طرحت في المرحلة الأخيرة مسألة منح الحكومة صلاحيات استثنائية، أي أن يقوم مجلس النواب بالتصويت على قانون يجيز فيه لمجلس الوزراء إقرار مراسيم تدخل ضمن الحقل التشريعي. بتعبير آخر، يقوم مجلس النواب بتفويض صلاحياته التشريعية في مواضيع محددة وضمن فترة زمنية محدودة إلى السلطة التنفيذية.
وقد أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري أكثر من مرة رفضه تفويض الحكومة بصلاحيات تشريعية معتبرا أن ذلك يعد مخالفة دستورية إذ لا يحق للسلطة التشريعية تفويض صلاحياتها إلى سلطة أخرى من دون نص دستوري صريح يسمح بهذا الأمر. وموقف رئيس المجلس ليس بجديد كونه رفض الصلاحيات الاستثنائية منذ حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى سنة 1992 وهو شدد على الأمر بعد تجديد انتخابه سنة 2005 قائلا في خطابه أمام المجلس: "أننا في العهود البرلمانية الثلاثة تصدينا لكل محاولة جرت لمنح صلاحيات استثنائية لأي من الحكومات، وقاومنا كما لم يفعل أي مجلس على مساحة الديموقراطيات المعاصرة كل محاولة لتهميش المجلس".
غريب هو موقف رئيس مجلس النواب لا سيما إصراره على رفض منح الحكومة صلاحيات تشريعية كون القرار في هذا الموضوع لا يعود له بل لمجلس النواب في هيئته العامة التي يعود لها الموافقة على قانون التفويض أو رفضه بغض النظر عن مسألة مدى دستورية هذه الخطوة. فرئيس مجلس النواب لا يحق له مصادرة إرادة المجلس وتحويل صلاحيات المجلس إلى شخصه بحجة الدفاع عنه، بينما الهدف الحقيقي هو المحافظة على توازن سلطوي يعتبر أن مجلس النواب هو موقع نفوذ لرئيس مجلس النواب الحالي في النظام السياسي يتم استخدامه لعقد تسويات سياسية مع سائر أركان السلطة ضمن ما بات يعرف بالتوافقية.
ولا شك أن الحجة الدستورية هي مجرد وسيلة لإخفاء الحقيقة السياسية لموضوع الصلاحيات الاستثنائية عبر التأكيد على ضرورة احترام مبدأ فصل السلطات ومنع "تهميش" البرلمان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المجلس الدستوري عالج في القرار رقم 1 تاريخ 31/1/2002 هذه المسألة عندما ناقش قانون الضريبة على القيمة المضافة بحيث طرح السؤال التالي: هل قام مجلس النواب "بأي تفويض غير جائز دستوريا لاختصاص من اختصاصاته بسبب حفظه له حكرا في الدستور وذلك لمصلحة مجلس الوزراء أو سواه؟" أي بما يتعلق بقانون الضريبة على القيمة المضافة هل تخلى مجلس النواب عن صلاحيته الحصرية بإحداث الضرائب في لبنان كون المادة 81 من الدستور تنص صراحة أن اقرار الضرائب وجبايتها في لبنان لا يتم إلا بموجب قانون. وقد أجاب المجلس الدستوري معتبرا في خلاصة بحثه أنه "لا يجوز للسلطة المشترعة في ممارستها لاختصاصاتها في مجال إقرار القوانين بالمواضيع المحفوظة لها أن تتخلى بنفسها عنها…" ما يعني أن المواضيع التي أشار الدستور صراحة بضرورة صدورها بقانون كالجنسية وقانون الانتخاب والضرائب على سبيل المثال تدخل ضمن النطاق التشريعي الحصري لمجلس النواب ولا يمكن له تفويضها بأي شكل من الأشكال إلى سلطة أخرى. وبالتالي، كل المواضيع الأخرى التي لا يلحظها الدستور والتي سبق لمجلس النواب أن اتخذ تشريعات تتعلق بها يمكن له تفويضها لفترة محدودة للسلطة التنفيذية عبر إصدار مراسيم اشتراعية.
وقد عرف لبنان ظاهرة المراسيم الاشتراعية منذ 1929 عندما منح محلس النواب حكومة إميل إده صلاحيات استثنائية لتنظيم إدارات الدولة. وقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة بعد الاستقلال لا بل أن أهم التشريعات اللبنانية صدرت بموجب مراسيم اشتراعية كقانون التفويض الذي صدر في 15 تشرين الأول 1952 في بداية عهد الرئيس كميل شمعون والذي نص من ضمن المسائل التي فوضها على "منح المرأة حقوقها السياسية" أو تلك المراسيم الاشتراعية الاصلاحية التي صدرة في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب سنة 1959 والتي وضعت الأسس القانونية التي تقوم عليها الإدارة العامة اللبنانية حتى اليوم.
قبل انشاء المجلس الدستوري، لم تكن أي جهة مخولة بتقدير دستورية قوانين التفويض. وقد سمح هذا الأمر بتجاوزات كأن يذهب مجلس النواب إلى تفويض صلاحياته المحددة صراحة في الدستور. ومن أبرز الشواهد على ذلك أن القانون الصادر في 4 شباط 1957 سمح للحكومة بإصدار موازنة الدولة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، الأمر الذي حصل فعلا مع المرسوم رقم 14877 تاريخ 5 شباط 1957. وقد صدرت لاحقا عدة قوانين تفويض خولت الحكومة إصدار مراسيم اشتراعية في مواضيع حفظها الدستور للبرلمان، علما أن آخر قانون تفويض عام صدر في سنة 1984.
وقد تطرق مجلس شورى الدولة صراحة لأول مرة لمسألة المراسيم الاشتراعية سنة 1955 معتبرا أنه "ليس في الدستور اللبناني أي نص يمنع على السلطة التشريعية أن تفوض إلى الحكومة اتخاذ تدابير تشريعية بموجب سلطتها التنظيمية في مواجهة الحالات المستعجلة والأزمات الطارئة والنهوض بالأوضاع القائمة". من هنا، جرى العرف الدستوري "على الالتجاء إلى السلطات الاستثنائية التي تفوض بها السلطة التسريعية السلطة التنفيذية لمدة معينة ممارسة حق التشريع في بعض نواحي النشاط". (قرار رقم 522 تاريخ 9/11/1955).
والغريب أن منح الحكومة حق التشريع لم يعد ممارسة شائعة لكنه استمر حتى اليوم في مجال واحد فقط وهو الحقل الجمركي إذ صدرت عدة قوانين بعد 1990 تخول الحكومة التشريع في الحقل الجمركي كان آخرها القانون رقم 93 تاريخ 10 تشرين الأول 2018 والذي منح الحكومة لمدة خمس سنوات "حق التشريع في الحقل الجمركي بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء". لا بل أن القانون سمح أيضا للحكومة فيما يتعلق بالتعريقات الجمركية أن تنيب المجلس الأعلى للجمارك في ممارسة هذه الحق. لا شك أن طبيعة التعرفة الجمركية التي تتطلب السرية وفرضها بشكل سريع ومباشر هي التي أرغمت مجلس النواب على الاستمرار يتفويض صلاحيات مالية تدخل في صلب اختصاصه التشريعي. ولم يتم حتى اليوم الطعن بقانون التفويض هذا أمام المجلس الدستوري كي يفصل في الأمر.
خلاصة الموضوع أن إقرار قانون تفويض هو شأن يقرره مجلس النواب وليس رئيسه وأن تحديد مدى دستورية هذا الإجراء يعود حصرا للمجلس الدستوري علما أن المراسيم الاشتراعية قبل تصديقها من مجلس النواب تظل أعمالا إدارية قابلة للطعن أمام مجلس شورى الدولة بينما لو صدرت بقانون عادي ولم يتم الطعن بها أمام المجلس الدستوري ضمن المهل القانونية تصبح محصنة ضد أي طعن.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.