدريب، وصولاً إلى طرح بعض الإشكاليات العامة التي من شأنها الحؤول دون تحقيق الإصلاح المنشود.
مقوّمات اللامركزية
تقوم اللامركزية على أربعة مبادئ نوردها تباعاً في سياق التعليق عليها:
مبدأ اعتراف السلطة المركزية بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية واكتساب السلطات المحلية شخصية معنوية
يشترط تحقيق اللامركزية الاعتراف النهائي والصريح بوجود حاجات ومتطلبات وأوّليات محلية تختلف عن تلك التي تتولاها السلطة المركزية وأجهزتها، ما يعني الاعتراف بعدم قدرة السلطة المركزية وأجهزتها على التدخل في جميع القضايا الطارئة وتفاصيلها. والجدير بالذكر، في هذا السياق، هو أن تشريع العمل البلدي في لبنان يتضمّن الاعتراف بخصوصية المصالح المحلية وتمايزها عن المصالح المركزية، بل إنه يذهب أكثر من ذلك في اتجاه الاعتراف بمبدأ ثان وهو الاعتراف بالشخصية المعنوية للسلطات المحلية، كما هي الحال في البلديات حاليًا.
مبدأ تمتّع السلطات المحلية بالاستقلال الإداري والمالي
يقضي الاستقلال الإداري أساسيّاً بحق الأهلية، كما يخوّل السلطات المحلية اتخاذ قرارات ذات صفة إدارية وتنموية في مجالات يحددها القانون، على أن تكون هذه القرارات نافذة ضمن نطاقها الجغرافي – الإداري، دونما رجوع إلى السلطة المركزية. أما الاستقلال المالي فإنه يمنح السلطات المحلية القدرة على تطبيق قراراتها الإدارية عمليًا ضمن حدودها الجغرافية – الإدارية، بما يقتضيه ذلك من ذمة مالية وموازنة مستقلة ونظام محاسبة مستقل وأنظمة مالية خاصة بها تمكنها من تحصيل العائدات المالية التي يحددها القانون.
على أن استقلال السلطات المحلية اللامركزية يبقى استقلالاً نسبيًا في جميع الأنظمة اللامركزية، فهي جزء لا يتجزأ من الدولة، ترتبط عضويًا بالسلطة المركزية وتخضع لسلّم القوانين والنظم الوطنية التي تعلوها وتشكل إطارًا حاضنًا لها. وهكذا تحتفظ السلطة المركزية بحق الرقابة على عدد من قرارات السلطات المحلية اللامركزية التي يحددها القانون، ضماناً لانسجام المصلحتين الوطنية والمحلية.
قيام السلطة المحلية اللامركزية على أساس الانتخاب الشعبي
هذا المبدأ هو الأهم في التسلسل المنطقي للمبادئ الآنف ذكرها لما فيه من تكريس لمبدأ الديمقراطية المحلية، حيث يُفترض بالسلطة المحلية اللامركزية أن تكون منتخَبة بالكامل وإلا بطلت شرعيتها التمثيلية، وبالتالي صفتها اللامركزية.
على أن معظم اللبنانيين ما زال يرى في اللامركزية مجرّد عملية إدارية ترمي إلى “التقريب بين الدولة والمواطنين” من خلال تسهيلها تصريف معاملات المواطنين الإدارية على الصعيد المحلي، ما يقضي بتعزيز سلطة المحافظين والقائمقامين، الذين، لما كان يجري تعيينهم في مناصبهم بموجب قرار وزاري، باتوا يمثلون السلطة المركزية، أي الحكومة ووزاراتها وأجهزتها، على الصعيد المحلي. مثل هذا التصوّر لا يمت إلى اللامركزية بصلة بل يندرج ضمن إطار ما يسمى باللاحصرية. ومن ميزات هذه الأخيرة غياب الاستقلالية الإدارية والمالية والخضوع للسلطة التسلسلية ضمن تنظيم السلطة المركزية الإداري. وعليه، يقتضي تقويم المصطلحات والتمييز بين “الدولة” و”السلطة المركزية”، فالدولة ليست رديفاً للسلطة المركزية، على الإطلاق، وإنما تشمل كلتا السلطتين المركزية واللامركزية، على السواء.
