منع القضاة من تولّي مهامّ في الإدارة: اقتراح مجتزأ للتخفيف من التداخل بين القضاء والسياسة


2024-07-30    |   

منع القضاة من تولّي مهامّ في الإدارة: اقتراح مجتزأ للتخفيف من التداخل بين القضاء والسياسة

تقدّم النواب بوليت يعقوبيان وابراهيم منيمنه ونجاة عون وفراس حمدان وياسين ياسين في 5/4/2024 باقتراح قانون يرمي إلى منع نقل وانتداب القضاة إلى ملاكات الإدارات والمؤسسات العامة وسائر أشخاص القانون العام ومنع تكليفهم بمهامّ لديها. وفي التفاصيل، يعالج الاقتراح موضوع انتدابات وتكليفات ونقل القضاة العدليين والإداريين إلى ملاكات الإدارات والمؤسسات العامّة، معتبراً أن أي نقل أو تكليف أو انتداب يشكلّ خروجاً عن مبدأ فصل السلطات ويمسّ استقلالية القضاء كونه يؤدي إلى حالة من التنافس بين القضاة على استرضاء السلطة. هذا فضلا عن أن هذه الممارسات تؤدّي إلى نقصٍ في ملاكات القضاء وابتعاد القضاة عن أصول العمل القضائي، فيستحيل عليهم القيام بالمهام القضائية بكلّ تجرّد وحياديّة. وقد ذكّرت الأسباب الموجبة بأنّ المجلس الدستوري كان قد أبطل مادة مماثلة وردت في قانون موازنة العام 2019، حينما قضى في معرض نظره في الطعن المقدم بالموازنة بإبطال المادة التي تمنع انتداب القضاة إلى ملاكات الإدارات والمؤسسات العامة، لأسباب شكلية كونها تُشكّل فارساً من فرسان الموازنة.   

وكانت المفكرة القانونية توقفت بشكلّ خاصّ عند خطورة نظام التكليف ولا سيما لدى القضاة الإداريين، الذي يختلف تماما عن نظام الانتداب. فبموجب التكليف، يتولّى القاضي المهام التي كُلّف بها في الإدارات العامّة في موازاة استمراره في أداء مهامه القضائية، فيما أن القاضي المنتدب ينقطع تماما عن أداء مهامه القضائية طوال فترة انتدابه. وقد أدانت المفكرة ممارسة “التكليف على التكليف” في المقال المخصص منها لهذه الغاية، وهي البدعة التي أعادتْ الأسباب الموجبة للاقتراح التذكير بها. وكان الاقتراح المقدم من النائب أسامة سعد بشأن استقلالية القضاء الإداري وشفافيته (والذي أعدّته المفكرة) قد حظر تمامًا تكليف القضاة الإداريين على أن يسري الحظر بصورة تامة بعد سنة من إصدار القانون. بالمقابل، فإن اقتراح تنظيم القضاء الإداري الذي قدّمه النائب جورج عدوان في تموز 2021 (وكان أعدّه رئيس مجلس شورى الدولة فادي إلياس) كان سمح بالتكليفات وإن حصر تطبيقها على قضاة مجلس شورى الدولة الذين مضى ستّ سنوات على تعيينهم قضاة أصيلين ووضع بعض الضوابط. وقد أكّدت لجنة البندقية (وهي هيئة أوروبية استشارية) في رأيها الصادر في 19/3/2024 على خطورة تكليف القضاة بمهام في موازاة أعمالهم القضائية.

أما انتداب القضاة (والذي يفهم منه انتدابهم بموجب مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء، فقد تناولتها اقتراحات عدة ما تزال قيد النظر في مجلس النواب. أهمها اقتراح قانون القضاء العدلي كما عدلته لجنة الإدارة والعدل واقتراحي قانون استقلالية القضاء الإداري، وقد أخذت هذه الاقتراحات توجهات متباينة من قانونية الانتدابات. وقد علّقت لجنة البندقية على مبدأ الانتدابات بقولها أنها لا تتعارض بحدّ ذاتها مع مبادئ استقلالية القضاء وقد ترشح عن فوائد هامة للإدارة العامة والقضاء، بشريطة أن يوفر نظام الانتدابات ضمانات لتجنب استخدامه أو التهديد به.

