في مشهد يعكس محدودية استيعاب السلطة السياسية لطبيعة المنظومة الريعية في تونس وتجذّرها وتغلغلها، شدّد رئيس الجمهورية قيس سعيّد، خلال لقائه رئيس المعهد العربي للمؤسسات وعدد من أعضائه في 07 ديسمبر 2021، على أهمية التخلّص من الاقتصاد الريعي وعلى الحاجة الماسة لمحاربة كل مظاهر الفساد التي تشكّل أحد العوائق التي تكبّل الإقلاع الاقتصادي في تونس. لكنّ نفس الشخص، كان قد استقبل في 31 جويلية 2021، ممثّلين عن الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية، مشيدا بوطنية وصدق الناشطين في القطاع البنكي والمالي الذي يجمع أغلب الباحثين في مجال الاقتصاد الريعي على أنّه العمود الفقري الصلب لهذه المنظومة. مشهدان متناقضان، يصوّران طبيعة الفهم الخاص لرئيس الجمهورية لأبعاد الأزمة الاقتصادية في تونس ويتماشيان مع مختلف الشعارات التي رفعها سابقا والتي تؤلّف بين كل المتناقضات.
وإن كان يٌحسب لرئيس الجمهورية أنّه كان أوّل ساكن لقصر قرطاج، ينفض الغبار عن هذا الملّف، فأنّه يجب الأخذ بالاعتبار، أنّ قضية المنظومة الريعية تحوّلت خلال السنة الفارطة إلى أحد أهمّ محاور النقاش العام. فبعد أن تحوّلت قضية الحرب على الفساد إلى شعار سياسي ورافعة انتخابية لعدد من الأحزاب، انتقل مجرى النقاش في الأوساط الاقتصادية والسياسية خلال سنة 2021 نحو الاقتصاد الريعي وتصاعد شيئا فشيئا الخطاب الداعي لبدء حرب حقيقية ضد منظومة الاقتصاد الريعي بجميع تمثلاتها القطاعية والمالية. خطاب يقدّم هذه الحرب كإكسير النجاة بالنسبة للاقتصاد التونسي الذي يدخل سنة 2022 وهو يعيش أحد أشدّ الأزمات التي عرفها منذ الاستقلال على مستوى العجز المالي والمديونية التي تلامس سقف 100%.
وكما حاولت المفكرة القانونية من خلال العدد 15 “نكره الفساد الذي يكبر فينا”، العودة على ظاهرة الفساد ودورها في ترسيخ البؤس الاقتصادي، ستسعى هذه المرّة للمساهمة في النقاش العام من خلال عدد متكامل يطرح القضية من زوايا متعددة. فلن نكتفي بمجرّد التبنّي أو مجاراة الخطاب السائد، بل بالعودة لتفكيك المفهوم على مستويات مختلفة (نظرية، تاريخية، سياسية، اقتصادية، قانونية…)، إضافة إلى تشريح المنظومة الريعية في تونس من خلال تناول نماذج قطاعية، وكذلك الآليات التي تتيح استمرار الريع. كما سيحاول هذا العدد التميّز عن التصورات القائمة، أولا من خلال إقامة مسافة جدلية مع المفهوم (لا إنكار مطلق ولا تبنّ مطلق)، وثانيا عبر مساءلة دور الدولة وخيارات الانفتاح الاقتصادي في علاقتها بالريع، وصولا إلى محاولة تشكيل رؤية بدائلية تثري النقاش العامّ.
ولأنّ منظومة الريع في تونس لم تكن نتاجا لدولة ما بعد الاستقلال، كان لزاما العودة إلى الجذور الأولى لتأسيس هذه المنظومة منذ أن تحوّلت مدينة تونس في القرن الثاني عشر إلى مركز ثقل سياسي واقتصادي، بل وكان لا بدّ من إعادة مساءلة التاريخ حول الدور الذي لعبه مؤسسو الدولة التونسية كما عرفناها في توريث هذه المنظومة جيلا بعد جيل وحقبة تلو الأخرى. إذ كان الريع صكّ شراء لمشروعية النظام السياسي في كلّ حقبة من تاريخ البلاد، قبل الاستقلال من الاحتلال الفرنسي وبعده. حيث لعبت المنظومة السياسية دورا محوريا في خلق الريع وحمايته عبر توزيع الامتيازات والرخص وتسخير القانون ليصبح إطارا منظّما للريع وسنده الشرعي.