ماذا تعني عبارة “اللامركزية الإدارية الموسعة”؟
ما فتئت هذه العبارة الملغزة، منذ ورودها في “وثيقة الوفاق الوطني” عام 1989، تتردد على ألسنة السياسيين وأصحاب الرأي اللبنانيين. وإذا كان ثمة ما يشبه التوافق على مدلول “اللامركزية الإدارية”، فإن نعتها “بـ”الموسّعة” يبقى غامضاً ومفتوحاً أمام كل التأويلات والهواجس والرهانات. والواقع أن عبارة “اللامركزية الإدارية الموسعة” لا تستند إلى أي مفهوم إداري وقانوني علمي بقدر ما تشكل عبارة سياسية بامتياز، يستحيل فهمها وبلورتها إلا ضمن أطر الثقافة السياسية اللبنانية ومفرداتها التي غالبًا ما تشكو من الانحراف.
فتعبير “اللامركزية الإدارية”، في أذهان صانعي القرار في لبنان، هو بالحقيقة نقيض “للامركزية السياسية” والفدرالية والمناطقية وما إلى ذلك من مشاريع وطروحات وشعارات برزت خلال الحرب الأهلية. ولما كان ثمة فريق يرفض هذه الفكرة رفضاً جذرياً وآخر ارتضى التنازل عنها في مؤتمر الطائف عام 1989، فقد انتقل الصراع السياسي والأيديولوجي إلى داخل ما تبقّى من برلمان عام 1972 مفصحاً عن ذاته في نعوت إضافية، ما استدعى ابتكار عبارة “توافقية” تجمع بين الاتجاهين الرئيسيين آنذاك، فكانت عبارة “اللامركزية الإدارية الموسّعة”، التي، وإن كانت تفتقر إلى تعريف قانوني واضح، فإنها تتيح للمشترع اعتبارها تعزيزاً لقدرة السلطات المحلية اللامركزية على إدارة شؤونها والتخفيف من وطأة الرقابتين الإدارية والمالية.
المهمة المستعصية: إعادة النظر في التقسيمات الإدارية القائمة
تصطدم عملية إعادة النظر في التقسيمات الإدارية الحاضنة للدوائر اللامركزية – ما فوق البلدية (supra-municipal) بعقبات عديدة، أهمها:
1- الافتقار إلى الإحصاءات والمعطيات الرقمية الموثوقة للمحافظات والأقضية والبلديات المختلفة وغياب المعايير الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والعمرانية والميدانية التي من شأنها التأسيس لمقاربة منهجية وعقلانية لتحقيق اللامركزية الإدارية الموسعة.
2- عدم قابلية الدوائر الإدارية اللامركزية الصغرى للحياة، من الناحية المالية: لقد أوصى اتفاق الطائف بتحقيق اللامركزية على أساس الوحدات الإدارية الصغرى، المعروفة بـ”القضاء وما دون”، لكن الأقضية اللبنانية تكاد تكون في معظمها غير قابلة للحياة، نظرًا إلى ضآلة حجمها الديمغرافي وشحّ الموارد البشرية فيها، كالبترون وبشري وزغرتا والضنية وراشيا وحاصبيا والهرمل ومرجعيون. وليست الوحدات الإدارية الكبرى بمنأى عن مثل هذا القصور، شأن ما هي عليه الحال في محافظات عكار والنبطية، وربما البقاع ولبنان الجنوبي ولبنان الشمالي، بصورة إجمالية.