وعليه، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات الآتية:

1-اقتراح خارج سياق ورش الإصلاح القضائي

أوّل ما يُلحظ بشأن هذا الاقتراح، وبغضّ النظر عن أهميّة مضمونه، أنه عالج موضوعا يتعلّق بالقضاة بشكلٍ منفصلّ تماما عن ورش الإصلاح القضائي التشريعية (العدلي والإداري)، وبخاصّة في ظلّ وجود اقتراحات ترمي إلى إصلاح شامل للقضاء الإداري والقضاء العدلي، ومن ضمنها مقاربات متعددة لإشكاليات انتداب وتكليف القضاة. فكما سبق ذكره أعلاه، يمنع الاقتراح انتداب وتكليف ونقل القضاة العدليين والإداريين، ويلغي موادّ من قانونيْ تنظيم القضاء العدلي وتنظيم مجلس شورى الدولة على السواء، دون أن يشير حتى إلى المناقشات التشريعية الجارية في المجلس النيابي في سياق ورش الإصلاح القضائي العدلي والإداري أو إلى الآراء الصادرة عن لجنة البندقية. 

فكأنما الاقتراح جاء بمثابة ومضة مجتزأة وجانبيّة في مجال إصلاح القضاء الإداري كما العدلي، لا تبني على الورش المعقودة ولا تتفاعل معها ولا تأتي حتى على ذكرها في أسبابها الموجبة. وقد كان من الأجدى لو خصّص النواب بشكل عامّ جهودهم على المشاركة في الجهود التشريعية القائمة حاليّا في أروقة المجلس النيابي بدلا من تقديم اقتراحات جديدة تساهم في تشتيت التشريع وتضييع الجهود. فلئن يسعى الاقتراح إلى التخفيف من حدة التداخل بين القضاء والسياسة من خلال منع القضاة من أي مهام في الإدارة، فإن نتيجة ذلك تبقى محدودة طبعا ما لم يتم التصدي لأشكال التداخل الأخرى بدءا بكيفية تعيين أعضاء الهيئات القضائية وصولا إلى كيفية إجراء التشكيلات القضائية بحدّ ذاتها.  

2-الخلط بين النقل والانتداب

في هذا المجال، يُلحظ أن الاقتراح يمزج ما بين نقل وانتداب القاضي، لينتهي إلى وجوب تثبيت القاضي في ملاك الإدارة التي نُقل أو انتدب إليها، فيما أن هذا التثبيت يحصل حكما بموجب النقل من دون أيّ حاجة إلى نصّ إضافيّ وأنه عند حصوله، يكون من غير الممكن إعادة القاضي إلى الملاك القضائي عملا بالقوانين الناظمة للقضاءين العدلي والإداري. 

3-إيجابية منع التكليف عملا بمبدأ الفصل بين السلطات

تضمن الاقتراح إيجابية تتمثل في منع التكليفات بالأخصّ تلك التي نصّت عليها المادة 15 من نظام مجلس شورى الدولة. وهو أمر ضروريّ ويتماشى مع المعايير الدولية لاستقلالية القضاء طالما أن التكليفات ترشح عن مخاطر عديدة أبرزها أنها تمسّ بمبدأيْ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاة وتشكل حالة تضارب مصالح فاقعة. وعدا عن أنها تشرّع الإجراءات التمييزية بين القضاة خلافاً لمبدأ المساواة فيما بينهم، وتعزّز من السلطة الهرمية لرئيس المجلس الذي بإمكانه أن يكلّف من يشاء وأن يحجب التكليف عمّن يشاء. هذا وتؤثر التكليفات على الثقة العامة بمجلس شورى الدولة وتنتقص من ضمانات المحاكمة العادلة ومن فعالية عمل المحاكم وبخاصة في ظل الشغور الحالي في ملاك القضاة. ويذكر أن مجلس شورى الدولة اتّخذ سابقا قرارا أوليا بتجميد التكليفات، قبلما يتراجع عن هذه الخطوة بما يعيد مأسسة تضارب المصالح مجددا. وقد أكّدت لجنة البندقية على هذه المخاطر في رأيها الذي أصدرته بشأن اقتراح استقلالية القضاء الإداري مؤكدة على عدم جواز قيام أي قاضٍ بمهامّ مماثلة بالتزامن مع مهام قضائية. 

