علمت “المفكرة القانونية” أنّ إسرائيل أفرجت مساء اليوم الثلاثاء عن أربعة مدنيين لبنانيين اعتقلوا جميعًا في شهري كانون الثاني وشباط الماضيين وهم: حسين فارس الذي اعتقل في 29 كانون الثاني، من قريته مارون الراس، وحسين قطيش الذي اعتقل جريحًا في 16 شباط في قريته حولا، وأحمد شكر الذي اعتقل في 26 كانون الثاني في حولا، ومحمد نجم الذي اعتقل في تلة النحاس في 12 كانون الثاني.
مع الإفراج عن هؤلاء، لا يزال لدى الجيش الإسرائيلي أسرى من حزب الله ورهائن مدنيين وجندي في الجيش اللبناني. ورغم غياب أرقام رسميّة، فقد توثّقت “المفكّرة” من 16 اسمًا للبنانيين لا يزالون في الاحتجاز الإسرائيلي. يتتبّع التحقيق التالي ملف الأسرى والرهائن اللبنانيّين الذين اعتقلوا خلال العدوان الأخير وبعده، عارضًا شهادات تكشف عن تعذيب وانتهاكات في ظلمات الاحتجاز الإسرائيلي.
**
ليلة الإثنين 27 كانون الثاني 2025، أعلى تلّة على حدود قرية حولا، وقف الخمسينيّ أحمد حسن رزق وقد جُرّد من كامل ملابسه، ينظر إلى قريته من على سطح مرتفع، وهو معتقلٌ داخل موقع إسرائيليّ ويواجه بجسده العاري برد كانون الثاني وعنف المحقّق. في أوّل جلسة تحقيق، كان ابن حولا واقفًا، يداه مكبّلتان إلى الخلف، وقدماه مقيّدتان، ومعصوب العينين بخرقة داكنة، يسمع صوت المحقّق يقول له بعربية مفهومة: “علشان تسلم هون، أنت لازم تخبرنا اللي نحن بدنا نسمعه”.
اعتُقل الرجل مع ابنه و4 من أبناء قريته في اليوم السابق، أي في 26 كانون الثاني، بعد أن حاصرهم الرصاص الإسرائيليّ خلال تقدّمهم إلى حيّ الدار في حولا خلال الأحد الأوّل لمسيرات العودة: “في البرد القارس، وفي منطقة ترتفع 900 متر عن سطح البحر، كان التحقيق ينطلق من أنني من حزب الله، وأنا أقول للمحقّق ‘والله أنا مش من حزب الله’، لكنه يصر: ‘أنت من قوّة الرضوان’ يكرّر، وأنا أنفي.. أنا كبير بالعمر، عمري 50، ومرّت علّي 4 جولات من الضرب المبرح خلال التحقيق الأوّل بين السؤال والنفي”.
حاول المحقّق استفزاز أحمد بأسئلة عن شهداء، وحينما ردّ الرجل الخمسينيّ بموقف لم يستسغه المحقّق، أطلق جماح غضبه عليه: “ضربني بسلاحه على خاصرتي اليمنى وعلى خاصرتي اليسرى، فخرج الدم من مبولتي، وغبت عن الوعي لفترة قبل أن يوقظني المحقّق بصبّ الماء البارد عليّ، وفي عزّ البرد”.
شهادة أحمد التي شاركها مع “المفكّرة”، هي واحدة من الشهادات المؤلمة التي جمعناها خلال العمل على ملف الأسرى والرهائن المختطفين في المنطقة الحدوديّة، جنوب لبنان. فرغم مرور أكثر من 3 أشهر على إعلان وقف الأعمال العدائية، لا يزال ملف أسرى الحرب اللبنانيين في الظلّ. وطوال هذه الفترة، أُخذ عشرات اللبنانيين رهائن من قبل الجيش الإسرائيليّ، وقد أُطلق سراح العدد الأكبر منهم، فيما ظل مصير آخرين مجهولًا.
ومع وقف إطلاق النار، لم تعلن أيّ من الجهات الرسميّة عددًا رسميًّا للأسرى اللبنانيّين من حزب الله، كما لم تفصح إسرائيل عن عددهم. وتثبّتت “المفكّرة” عبر ثلاثة مصادر رسميّة وحزبيّة من صحّة سبعة أسماء كانت قد خرجت للتداول ضمن ورقة رسميّة يتيمة ومسرّبة. بالإضافة إلى الأسرى، هناك الرهائن المدنيين الذين تم اختطافهم خارج نطاق القتال، وقد تواصلت أو التقت “المفكّرة” بـ 32 مدنيًّا اعتقل وأطلق سراحه، بينهم أسرة من أب وأم وأطفالهما، منهم من تم اختطافهم من منازلهم أو خلال محاولاتهم العودة إلى قراهم المحتلة.
بحسب الفريق القانوني في “المفكّرة”، إنّ الأسرى، وفقًا لاتفاقيات جنيف، هم أفراد القوّات المسلحة والمنظمات المسلحة، بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظّمة الذين ينتمون إلى أحد أطراف النزاع، الذين يقعون في قبضة العدو (المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة)، ويفرض القانون الدولي قواعد صارمة لحمايتهم خلال فترة الأسر..
أما المدنيون الذين لم يشاركوا في القتال بشكل مباشر، فيتمتّعون بحماية مطلقة ضدّ جميع أشكال العنف خلال الحرب، بما في ذلك أخذهم كرهائن من قبل العدو (المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف). ويُعرّف أخذ الرهائن بأنه احتجاز شخص مع التهديد بقتله أو إيذائه أو استمرار احتجازه بهدف الضغط على طرف ثالث للقيام بعمل معيّن أو الامتناع عنه كشرط صريح أو ضمني للإفراج عنه (اتفاقية 1979 الدولية لمناهضة احتجاز الرهائن). وقد أكّدت المحاكم الدولية، بما في ذلك المحاكم الخاصّة بسيراليون ويوغسلافيا، أنّ استخدام المدنيين كوسيلة ضغط أو لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية يدخل ضمن نطاق جريمة أخذ الرهائن، وأن نية أخذ الرهائن (بمعنى نية استخدام المحتجزين من أجل تحقيق مكاسب) قد تتشكل في أي مرحلة من مراحل الاحتجاز، حتى لو بدأ الاحتجاز لأسباب أخرى. وعليه، فإنّ أي احتجاز للمدنيين على يد الجنود الإسرائيليين كوسيلة للضغط أو التفاوض يُعدّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
وخلال العمل على هذا التحقيق، كان جليًّا أنّ ما لا يُحكى عنه – على المستوى الرسمي والإعلامي في لبنان – أكثر بأشواط ممّا يُحكي عنه في هذا الملف. لكن المسكوت الأكبر عنه، كان مجموعة الانتهاكات التي يتحدّث عنها من أُطلق سراحهم من رهائن لبنانيين، وبين هذه الانتهاكات، ما وصلت فظاعته إلى حدّ الاعتداء الجنسيّ (حالة وثقتها “المفكّرة”، وتفرد لها قسمًا في صلب التحقيق).
وتكشف شهادات من الذين عادوا عن ظروف اعتقال وحشية، بينها حرمان الأسرى والرهائن من النوم والدخول إلى المرافق الصحية، لاسيّما خلال فترة التحقيقات. وأظهرت الشهادات أنّ من بينهم من تعرّض للضرب المبرح الذي يُسبب النزيف، وكما من عانوا من الشتائم والإهانات في ظروف قاسية تشمل الكلبجة والتكميم المستمر طوال ساعات الليل والنهار، وعلى مدى فترة الاعتقال. كما تُوثق الشهادات محاولات متكررة لانتزاع الاعترافات تحت التهديد والتعذيب.
وتلتزم “المفكّرة” عدم نشر الكثير من التفاصيل والشهادات المجمّعة من رهائن مطلق سراحهم، آخذين في الاعتبار سلامة أصحابها وأسرى آخرين تحدّثت عنهم.
الصليب الأحمر الدولي الذي يفترض أن يكون ضامنًا لحقوق الأسرى وفقًا للاتفاقيات الدولية، يجد نفسه عاجزًا عن الوصول إلى الأسرى والرهائن اللبنانيين بسبب تعنّت السلطات الإسرائيلية، وعدم منحها الإذن لأي من فرقه للوصول إلى سجونها، بحسب ردوده على أسئلتنا في نهاية شهر كانون الثاني.
ولم يأت إعلان وقف الأعمال العدائيّة (الإعلان التطبيقي للقرار 1701) على ذكر الأسرى اللبنانيّين، لكنّ اتفاقيّات جنيف تفرض إطلاق سراح الأسرى من دون تأخير بعد انتهاء الأعمال العدائية، وهو موجب تلتزم سلطة الاحتجاز (هنا إسرائيل) بتنفيذه بشكل أحادي حتى في غياب أي اتفاق ثنائي (المادة 118 من اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب). إلى ذلك، فإنّ اعتقال المزيد من الأفراد بعد تاريخ 27 تشرين الثاني، يشكّل انتهاكًا إسرائيليًّا خطيرًا للسيادة اللبنانيّة وللقرار 1701. والقانون الدوليّ الإنسانيّ يحظر بوضوح أخذ المدنيين رهائن سواء خلال فترة الحرب أو بعدها.