3- اصطدام الدوائر الإدارية اللامركزية الكبرى بعوائق سياسية – طائفية: على أن أبرز ما يطالعنا في فرضية تبنّي الدوائر الإدارية الكبرى دوائرَ لامركزية، هو المعضلة السياسية التي ترتسم على خلفية سياسية – طائفية: فهل تقبل قيادات الشيعة والسنّة تشارك الحكم اللامركزي في الجنوب؟ أم يقبل قيادات المسيحيين تشارك الحكم اللامركزي مع نظرائهم من السنة في الشمال؟ هل ترضى القيادات المسيحية والدرزية بعضهم ببعض في الجبل؟ مع الإشارة إلى أن نسبة احتمال نشوء صراعات مشابهة على صعيد الدوائر اللامركزية الصغرى، في حال إنشائها، هي، أيضاً، شديدة الارتفاع، بغضّ النظر عن تشعباتها الطائفية (موارنة وروم أرثوذكس وكاثوليك) والحزبية. عدا صعوبة ذلك، فإن من شأنه عملياً أن يعيد إنتاجالصراعات والمماحكات الحاصلة في مجلسي النواب والوزراء على الصعيد المحلي اللامركزي.وليس يجدي، بالطبع، إعادة تسمية الأقضية محافظات، أو العكس.
4- صعوبة اتفاق السياسيين على دوائر لامركزية وسطى: من البديهي ألاّ تحظى الدوائر اللامركزية ذات اللون الطائفي الواحد بمباركةصانعي القرار اللبنانيين (ربما باستثناء المناطق ذات اللون الطائفي الواحد منذ ما قبل ولادة دولة لبنان الكبير). وإذا كان يرجّح أن تكون الدوائر اللامركزية المستقبلية مختلطة طائفيًا، إن وجدت، فيرجح ألا تشتمل علىتنوع طائفي كبيرللأسباب التي سلف ذكره. بيد أن السؤال يبقى مطروحًا حول إمكان تعديل الحدود الإدارية القائمة ورسم دوائر لامركزية جديدة بناءً على معايير عقلانية وبراغماتية، بعد ما شهدناه من تفصيل للأقضية والمحافظات على قياس بعض الزعماء الذين يصعب عليهم أن يتسلل زعماء آخرون إلى “محميّاتهم” ومناطق نفوذهم.
يستفاد مما تقدم أن عملية إعادة النظر في التقسيمات الإدارية بوصفها حاضنة للدوائر اللامركزية – ما فوق البلدية هي عملية تقترن بشرطين أساسيين يصعب تحقّقهما في المدى المنظور، ألا وهما: أولاً، توافر معطيات رقمية موثوقة ومفصلة ودقيقة للمناطق اللبنانية من شأنها أن تثمر تصورًا منهجيًا وعقلانيًا للواقع اللبناني في إطار “لامركزية إدارية موسعة” ما. ثانيًا، استعداد صانعي القرار للقبول بدوائر لامركزية قابلة للحياة، مالياً وبشريًا وسياسيًا، مع أخذ الصعوبات الطائفية في الاعتبار على نحو واقعي وبراغماتي. من هنا ضرورة تجاوز حرفية اتفاق الطائف والخروج من القوالب الجامدة.
أي لامركزية مالية نريد؟
قد تخيف عبارة “اللامركزية المالية” بعض اللبنانيين، لما تثيرهمن هواجس “التقسيم”. غير أن اللامركزية المالية معمول بها في لبنان، على صعيد البلديات واتحادات البلديات، بموجب قانون البلديات (المواد 86-90 و133) وقانون الرسوم والعلاوات البلدية (رقم 60/1988) والمرسوم رقم 1917/1979 الذي حدد أصول توزيع أموال الصندوق البلدي المستقلوقواعدها. وتتمثّل اللامركزية المالية في الإقرار بحق السلطات المحلية اللامركزية في تأمين موارد ذاتية من مصادر يحددها القانون، أبرزها: الضرائب و/أو الرسوم التي تستوفيها السلطات المحلية اللامركزية مباشرة من المكلفين؛ الضرائب و/أو الرسوم التي تستوفيها السلطات المركزية لحساب السلطات المحلية اللامركزية وتوزعها عليها، كلٌ على حدة؛ الضرائب و/أو الرسوم التي تستوفيها السلطات المركزية لحساب السلطات المحلية اللامركزية مجتمعة، وتعيد توزيعها على كلّ منها منفردة، وفقاً لمعايير يحدّدها القانون؛ الموارد المالية الأخرى كالهبات والغرامات والقروض والمساعدات وحاصلات أملاكها الخاصة.
إن المضي في تحقيق “اللامركزية الإدارية الموسعة” قُدُماً يستدعي تحصين استقلالية السلطات اللامركزية المالي وتعزيز هذه الاستقلالية. من هنا أهمية منح السلطات المحلية اللامركزية صلاحيات مالية تمكنها من إدارة شؤونها بقدرتها الذاتية في الدرجة الأولى، من دون الاتكال على تحويلات السلطة المركزية (الناتجة من الضرائب و/أو الرسوم التي تحصلها السلطة المركزية لحساب السلطات اللامركزية). كما أنه يُفترض بكل قانون لامركزي جديد أن يلحظ قدرة السلطات المحلية اللامركزية على التالي:
1- إجراء مسح شامل وكامل، يجري تحديثه دورياً، لجميع الوحدات الخاضعة للضرائب و/أو الرسوم المحلية.
2- وضع لائحة كاملة وممكننة بأسماء المكلفين المحليين، يجري تحديثها دوريّاً.
3- تبليغ المكلفين، من خلال وسائل التواصل الحديثة، عن الممتلكات والخدمات الخاضعة للضرائب و/أو الرسوم المحلية.
4- تأمين الموارد البشرية والوسائل الضرورية لتحصيل الضرائب و/أو الرسوم المستحقة لها، وإلزام المكلفين بدفع الضرائب و/أو الرسوم المستحقة عليهم.
5- إنشاء أمانة صندوق ووحدة محاسبة مستقلتين وممكننتين تدقق كلٌّ منهما في أعمال الأخرى.
الفقرة السادسة: الرقابة الصالحة والرقابة غير الصالحة
تقرّ اللامركزية باستقلالية السلطات المحلية المنتخبة في مقابل خضوعها للرقابة حفاظًا على ارتباطها بالسلطة المركزية وتكاملها معها. وبالتالي، فإن أي قانون لإصلاح اللامركزية يقضي بتحديد طبيعة العلاقة بين السلطات المحلية اللامركزية والسلطات الرقابية، وإرسائها على أسس سليمة تتيح لها احترام استقلالية الأولى وفاعلية عملها ضمن إطار السلطة المركزية ومصلحتها.
ولا يسعنا، تفاديًا لتكرار الخطأ وإعادة إنتاجه في نظام “اللامركزية الإدارية الموسّعة” المنشود، إلا أن نلفت المشترع اللبناني إلى سوء ممارسة الرقابة على البلديات في إطار قانون البلديات المرعي إجراؤه منذ عام 1977، والذي يعكس العلاقة غير السليمة القائمة بين المركز واللامركز، من خلال الآتي:
1- هيمنة الحكومة والوزارات على البلديات وشلّ عملها تكراراً من خلال إقرار مراسيم وتعاميم وقرارات إدارية تتعارض مع القوانين التي ترعى عملها.
2- استنسابية بعض السلطات الرقابية (لا سيما السلطات اللاحصرية والوزارة المختصة) في ممارسة الرقابة ومحاولتها مصادرة قرار البلديات.
هذان الانحرافان يستدعيان تكريس مبدأ جوهري في اللامركزية الصحيحة، ألا وهو إصلاح النظام الرقابي بإنشاء جهاز (أو أجهزة) رقابي(ة) إضافي(ة) وزيادة عدد الموظفين العاملين في الأجهزة القائمة، تمهيداً لسحب الصلاحيات الرقابية من السلطات المركزية (مجلس الوزراء والوزارات) واللاحصرية (المحافظين والقائمقامين) وحصرها بأجهزة متخصصة بالرقابة كديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، على أن تكون مهمة أي رقابة النظر في قانونية القرارات المتخذة، وليس في مدى ملاءمتها أو صوابيتها. غير أنه من الجائز ربط بعض القرارات اللامركزية المحددة، ذات التداعيات السياسية المحتملة، بموافقة الوزارة المختصة، كقرار الاستملاك وسلخ الملكية الخاصة، شريطة أن يكون رفضها معللاً وموافقاً كل الموافقة للشروط التي يحددها القانون. في كل الأحوال، يوصى بإبعاد مجلس الوزراء عن أي دور رقابي وتخفيض صلاحيات السلطات المركزية الرقابية إلى أقل قدر ممكن من القرارات التي تُعتبر “جوهرية”.