4-منع النقل والانتدابات أم إخضاعها لضوابط؟ 

يعتمد الاقتراح بشأن نقل القضاة وانتدابهم التوجه نفسه الذي يتمثل في المنع المطلق، معتبرا أن النقل كما الانتداب يتعارضان حكما مع مبدأ فصل السلطات واستقلالية القضاء، رغم أن القاضي المنقول يكف عن كونه قاضيا وأن القاضي المنتدب بموجب مرسوم يفترض أن ينقطع عن وظيفته القضائية طوال فترة انتدابه وذلك بخلاف القاضي المكلف. وبذلك يكون مقدمو الاقتراح قد اعتمدوا تعريفا واسعا جدا لمبدأ الفصل بين السلطات، بما يذهب أبعد مما تفرضه المعايير الدولية. وهذا ما نستشفّه من رأي لجنة البندقية لجهة أنّ للانتدابات دور هام في صقل شخصية القاضي الإداري وفي تعزيز فعاليته، وأنّها شائعة في العديد من الدول الأوروبية. وقد خلصت اللجنة إلى القول بأن الانتدابات لا تتعارض مع مبادئ استقلالية القضاء شرط أن يوفّر نظام الانتدابات ضمانات لتجنب استخدامه أو التهديد به. بمعنى أنها آثرت وضع ضوابط على نظام الانتدابات على حظرها بالمطلق. 

وفيما قد يجد اعتماد هذا الحظر ما قد يبرّره في وضعيّة الإدارة اللبنانية وتحكّم السلطة السياسية بها، فإنّه يجدر توضيح ذلك في الأسباب الموجبة بصورة أكثر إسهابًا. وبالطبع، يبقى من الجائز التساؤل فيما إذا كان وضع ضوابط على النقل والانتدابات أفضل من الحظر المطلق. فلئن صحّ أن وضع الإدارة ليس بأفضل حال لجهة حياديّتها عن الطبقة السياسية، فالأمر نفسه يصحّ على العديد من المراكز القضائية، وبخاصة المراكز الأعلى هذا فضلا عن أن بناء الدولة لا يقوم فقط بقضاء مستقل، إنما يستوجب أيضا إدارة محايدة. ومن الضوابط الممكن التفكير بها، هو وضع استثناءات على حظر الانتدابات كالعمل في الهيئات الرقابية أو الهيئات الإدارية المستقلة مثل هيئة الشراء العام أو هيئة حقوق الإنسان أو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إلخ… أو أيضا تحديد شروط ومعايير الانتدابات وبخاصة لجهة طبيعة المهام المنتدب من أجل القيام بها أو مدّتها أو بدلاتها وشفافيتها أو وتيرتها أو النسبة القصوى للقضاة المنتدبين من مجموع القضاة. 

5-المفعول الرجعي للاقتراح

ينصّ الاقتراح على تثبيت القضاة “الذين سبق أن انتُدبوا من ملاكات القضاء إلى ملاكات الإدارات أو المؤسسات العامة أو سائر أشخاص القانون العام، ولا يزالون يمارسون وظائفهم فيها، في الملاك الذي  انتدبوا إليه وتعتبر خدماتهم القضائية منتهية بتاريخ نفاذ هذا القانون، ولا يجوز بعد ذلك أن يُعيّنوا في أية وظيفة قضائية.” أيّ أنّه يمنع حكما على جميع القضاة المنتدبين من العودة إلى القضاء. ويشكّل هذا الأمر انتقاصا من حريّة القضاة بحيث يفرض مفعولا رجعيّا عليهم من دون إعطائهم حتى مهلة للاختيار بين العودة إلى القضاء أو البقاء في الملاك الذين انتدبوا إليه، أحيانا من دون رضاهم. من هذه الزاوية، يمسّ الاقتراح بالانتظارات المشروعة للقضاة المنتدبين الذين ربما ما كانوا ليقبلوا انتدابهم لولا إمكانية العودة إلى القضاء. 

قبل النشر، أطلع المرصد البرلماني النائب إبراهيم منيمنة على مضمون ملاحظاتها تمكينا له من تسجيل أي تعليق أو إضافة أو ردّ، إلا أنه اكتفى بنص الاقتراح من دون تعليق. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني