ملاحظات وزارة العدل بشأن استقلالية القضاء العدلي: هيمنة “السياسي” والهرمية من دون مواربة

ملاحظات وزارة العدل بشأن استقلالية القضاء العدلي: هيمنة “السياسي” والهرمية من دون مواربة
ائتلاف استقلال القضاء في لبنان

بعد طول تأخير، أرسلت وزارة العدل في تاريخ 15/11/2022 إلى المجلس النيابي ملاحظاتها بشأن اقتراح القانون حول استقلالية القضاء العدلي كما عدلته لجنة الادارة والعدل في 21/12/2021. وفي حين أن الهيئة العامة لمجلس النواب منحت وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري شهرا لإبداء ملاحظاته بتاريخ 21/2/2022، فإنّ هذا الأخير استغرق 7 أشهر لوضعها. هذا فضلاً عن أن وصول هذه الملاحظات إلى المجلس النيابي استغرق شهرين إضافيين بعدما حبسها أمين عام مجلس الوزراء محمود مكيّة لديه فهي أرسلت إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء في تاريخ 22/9/2022. ولم يتمّ الإفراج عن الملاحظات إلا بعدما أصدر “الائتلاف” بيانه الصادر بتاريخ 21/10/2022 بشأن عرقلة الإصلاح القضائي. 

وعند سؤال الوزير خوري عن سبب تأخره عن وضع الملاحظات، برّر ذلك بالتشاور الحاصل مع لجنة البندقية والتي أصدرت رأيها في 27/6/2022. إلا أن تبرير التأخر بانتظار رأي هذه اللجنة لم يمنعه من تجاهل توصياتها في العديد من النقاط المفصلية في الاقتراح من دون أن يكلّف نفسه عناء تفسير الأسباب التي تدفعه إلى ذلك. ويتبدّى من ملاحظاته أن اختلافه مع هذه التوصيات ليس اختلافا حول كيفية ضمان استقلالية القضاء، بل أيضا حول تعريفها والمعايير الواجب الأخذ بها لضمانه. بمعنى أن اختلافه مع هذه التوصيات ليس اختلافا على تفاصيل، بل هو اختلاف جوهري سابق لطلب المشورة ولرأيها على حدّ سواء. وعليه، وفي حين أن هذا الاختلاف منع الوزير من الاستفادة من رأي اللجنة ومن الوقت الذي استغرقته إجراءات طلب المشورة منها، يؤمل أن ينجح النواب الديمقراطيّون في ذلك.     

وللإحاطة بملاحظات وزارة العدل، سنعمد هنا إلى تقييمها تماما وفق الأصول المعتمدة عند تقييم اقتراح لجنة الادارة والعدل، أي على ضوء مدى التزامها بالمعايير الدولية لاستقلال القضاء، مستفيدين من الرأي الصادر عن لجنة البندقية في هذا الشأن.

وعليه نحدد موقفنا تحت العناوين الآتية:

1- مدى استقلالية المجلس الأعلى للقضاء

في هذا المجال، وإذ وافقت وزارة العدل على تكوين المجلس الأعلى للقضاء من عشرة أعضاء 3 منهم حكميين (وهم رئيس محكمة التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي)، فإنها رأت بالمقابل وجوب تخفيض عدد القضاة المنتخبين وحرمان الفئات الشبابية من حق الترشح مع حصر حقهم في المشاركة في العملية الانتخابية والتأثير فيها، كل ذلك خلاف توصيات لجنة البندقية. وبخلاف هذه التوصيات أيضا، لاقت وزارة العدل لجنة الإدارة والعدل في رفض تعيين أعضاء في المجلس من غير القضاة.  

  • كيفية تعيين الأعضاء الحكميين: 

الإصرار على حق وزير العدل بزيادة أسماء إلى قوائم المرشحين

كان الاقتراح الصادر عن لجنة الإدارة والعدل نصّ على أن يعيّن الأعضاء الحكميّون بموجب مراسيم يتخذها مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل، من قوائم تضمّ 3 مرشحين لكلّ مركز يضعها المجلس الأعلى للقضاء (الأسماء المقترحة من الدرجة 16 وما فوق أي ممن يتمتع بأقدمية 30 سنة على الأقل) ترفع إلى مجلس الوزراء بواسطة وزير العدل. وقد نص الاقتراح أنه يكون لهذا الأخير أن يقترح أسماء إضافية شرط موافقة المجلس الأعلى للقضاء. 

أوصت لجنة البندقية بأمور عدة: (1) حسم الترشيحات وفق إجراءات شفافة (التصويت عند إعداد قائمة المرشحين)، و(2) حصر الترشيحات بالمجلس الأعلى للقضاء من دون أن يكون لوزير العدل أي دور في اقتراح أسماء أخرى أو إحالتها إلى مجلس الوزراء و(3) تخفيض الدرجة اللازمة لإشغال هذه المناصب بهدف زيادة عدد المؤهلين للترشح لها و(4) تحديد تبعات رفض مجلس الوزراء تعيين أيّ من القضاة المرشحين، وبخاصة لجهة وضع آلية لتيسير العمل في المجلس الأعلى للقضاء بتركيبة مخفضة كما في الهيئات التي يرأسونها، وذلك بهدف تجريد السلطة التنفيذية من إمكانية التسبب بشلل في سير العمل القضائي. 

إلا أن وزير العدل تجاهل عموما هذه التوصيات مبقيا النص المقترح على حاله، إلا في أمر واحد وهو أنه مكّن المجلس الأعلى للقضاء من حسم الترشيحات المقدّمة منه في حال تخلّفت الحكومة عن القيام بذلك خلال مدّة شهرين. إلا أن الوزير لم يوضح هنا إذا كان خيار المجلس يكون نافذا فور صدوره أم أنه لا يصبح كذلك إلا في حال صدور مرسوم.  

  • عدم تحديد مدّة لولاية الأعضاء الحكميين: 

تعزيز التنظيم الهرمي للمجلس على حساب التشاركية فيه 

فيما حدّد الاقتراح ولاية الأعضاء الحكميين بأربع سنوات، اقترحت وزارة العدل حذف أي تحديد لهذه المدّة. وقد بررت الوزارة ذلك بأن “تحديد ﻣﺪة وﻻﻳﺔ اﻷﻋﻀﺎء الحكميين ﻣﻦ ﺷﺄﻧها ﺧﻠﻖ إﺷﻜﺎﻟﻴﺎت ﺗﺘﻌﻠّﻖ ﺑﺼﻮرة أوﻟﻴﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻬﺎمهم ﻛﻤﺎ وﻗﺪ ﺗُﺴﺒّﺐ ﻓﺮاﻏﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮى الخيارات ﰲ ﺿﻮء درﺟﺎت وﻋﺪد اﻟﻘﻀﺎة”. ومن شأن الأخذ بهذه الملاحظة أن يمنح القضاة الحكميين امتيازا بالنسبة إلى سائر أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذين حدد الاقتراح ولايتهم بثلاث سنوات، وهو امتياز يضاف إلى المكانة التي يتمتعون بها بفعل مناصبهم السامية والصلاحيات الملازمة لها. وبقدر ما تتعزز قدرتهم على فرض سلطتهم داخل المجلس مع ما يستتبع ذلك لجهة تغليب التنظيم الهرمي على التنظيم التشاركي والديمقراطي للمجلس. ومؤدى ذلك هو تعزيز هامش تدخّل السلطة التنفيذية من خلال الأعضاء الحكميين في أعمال المجلس، نظرا لدورها المحوري في تعيين هؤلاء. 

  • القضاة المنتخبين كأعضاء في المجلس: 

حرمان الفئات الشابّة من حق الترشح وحصر حقهم بالانتخاب بانتخاب عضو واحد 

كان اقتراح لجنة الإدارة والعدل حدد عدد القضاة المنتخبين بسبعة ينتمون إلى فئات مختلفة، وإن كان القضاة يشتركون في انتخابهم في هيئة ناخبة موحدة. وقد تكوّنت هذه الفئات على النحو الآتي: (1) رؤساء غرف محكمة التمييز و(2) رؤساء غرف محاكم الاستئناف و(3) رؤساء محاكم الدرجة الأولى و(4) مستشارو غرف محكمة التمييز و(5) مستشارو غرف محاكم الاستئناف و(6) قضاة التحقيق و(7) أخيراً، فئة دُمِجتْ فيها فئتان: فئة القضاة المنفردين والفئة المُقترح استحداثها (وهي فئة قضاة المهمّة والتي تضمّ قضاة ينتدبون لمهامّ في أيّ محكمة من دون أن يكون لهم أيّ مركز محدّد ومن دون أن يشترط الاقتراح حيازتهم لدرجة معيّنة). 

تعليقا على ذلك، وإذ اعتبرت لجنة البندقية أن انتخاب 7 من أعضاء المجلس من القضاة يتماشى مع المعيار المعتمد منها لجهة انتخاب نصف أعضاء المجلس على الأقلّ من قبل القضاة أنفسهم، أوصت بوجوب تعزيز تمثيل الفئات الشابّة والنساء بهدف زيادة التنوّع في تمثيل القضاة وتعزيز الإحساس بالانتماء بشكل أكبر من قبل جميع القضاة، وصولا إلى تعزيز الثقة في القضاء ككل. وكان “ائتلاف استقلال القضاء” انتقد في بيانه حول اقتراح القانون التمييز الحاصل بين رؤساء الغرف والمستشارين فيها، فضلا عن إعطاء القضاة من الدرجات العليا أو القضاة المحظيين حصة الأسد في المراكز المخصصة للأعضاء المنتخبين. 

وعلى نقيض توصية لجنة البندقية ومطالب الائتلاف، رأى وزير العدل وجوب تخفيض عدد المنتخبين إلى 4، فضلا عن تغيير الفئات التي يُنتخب على أساسها القضاة في اتّجاه تعزيز تمثيل كبار القضاة والقضاة المحظيين والتسبّب بمزيد من التهميش للقضاة من الفئات الشبابية. ونستشفّ هذا التوجه من خلال 3 توجهات: (1) حصر حقّ الترشح برؤساء غرف المحاكم المختلفة (محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف ومحاكم الدرجة الأولى) دون سواهم، ومؤدى ذلك منع أي قاضٍ لا يشغل مركزا من هذه المراكز من الترشح علما أنه ليس للقضاة الذين تقلّ  أقدميّتهم عن 16 سنة من إشغال أي من هذه المراكز، (2) منح رؤساء غرف محكمة التمييز حصة الأسد في المراكز الأربعة المقترح تخصيصها للقضاة المنتخبين بحيث يتمّ انتخاب إثنين من بين هؤلاء في حين يتم انتخاب عضو واحد من بين رؤساء غرف محاكم الاستئناف وعضو واحد من بين رؤساء غرف المحاكم الابتدائية. و(3) تقسيم الهيئة الناخبة للقضاة من هيئة موحدة إلى 3 فئات مختلفة، على نحو يؤدي إلى حصر مشاركة القضاة من الفئات الشبابية في انتخاب عضو واحد هو رئيس غرف المحاكم الابتدائية. ومؤدى ذلك هو تعزيز هامش التحكم بنتائج الانتخابات وبخاصة على صعيد محكمة التمييز.       

وبذلك، يكون توجه وزير العدل مناقضا تماما لتوصيات لجنة البندقية ومطالب الائتلاف، طالما أنه يؤدي إلى تهميش الفئات الشابة تماما في انتخابات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، فضلا عن أنه يؤدي إلى تعزيز هامش التحكم بنتائج الانتخابات من خلال حصر الترشح بأصحاب الحظوة من كبار القضاة. 