أخيراً، يقتضي ربط أجهزة الرقابة بالسلطة التشريعية (مجلس النواب) بدلاً من السلطة الإجرائية (رئاسة مجلس الوزراء) على أساس أن مهمة البرلمان هي مراقبة عمل المؤسسات الرسمية والعامة (بما فيها البلديات) ومحاسبتها. كما يوصى بالمبادرة إلى اعتماد الرقابة الإلكترونية حسماً للجدل العقيم حول “الرقابة المسبقة” و”الرقابة اللاحقة”.
في التوظيف والتدريب
تتمحور إشكالية التوظيف في الإدارات المحلية اللامركزية حول إيجاد العناصر البشرية الكافية والكفوءة. ومن الضروري إيجاد تشريع متطور بهذا الشأن تداركاً لما يمكن أن يصيب البلديات من ضعف بنيوي. ذلك يفترض، بالطبع، توافر شرطين أساسيين هما:
1- قابلية الدوائر الإدارية اللامركزية للحياة على الصعيد الاقتصادي من أجل تأمين قدرة الإدارات المحلية اللامركزية على دفع رواتب موظفيها.
2- وفرة الموارد البشرية لملء المناصب الملائمة.
هنا يبرز تحدّ آخر يتمثّل في تدنّي رواتب الوظيفة المحلية وإعراض أصحاب الكفاءات والخبرات عنها. وإذا بدا أن الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في منح السلطات المحلية اللامركزية الحق في وضع ملاكها وتحديد سلسلة رتبها ورواتبها، فإن السؤال لا يلبث أن يُطرح حول مدى استقلالية السلطات المحلية اللامركزية في هذا المجال، وقدرتها على تنظيم مباريات وامتحانات نزيهة وشفافة.
لذا، نقترح أن يكون قرار التوظيف المحلي خاضعاً بدوره لرقابة سلطة معينة، تفاديًا لارتكاب التجاوزات والاستنسابية، على أن يجري تحديد هوية هذه السلطة.
وقد يكون من المستحسن، إنشاء معهد وطني مستقل أو تابع لإحدى الوزارات، يختص بوضع الامتحانات والإشراف على المباريات وتدريب المنتخَبين والموظفين المحليين على القوانين والأصول النظامية التي ترعى العمل المحلي، تلافياً للوقوع في مشكلة غياب التدريب التي تطول المنتخَبين والموظفين البلديين. ومن المتوقع أن يشكل المعهد منتدىً لتبادل المعارف والخبرات بين جميع المعنيين والمتخصصين بالعمل المحلي.
كذلك يقتضي، في سياق الإصلاح، إقرار نماذج حديثة وموحدة للأنظمة الداخلية الخاصة بالإدارات المحلية اللامركزية تفعيلاً لسير العمل الإداري وتكريسًا لمبدأي النزاهة والشفافية. ومن شأن الأنظمة الداخلية أن تفصّل التالي:
1- النظام الإداري الداخلي (أصول تأليف اللجان المحلية، اجتماعات المجلس المنتخب، تنظيم محاضر الجلسات، التنظيم الإداري الداخلي… إلخ.).
2- نظام الموظفين والمتعاقدين والأجراء (شروط التوظيف والتعاقد وأصولهما، واجبات الموظفين والمتعاقدين والأجراء وحقوقهم، انتهاء الخدمة، التعويضات، وصف الوظائف وتحديد المؤهلات العلمية والمهنية… إلخ.).
3- نظام المحاسبة والتدقيق الداخلي (تنظيم الإدارة المالية، أصول المحاسبة، الجباية، الضبط الداخلي، الشفافية المالية… إلخ.).
4- نظام المناقصات (التخطيط للشراء والتحضير له، التلزيم، التعاقد… إلخ.).
أخيرًا، يتعين على قانون اللامركزية الإدارية الموسعة، وبصورة أساسية، أن يفصل شؤون السلطات المحلية اللامركزية عن وزارة الداخلية وإنشاء وزارة مختصة بشؤون اللامركزية والتنمية المحلية، فقد أثبتت التجارب والممارسات أن اختصاص وزارة الداخلية هو المجال الأمني في الدرجة الأولى، ومن الملحّ تحرير عمل السلطات المحلية اللامركزية من الهموم الأمنية.
تلك هي المبادئ الأساسية التي يتعين على أي قانون جديد للامركزية الإدارية الموسعة أن يلحظها كي لا ينتج الإصلاح المنشود نظامًا ناقصًا، على غرار النظام المركزي. ويبقى السؤال: هل شروط الإصلاح متوافرة وهل حكام لبنان قادرون على تحقيقه بمقاربة شاملة وعلى نحو سليم؟
خاتمة
لعل أولى العقبات التي تعترض سير “اللامركزية الإدارية الموسّعة” هي ازدواجية التعبير بالذات وصعوبة التوصل إلى نظرة موحدة بشأنها، في خضمّ التنافراتالسياسية والطائفية التي لا يقرّ لها قرار، حيث يُخشى، في ظل الممارسات السياسية الراهنة، أن يتحوّل النقاش السياسي حول إصلاح اللامركزية الإدارية إلى مفاوضات حول حصص ومصالح يتقاسمها الزعماء في ما بينهم، ما يفسد نوعية الإصلاح وتطبيقاته على الأرض.
ناهيك بالتصوّرات المغلوطة، كأن تُنسب إلى اللامركزية سلسلة إيجابيات لم تثبت صحة أي منها، كقولهم: إن اللامركزية تساهم في الحد من البيروقراطية وفي تسهيل المعاملات الإدارية على المستوى المحلي، علمًا أن مثل هذا التغيير يحققه، كما أسلفنا، إصلاح اللاحصرية من خلال توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين والمختارين، لا صلاحيات السلطات اللامركزية.
عدا ذلك، ليس ما يضمن أن يؤدّي استحداث مجالس لامركزية إضافية إلى الحد من الفساد وترشيد الحكم، نظرًا إلى سوء الذهنية الإدارية المنتشرة في العديد من البلديات اللبنانية وإلى التجاوزات الشائعة في مجالات الشراء والتلزيم والتعاقد، والممارسات المحاسبية، بما تنطوي عليه هذه الممارسات من صفقات سرية. إن استحداث مجالس لامركزية إضافية لا يعني تحقق الشفافية بالضرورة، إذ ما أدرانا أن تكون على غرار المجالس اللامركزية الحالية – أي المجالس البلدية – التي قلما تُعنى بنشر قراراتها ووثائقها وأخبارهاخ وموازناتها المفصلة وبياناتها المالية. كما أنه لا يوجب إطلاق حس المساءلة، الذي يكاد يكون غائباً عن دائرة الحكم الأكثر قربًا إلى المواطنين، أعني الدائرة البلدية. أما الدراسات العلمية حول اللامركزية، فلم تتمكن من إثبات أي علاقة إيجابية بين اللامركزية ومستوى المعيشة.
خلاصة القول، إن مشروع “اللامركزية الإدارية الموسعة” لن يحقّق النجاح المرجوّ ما لم تنشأ في لبنان طبقة سياسية وتشريعية قادرة على استيعاب أهداف الإصلاح المذكور بكامل أبعاده وإشكالياته، وتبدأ الإدارات المحلية اللامركزية القائمة باعتماد المكننة، فاتحةً المجال أمام الرقابة الشعبية والحوكمة الرشيدة. وإلا فأي جدوى من إنشاء مستويات لامركزية إضافية لن تكون أفضل حالاً من المستويات القائمة؟
نشر في العدد الخامس عشر من مجلة المفكرة القانونية