من خلال هذا التحقيق، نسعى في “المفكّرة” إلى تقديم صورة شاملة تُساهم في بناء فهم أعمق للقضية، والإضاءة على فظائع التعذيب التي تحدث في ظلمة السجون والتعتيم، معتمدين على شهادات من مدنيين أُطلق سراحهم، ووثائق ومقابلات مع مسؤولين معنيين. ويسعى هذا التحقيق إلى رسم خارطة لهذه القضية، من المقاتلين الذين اعتقلوا خلال مقاومة الاجتياح البرّي، إلى المدنيين الذين جرى اختطافهم من منازلهم أو أثناء محاولاتهم العودة إلى قراهم.
يشار إلى أنّ الجيش اللبناني لم يجب “المفكّرة” على عدد من الأسئلة ضمن كتاب رسميّ، بينها عدد الذين اعتقلوا في المنطقة الحدودية، سواء خلال الحرب، أو بعدها وظروف اعتقالهم. كما أكد الصليب الأحمر لنا أنّ “أعداد المعتقلين تتغيّر يوميًّا”. بدورها لم تجب اليونيفيل على كتاب رسميّ مماثل، وجّهناه إليها بناء على وقوع الاعتقالات ضمن منطقة صلاحيات عملها.
ورقة مسرّبة: ستة أسرى لحزب الله وقبطان بحري رهينة
ستة من الأسماء السبعة التي تثبّتت “المفكرة” من صحّتها هم وضاح كامل يونس الذي أُسر في بليدا، ونشر الجيش الإسرائيليّ مقطع فيديو له، إضافة إلى كلّ من حسن جواد، ويوسف عبدالله، وإبراهيم الخليل، ومحمد جواد، وحسين شريف الذين اعتقلوا في عيتا الشعب.
وحصلت “المفكّرة” على شهادة من أحد المدنيّين الذين أفرج عنهم الجيش الإسرائيلي، أكّد فيها أنّه تعرّف على حسين شريف و وضاح كامل يونس حين اجتمع الثلاثة في مركز اعتقال واحد في إحدى مراحل الاعتقال، وأنّهما لم يكونا جريحين.
“اجتمعت بهما بعد نقلي إلى مركز ثانٍ بعد انتهاء التحقيق معي في مركز أوّل. كنا معًا في قاعة اعتقال وليس في زنزانة، وكان الأسرى في وضع مشابه لوضعي، مقيديّ اليدين والقدمين و”معصوبَي” الأعين بشكل دائم. كنت أحاول التحدّث إليهما سرًا، وكانت آثار القيود بادية على أيديهما التي رأيتها من تحت خرقة تغطية العيون”.
ولدى إطلاعنا الشاهد على لائحة الأسماء المسرّبة، قال إنّه سمع هذه الأسماء على لسان السجّانين في مركز الاعتقال ذاته، لكن في قاعات منفصلة. وتلتزم “المفكّرة” عدم نشر جزء من شهادته متعلّق بأسرى آخرين، حماية للأسرى وحقّهم في رواية قصصهم بعد عودتهم.
وقد أظهرت شهادات جمعتها “المفكّرة” أنّ أيًّا من أقارب هؤلاء الأسرى لم يتمكّن من الاطمئنان إلى مصيرهم، مع استمرار تعطيل إسرائيل لحقّهم في مقابلة الصليب الأحمر الدولي. وينتظر هؤلاء أن يعود لهم أبناؤهم في أسرع وقت. ونقل ابن أحد الأسرى الستة لـ “المفكّرة” انتظار أسرته لوالدهم يعزيّهم أنّ أسره جزء من طريق التضحية الذي اختاروه.
والاسم السابع الذي ورد ضمن الورقة المسرّبة هو عماد أمهز، قبطان بحري اعتقل من مكان سكنه في البترون في عمليّة إنزال بحريّ إسرائيليّة في 2 تشرين الثاني 2024. تقول والدة أمهز، منى العليّ أمهز، لـ”المفكّرة” إنّ ابنها “مدنيّ يتابع تعليمه ويسعى إلى بناء مستقبله”، مؤكّدة أنه لم يكن مرتبطًا بأيّ أعمال قتالية “ولم نفهم حتى الساعة لماذا اختطف ولماذا أسر، وقد طلبت مواعيد مع الرؤساء لم أحصل عليها حتى اللحظة”. وإثر أسر أمهز، أكّد وزير الأشغال اللبنانيّ حينها أنّ الأخير هو ضابط مدني بحريّ. وتقول والدته إنّها لا تزال بدورها تنتظر الاطمئنان على مصيره من خلال آلية الصليب الأحمر “وقد طلبوا منّي (في الصليب الأحمر الدولي) أنْ أكتب رسالة، وقد كتبتها، لكن من دون جواب”.
خطف المدنيّين حتى بعد إعلان وقف الأعمال العدائية
يستعيد الرهينة (المدني) المفرج عنه إيهاب سرحان حياته اليوم، ولا يريد أيّة أضواء، وهو تعبير لا يقوله فقط لتبرير رغبته في الابتعاد عن أسئلة الصحافيين واهتمام الجمهور، بل ينقله إلى معنى حرفيّ “فأنا لا أزال أغطي عينيّ كي أستطيع النوم”، يقول، ويتساءل “لم أكن أفعل ذلك قبل الاعتقال، فهل هذا بسبب أنّ الخرقة ظلّت مشدودة على عينيّ طيلة 11 يومًا هي مدّة اعتقالي؟”
اعتُقل إيهاب من منزله في كفركلا في 8 تشرين الأوّل 2024، وقضى 5 أيّام في التحقيق وبعدها 6 أيام في الاعتقال قبل أن يُطلق سراحه بين الأودية في منطقة علما الشعب، في ذروة الاشتباكات، وينجو من اعتقال ثان بعد أن مشى إلى الناقورة. يقول إيهاب: “خلال اعتقالي، فقدت الإحساس بالوقت، كنت قابعًا في ظلمة عصبة تغطّي عيوني كلّ الوقت، حتّى أنّ المحقق سألني مرّة في أي يوم نحن، فأخطأت بيومين من أصل ستة، قلت له إنّه مضى على اعتقالي 6 أيّام، ليتبيّن أنّه لم يمض سوى أربعة أيام”.
يروي إيهاب عن لبنانيّين اثنين التقاهما خلال الاعتقال لم يرد اسماهما في اللائحة آنفة الذكر، وتتحفّظ “المفكرة” عن نشرهما حماية لهما. أحدهما كان مصابًا في يده، ويئنّ بسبب ضغط الخرقة على عينيه بشكل مبالغ به: “كان يصرخ من الألم ويقول: راسي رح ينفجر، عيوني رح تنفجر”. وبحسب إيهاب، فإنّه سمع خلال اعتقاله أسماء 9 معتقلين لبنانيّين وقد أبلغ السلطات اللبنانيّة بذلك خلال التحقيق معه في لبنان بعد الإفراج عنه.
والواقع أنّ فترة الغزو البرّي شهدت العديد من الاعتقالات التي لم يتم الإبلاغ عنها لمدنيّين كانت تعتقلهم القوّات الإسرائيليّة خلال توغّلاتها. وبما أنّ القانون الدولي يحظر أخذ المدنيين رهائن، فلا يمكن تبرير اعتقالهم بحجّة العمليّات العسكريّة، أو بتواجدهم في بيوتهم وقراهم ولو كانت القوّات الإسرائيليّة تعتبرها منطقة لعمليّاتها الحربيّة، إذ أنّ اعتقالهم و يشكّل جرائم حرب.
هذا التعاطي الإسرائيليّ مع المنطقة الحدوديّة، استمرّ بعد وقف إطلاق النار، وبما يخالف بشكل واضح نصّ إعلان وقف الأعمال العدائيّة، والقرار 1701، ويشكّل عدوانًا متجدّدًا ضدّ المواطنين الذين نصّ الإعلان والقرار 1701 على حقهم في العودة، وعدوانًا ضدّ سيادة لبنان وسلامة أراضيه.
وقد توسّعت السلطات الإسرائيليّة في أخذ الرهائن في فترة ما بعد وقف الأعمال العدائيّة. وقد أبلغت وسائل الإعلام بشكل متكرّر عن عمليّات اختطاف سواء لمواطن واحد أو مجموعة مواطنين في مهلة الانسحاب الأولى (مهلة الستّين يومًا)، وكذلك ضمن المهلة الممدّدة حتى 18 شباط. وقد وثّقت “المفكّرة” حصول عمليّات اعتقال غير مبلّغ عنها في الفترة نفسها لمواطنين أخذوا من منازلهم أو من حقولهم. ورغم أنّ معظم من اعتقلوا كان يتمّ إطلاق سراحهم وإعادتهم، إلّا أنّ السكوت كان يتمّ عن العدد الذي يبقى محتجزًا من كلّ مجموعة تعتقل.
ونموذج توقيف مجموعات من المواطنين والإفراج عنهم مع الإبقاء على أحدهم تكرّرت خلال مسيرات العودة. وقد اعتقلت مجموعات من العائدين، أو أحيانًا تم أسر عائلات بكامل أفرادها، وفق شهادات جمعتها “المفكّرة” من أشخاص عادوا من الاعتقال، قبل أن يتمّ الإفراج عن معظم الأفراد والإبقاء على عدد قليل.
رهائن يُخطفون بصمت
يوم 2 شباط 2025، حينما عاد الصيّاد اللبنانيّ محمّد جهير إلى بحر الناقورة، عقب الانسحاب الإسرائيليّ منها وانتشار الجيش اللبنانيّ فيها، مصطحبًا شقيقه الأصغر، كان متشوّقًا للعودة إلى الناقورة التي لا تكتمل إلّا بشقّ أمواج بحرها الذي يبقى ولو هدّمت كلّ القرية. كان محمد وشقيقه ناحية خط الطابات الطوافة، قبالة رأس الناقورة، حينما اقتحم المكان زورقان إسرائيليّان. رفع الصيّادان أيديهما في الهواء، مؤكّدين عدم حملهما أي سلاح، رغم ذلك، اختطف الشابان، ليُفرج عن الشقيق لاحقًا، فيما أبقي على محمّد معتقلًا للأسبوع الخامس اليوم، من دون أي خبر عنه. وقد اطّلعت “المفكّرة” على تسجيل فيديو يوثّق لحظات الاعتقال، وتحقّقت من زمانه ومكانه.
زينب التي تعرف محمّد، ابن بلدتها، جيّدًا، تقف اليوم على شاطئ الناقورة: “في مخيّلتي، سيعود محمّد من البحر، من هذا الأفق الذي خُطف عنده، لكنّ هذه مخيّلة عاطفية.. الواقع أنّ محمّد منسيّ اليوم من دولته، لكنّ أهله يذكرونه في كلّ لحظة”. وعتب زينب على الدولة، ينسحب على باقي أسر الرهائن المخطوفين، والذين لم يعودوا، لكنّ خطفهم يلفّه صمت عام مريب.
حين زرنا منزل أسرة حسين شبيب قطيش، صمت كئيب، وقد دخل اعتقال عضو المجلس البلديّ المنتخب من قبل أهل حولا، وربّ الأسرة الستيّنيّ، أسبوعه الرابع من دون أي خبر. كان حسين مع جموع الأهالي الذين عادوا إلى البلدة يوم 17 شباط 2025، مع خلوّها من قوّات الاحتلال الإسرائيليّة، قبل أن تنقضّ الأخيرة عليهم، بجنودها ورصاصها، فتقتل طفلة من بينهم، وتصيب آخرين من بينهم حسين قطيش بإصابة مباشرة بالرصاص، قبل أن تعتقل 10 أشخاص بينهم رجال ونساء وأطفال، ومسعفين اثنين من جمعية الرسالة للإسعاف الصحي توجّها إلى الموقع لإنقاذ جرحى. وقد عاد الجميع في اليوم التالي، إلّا حسين.
وبحسب عائلة حسين ومصدر في جمعية الرسالة، قبل خطفهما وخطف حسين، ضمّد المسعفان من جمعيّة الرسالة جراحه وأوقفا نزيفًا تسبّبت به رصاصة إسرائيليّة في القدم، لكن الرجل كان بحاجة للوصول إلى المستشفى فورًا. ولم تستطع الأسرة استشفاف معلومات من المفرج عنهم الـ 12 لأنّهم اعتقلوا في مكان منفصل عن عضو البلديّة المختطف.
خلال فترة الاعتقال، كان غياب أي تواصل رسميّ أو متابعة رسميّة معهم، وجهلهم بمصير والدهم، أصعب ما عبّروا عنه. “أولاد خيي اشتاقوا لجدهم، مش عارفين شو نحس، وشو نعمل، قهر بقهر، مش عم نحكي مع بعضنا بالبيت”، يقول حسين، الابن الأوسط، ويتابع في حديثه لـ “المفكّرة”: “نحن بيهمّنا نعرف مصيره، منتوقّع أي احتمال، هيدي إسرائيل وما في رحمة. والدي، عضو مجلس بلدي، أي تحت سلطة ووصاية لوزارة الداخليّة والبلديات، وهو مواطن وليس عضوًا في أي حزب حتّى”.
وحين تواصلت الأسرة مع مخابرات الجيش اللبناني، كان الجواب وفقًا لها: “لم نتمكّن من الوصول إلى أيّ معلومة”، وهم يقولون إنّ الصليب الأحمر الدوليّ ردّ عليهم بدوره بأنّه لم يستطع الوصول إلى معلومات بعد عن مصير الأب المختطف، وفقًا لما يخبر به الابن أحمد “المفكّرة”.
وتمثّل تجربتهم عيّنة عن ما تقاسيه الأسر، بسبب عدم اليقين وإهمال الجهات الرسميّة لها: “جاء رمضان، ولم يسألنا أحد عن حالنا ولم يأتِ إلينا أحد”
حالات أخرى موثّقة بالأسماء
وفي تعداد حالات اعتقال الرهائن الذين لم يفرج عنهم، وإضافة إلى الصيّاد محمّد جهير، اختطف فؤاد قطايا وعلي يونس على طريق وادي الحجير، في 19 كانون الأول، ولم يفرج عنهما بعد. وبعد أسبوع، في 26 كانون الثاني، وفي اليوم نفسه، اعتقل حسين كركي وهو يدخل بلدة مركبا الجنوبية برفقة أمه وأخته؛ حيث تعرّضوا لإطلاق نار من قوات الاحتلال الإسرائيليّة، مما أدى إلى إصابة حسين ثم اعتقاله، واستشهاد أمّه تمارا شحيمي فورًا.
في اليوم التالي أي 27 كانون الثاني، اعتقل حسن حمّود من منزله في الطيبة قبل إحراقه، ويوم 28 كانون الثاني، اعتقل علي ترحيني من العديسة بعد إصابته، ولم يفرج عن كليهما بعد. وفي 16 شباط، تعرّض عضو شرطة بلدية مارون الراس، مرتضى مهنا، للاختطاف من منزله في حي عقبة مارون عند أطراف بنت جبيل. أما في 9 آذار، فقد أُصيب العسكري في الجيش اللبناني زياد شبلي برصاصة إسرائيليّة واعتُقل في محيط مزرعة شانوح بأطراف كفرشوبا.
الخمسيني أحمد حسن رزق: ضرب وتجويع
بالعودة إلى المعتقل الخمسيني أحمد حسن رزق الذي انطلق هذا التحقيق بشهادته وكان اعتقل مع ابنه و5 آخرين، يتابع رواية ما جرى معه لـ “المفكرة”. “بعد ليلة التحقيق في العراء، أعادوني إلى قاعة الاعتقال، وهي مساحة واسعة وشديدة البرودة، أذكر أنّني اشتكيت من البرد فقال لي أحد الحرّاس مبتسمًا: طبعًا، فلقد وضعنا التكييف على درجة حرارة تحت الصفر”.
كان المعتقلون السبعة يجلسون على كراسٍ حديدية، أيديهم وأقدامهم مقيّدة، وأعينهم مغطاة بعصبات داكنة: “ممنوع النوم، وممنوع الطعام والشراب والدواء أو حتى الدخول إلى الحمام”، يتابع أحمد واصفًا ظروف اعتقاله.
مرّت على أحمد كما ذكرنا في المقدمة 4 جولات من الضرب المبرح خلال التحقيق الأوّل، ثم مرّت جلسة التحقيق الثانية بالكثير من الأسئلة، ولم تخلُ من الضرب والإهانات، إلّا أنّ جلسة التحقيق الثالثة التي جاءت بعد 48 ساعة من الاعتقال، أخذت منحى أخطر: “جاء ضابط إسرائيلي قيل لنا إنّه برتبة ميجر (أي رائد)، وقال لي إنّ عليّ تسجيل اعتراف نصّه: “أنا أحمد حسن رزق، من حزب الله، من قوّة الرضوان، اعتقلت أثناء مهاجمتي لمواقع جيش الدفاع”. يقول أحمد إنّ اعتراضه على نص الكلام كان جوابه واضحًا: “إذا ما حكيت اللي عم نقولّك عنه بتبقى هون للأبد”. وافق أحمد تحت ضغط التهديد والترهيب مشترطًا الحصول على طعام بعد تسجيل الاعتراف: “اشترطت الطعام، فأنا لم آكل شيئًا منذ ثلاثة أيّام والسكر لديّ هبط مما يهدد حياتي، ويمكن أن أموت”.
ولمّا قام أحمد بتسجيل الاعتراف، قدّم له الجنود كسرة خبز يابسة: “اعترضت بشدّة على هذا الإخلال بالاتفاق، من دون نتيجة، فطلبت لقاء الميجر مجدّدًا، قالوا لي بلؤم ‘حسنًا لكنّه لا يحب أن يرى أحدًا يأكل أمامه’، وسلبوني كسرة الخبز كعقاب لي على اعتراضي. قلت للميجر لقد أخليّتم بالاتفاق، وأنا الآن بتّ معترفًا بحمل السلاح رغم أن هذا كذب وأنتم تعرفون أنه كذب، وأطالب بمنحي على الأقل حقوق أسير الحرب وبالاتصال بالصليب الأحمر، فكان الجواب: ‘شي بخرّي من حقوقك ومن الصليب الأحمر”.
لم تمض ساعات على إعادة أحمد حسن رزق إلى قاعة الاعتقال، حتى أغمي عليه بسبب هبوط السكر، ولمّا رأى ابنه أباه فاقدًا للوعي، مسك لسانه مخافة أن يبتلعه، وبدأ بالصراخ، فهجم الجنود عليه بالضرب، وهم أيقظوا الوالد مجدّدًا بسكب الماء البارد، وقدّموا له ربع برتقالة (حزّي برتقال)، كانت أول وآخر ما تناوله أحمد خلال الاعتقال. وبعد جلستيّ تحقيق رابعة وخامسة خلال الساعات الأربع والعشرين التالية، أُفرج عن أحمد وابنه و4 آخرين من الذين اعتقلوا في حولا في اليوم التالي، وظلّ شخص سابع من الرهائن معتقلًا، حتى اللحظة.
وفيما يحظر القانون الدولي احتجاز الرهائن من المدنيين، فإنّ المعلومات الوحيدة التي يُلزم أسير الحرب بالإدلاء بها هي اسمه، تاريخ ميلاده، ورتبته (المادة 17 من اتفاقية جنيف الثالثة) بحسب الفريق القانوني في “المفكّرة”. ويحظر استخدام التعذيب أو أي شكل من أشكال الإكراه الجسدي أو النفسي للحصول على معلومات من أسرى الحرب. كما لا يجوز تهديد الأسرى الذين يرفضون الإجابة، أو إهانتهم، أو تعريضهم لأي شكل من أشكال الأذى أو المضايقة.
التعذيب يبلغ ذروته مع أحد الرهائن المدنيين: اغتصاب بآلة حادة
تحمل التلال الحدوديّة أسرارًا عمّا شهدته خلال مسيرات العودة الشعبيّة، وبعض هذه الأسرار من الفظاعة بمكان، وصلت حدّ تجاوز الإهانات ومحاولات كسر الروح المعنويّة للأهالي الذين ذهبوا يتحدّون بصدورهم العارية القوّات المدجّجة بأسلحتها، من أجل العودة إلى قراهم، وانتزاعها من المحتلين.
وفي تلك الأيّام، توثّق الشهادات تصاعدًا مضطردًا للعنف الإسرائيليّ ضدّ الأهالي، مع تصاعد تحدّيهم للاحتلال. اقترب شاب بشكل خطير من موقع إسرائيليّ ليل أحد أيام مسيرات العودة، مع عدد من رفاقه. وفقًا لشهادات رفاقه، كان الغضب باديًا في عيونه، وكان “عقاب” الجنود له هو الأقسى. ومع إصراره على التحدّث بثقة ورفعه رأسه في وجه جنود اعتقلوه متّهمين إيّاه بدخول الأراضي الإسرائيليّة، وقعت واحدة من أفظع الجرائم الموثّقة.
اعتقل الشاب بعد منتصف الليل، في إحدى قرى القطاع الشرقي، وأفرج عنه في اليوم التالي، وتسلّمه الجيش اللبنانيّ، في حضور رئيس بلديّة ومسعفين، عند ساتر ترابيّ رفعه الاحتلال لمنع عودة الجيش والسكّان حينها. كان الغضب الذي لاقى به الشاب الجنود الإسرائيليّيين، قد اتّقد أكثر في عينيه، وظلّ وجهه يتحدّى فظاعة الانتهاكات التي مورست ضدّه خلال ليلة من الاعتقال، ولدى محاولة إجلاسه من أجل التأكّد من سلامته، قال ناظرًا في عين الجنود خلف الساتر: “ضربوني بشوكة من الخلف”.
وقد بيّنت المعاينة الأوّلية للشاب تعرّضه لاعتداء بآلة حادة في مؤخّرته. وتتحفّظ “المفكّرة” على نشر تفاصيل من شهادته، بناء على طلبه. ويشكّل الاعتداء بأدوات حادّة أو أشياء على أجزاء حساسة من الجسم، خاصةً الأعضاء التناسلية أو المناطق المجاورة لها، كالمؤخرة، اعتداءً جنسيًا فظيعًا. هذا النوع من العنف يهدف إلى إذلال الضحية وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بها، وهو جزء من تكتيكات التعذيب أو الإساءة الشديدة التي تستخدم أحيانًا لكسر إرادة الأسرى أو الرهائن.