وإن كانت العودة إلى السطر الأوّل حتمية لفهم مداخل التأسيس، فإنّ هذا العدد حاول تسليط الضوء على مربّعات حركة وسيطرة منظومة الريع على المستوى القطاعي وآليات حركته. فلم يكن ممكنا الحديث عن منظومة الريع دون السعي إلى تشريح ديناميات عملها وعمودها الفقري، وهو القطاع البنكي. فهذا القطاع “الناجي” من مختلف الهزّات الاقتصادية والوبائيّة، يمثّل الأساس الصلب لظاهرة الريع في تونس ومموّل تمدّدها نحو باقي القطاعات. بل وتحوّل إلى حجر الأساس في تكريس التبعية المالية وتفاقم مديونية الدولة.
ولأن الريع في تونس كان وليد الإرادة السياسية، فإنّ استعراض مسؤولية النّظام السياسيّ وأدواته وتشريعاته في خلق هذه المنظومة الاقتصادية ما قبل الرأسمالية كان ضروريا لتحديد المسؤوليات ولفهم عمليّة تكييف المنظومة القانونية والسياسية خلال الحقب المتتالية لحماية مصالح المتنفذّين في الاقتصاد التونسي. من هنا كانت العودة على دور المؤسسة التشريعية خلال العشرية الأخيرة، بل واستعراض أمثلة قطاعية على غرار الصيدلة وشركات الاحياء الفلاحية والمجامع المهنية المشتركة في الصناعات الغذائية واستيراد السيارات والتي تحوّلت إلى قلاع مغلقة تُسيّر وفق إطار تشريعي على المقاس. ومن هنا أيضا، كان لا بدّ من مساءلة أدوات الدولة الرقابية والعقابية على غرار مجلس المنافسة ودور القضاء في التصدي لتجاوزات الريعيّين وخرقهم الصالح العام.
خلال إنجاز هذا العدد، كان لا بدّ من طرح سؤال ملّح: هل يمكن أن تكون دعوات الحرب ضدّ المنظومة الكلاسيكية للريع مجرّد غطاء لمساعٍ بورجوازية ناشئة تبحث عن مكان لها في سوق محكم الإغلاق؟ ألا يمكن أن تكون هذه الحرب قميص عثمان لتحجيم حضور الدولة ودورها في الدورة الاقتصادية؟ أسئلة، طرحناها هي الأخرى وحاولنا استعراض بعض الإجابات لها كي لا يكون العدد أحاديّ الطرح وكي لا ندّعي امتلاك الحقيقة المطلقة في قضيّة تتجاوز البعد المحليّ الضيّق وحجم السوق التونسية المحدود.
لكنّ المقلق في هذه القضيّة، واستنادا على تجارب سابقة، وعلى انطباعات أولّية لآليات المنظومة السياسية لما بعد 25 جويلية 2021 إن صحّ تسميتها هكذا، هو ما تُراكمه هذه البلاد من حروب طواحين الهواء. فالحرب على الفساد أو مقاومة الاحتكار أو التنمية العادلة والتمييز الإيجابي، كانت كلّها قضايا طغت في حقب زمنية مختلفة على النقاش العام واستثمرتها القوى السياسية واجترّتها في خطاباتها وبرامجها من دون أن تتحوّل إلى إجراءات فاعلة أو تحدث تغييرا ملموسا على أرض الواقع. من هذا المنطلق؛ تتكثّف المخاوف من أن تكون خطابات الحرب على الريع مجرّد شعار برّاق غير مستهلك، صالح للمضاربة السياسية واقتلاع بعض المكاسب الضيّقة والفئوية في دولة تترنّح على شفير الإفلاس. وعلى هذا الأساس، تبلور التصوّر العام لهذا العدد، إذ حاولنا أن نجعل من صفحاته فضاء رحبا لمختلف الأطروحات والهواجس والمقترحات، لعلّ تجميع أبعاد الأزمة، والتمعّن في جذورها يكون جسرا للانتقال من حروب الكلام والشعارات والأصوات العالية إلى فضاء المعنى والتغيير الحقيقي.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.