وقد أكّد مصدر بلديّة وآخر طبّي الوقائع المرويّة، وكذلك علم الجيش اللبناني بها، وقد حضر ضبّاط منه لحظة الإفراج عن الشاب. ولم تستطع “المفكّرة” التأكد من الإجراءات التي اتّخذها الجيش اللبنانيّ، مع بقاء كتابها الرسميّ الموجّه إليه، والذي تضمّن أسئلة عن التعذيب، من دون أجوبة. وستفرد “المفكّرة” تحقيقًا آخر يوثّق الإجراءات المتّخذة مع الأشخاص المفرج عنهم من قبل الأطراف المعنيّة في لبنان.
ويؤكدّ الفريق القانونيّ في “المفكّرة” حظر القانون الدولي الإنساني استخدام العنف الجنسي خلال الحروب، بما فيها بحق الأسرى والمعتقلين. وقد أدرج نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاغتصاب وأشكال العنف الجنسي على درجة من الخطورة ضمن جرائم الحرب. وفي دليلها حول أركان الجرائم، أكّدت المحكمة أنّ إيلاج أي جسم في شرج الضحية باستخدام القوة أو بالتهديد بالقوة أو بالقسر يشكّل جريمة الاغتصاب.
أنماط من التعذيب النفسي
كشفت شهادات المدنيين الرهائن المفرج عنهم، عن إخضاعهم، وكذلك إخضاع الأسرى، إلى جولات تحقيق مكثفة. وتبيّن لـ”المفكّرة” أنّ فترة التحقيق تكون الأسوأ من حيث ظروف الاعتقال والتعرّض لمختلف صنوف التعذيب. وبشكل عام، تحدّثت الشهادات عن 5 جولات من التحقيق يخضع لها كلّ رهينة. وقال إيهاب سرحان في شهادته إنّ استراتيجيّة “شرطي جيد/شرطي سيئ” اعتمدت معه، وهو ما أكّدته شهادات سائر الرهائن المفرج عنهم، من خلال وصفهم لتفاصيل التحقيق. وقد وضع كلّ من اعتقل لأكثر من يوم على أجهزة كشف الكذب، وكان السؤال الأساسيّ محاولة معرفة ارتباط هؤلاء الأشخاص بحزب الله. لكنّ المعتقلين المفرج عنهم يحكون بشكل عام عن “كمّ هائل من المعلومات الشخصيّة تجعل المعتقل يشعر أنّه قد تمت تعريته من أيّة خصوصيّة أمام المحقّقين”.
وإن كان التعذيب بلغ ذروته مع شهادة الشاب المعتقل الآنف عرض قصّته، فإنّ 6 شهادات من أشخاص اعتقلوا خلال مسيرات العودة توثّق أنماطًا من التعذيب، تتجاوز ظروف الاعتقال السيئة التي عرضها التحقيق من خلال الشهادات الآنفة الذكر.
وقد استغلّ المحقّقون ما لديهم من معلومات تتعلّق بالرهائن، في شتّى أنواع الابتزاز العاطفي والتهديد. عُرضت على الرهائن خلال اعتقالهم صور لأفراد من أسرهم، مع تهديد بالقدرة إلى الوصول إليهم وتبجّح بإمكانيّة القصف في أي مكان وفي أي زمان يراه الإسرائيليّون مناسبًا. تضمّنت إحدى الشهادات وصفًا لكيفية عرض صورة ابنة على والدها المعتقل، مع توجيه عبارات جنسيّة مسيئة ومهينة للغاية تجاهها.
وفي نوع من التهديد طويل الأمد، أكد محقّقون لرهائن عدم قدرتهم على الهروب من أمام العين الإسرائيليّة حتى بعد الإفراج عنهم: “قالوا لي إنه حتى لو غيّرت مكان سكني ورقم هاتفي، في أيّ مكان في العالم أقول فيه ‘ألو’ سيحدّدون مكاني من خلال بصمة الصوت”. وبدا واضحًا أثر هذه التهديدات على الرهائن المفرج عنهم، وخوفهم المستمرّ “أشعر أنّ الإسرائيليّ بات يعيش معي في المنزل، رغم مرور أسابيع على إطلاق سراحي”.
تعبّر هذه الشهادات عن استراتيجيات معقّدة تهدف إلى إرهاب الضحايا وكسر إرادتهم نفسيًا، حتى بعد إطلاق سراحهم، عبر ممارسات مصمّمة لزرع الخوف المستمر وإشعار المعتقلين وأسرهم بالعجز.
ووفقًا للاتفاقيات جنيف وقواعد القانون الدولي الإنساني، یجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانیة في جمیع الأوقات، ويحظر انتهاك الكرامة الشخصية للأسرى والمعاملة المهينة والمحطّة من قدرهم، ويكون لهم الحق في أن تُحترم أشخاصھم وشرفھم ومعتقداتھم وأن يعاملوا معاملة إنسانية.