  • استكمال المجلس الأعلى للقضاء بتَمكين القضاة الحكميّين والمُنتخبين من اختيار 3 أعضاء آخرين من بين القضاة 

إلى ذلك، اقترح وزير العدل انتخاب ﺛﻼﺛﺔ ﻗﻀﺎة آخرين ﻣﻦ بقية اﻟﻘﻀﺎة اﻟﻌﺪليين (من دون تحديد مُواصفاتهم)، ﻣﻦ ﻗﺒﻞ الأعضاء الحكميين والمنتخبين في المجلس  الأعلى للقضاء. 

وفي حين أن فكرة انتخاب أعضاء من القضاة المنتخبين أو الحكميين كانت وردتْ في الاقتراح الأصلي الذي أعدّته المفكرة القانونية من باب ضمان التعددية في المجلس وتاليا تصحيح أي اختلال قد تسفر عنه نتائج الانتخابات، فإنّ مشروعية اللجوء إلى هذه الأداة تبقى وقفا على مشروعية الهيئة الناخبة المكوّنة من الأعضاء الحكميين والمنتخبين، بحيث تتراجع في حال زاد هامش تدخل القوى السياسية في تعيين القضاة الحكميين أو هامش التحكم في نتائج الانتخابات القضائية. 

وعليه، يبدو اقتراح استكمال المجلس الأعلى للقضاء على هذا الوجه بمثابة الخطوة الأخيرة لاستكمال وضع اليد على المجلس الأعلى للقضاء. 

  • رفض ضمّ أعضاء من خارج القضاء إلى المجلس الأعلى  للقضاء

استبعد اقتراح لجنة الإدارة والعدل ضمّ أعضاء من غير القضاة إلى المجلس الأعلى للقضاء. وكانت لجنة البندقية أبدت في رأيها خلافا لذلك أن من شأن حصر عضوية المجلس الأعلى للقضاء بالقضاة أن يؤدّي إلى نقابوية corporatism في إدارة السلطة القضائية. وقد أوصتْ بنتيجة ذلك بالموازنة بين الأعضاء القضاة وأعضاء غير قضاة يمثلون “المستخدمين” الآخرين للنظام القضائي، أو المجتمع المدني الأوسع، مشيرةً إلى تجارب مقارنة عدّة في هذا المضمار. وفي حين كانت “المفكرة القانونية” قد تبنّتْ هذه الفكرة في اقتراحها الأساسي، فإنها آثرت أن يتمّ ذلك من خلال انتخاب محامييْن من نقابتيْ المحامين وأستاذين جامعييْن أحدهما من أساتذة الجامعة الوطنية والآخر من أساتذة الجامعات الخاصة تيمنا بالتجربة الديمقراطية التونسية (ما قبل التعديل الحاصل في 2022).

تجاهلتْ وزارة العدل رأي لجنة البندقية وأبقت اقتراح القانون على حاله لهذه الجهة. 

  • الاستقلالية المالية والإدارية للمجلس الأعلى للقضاء وموارده 

اقترح وزير العدل منح المجلس الاستقلالية الإدارية والمالية والتسيير الذاتي والسلطة التنظيمية في مجال اختصاصه. في المقابل، يُسجل تناقض ما بين هذه المادة التي نصّت على تخصيص بند في الموازنة في الباب العائد للسلطات للمجلس الأعلى للقضاء، والمادة 20 التي تنصّ بدورها على تخصيص موازنة للمجلس الأعلى للقضاء ضمن موازنة وزارة العدل، يقترحها المجلس على الوزير وفقا لحاجاته.

2- التشكيلات القضائية تحت رقابة السلطة السياسية 

نص اقتراح لجنة الإدارة والعدل على ضوابط عدة عند إعداد مشاريع التشكيلات القضائية، مثل تكريس مبدأي عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه وعدم التمييز ووضع آليات للترشح للمراكز القضائية وآليات لضمان الكفاءة فضلا عن المداورة. لكنه بالغ في وضع شروط للترشح للمراكز القضائية على نحو يؤدي عمليا إلى تضييق حق الترشح لها ويعيد للمجلس الأعلى للقضاء هامشا واسعا في تجاوز الضمانات التي نص عليها الاقتراح بحجة عدم وجود عدد كاف من المرشحين. وإذ استبقى شرط التباحث مع وزير العدل بشأن التشكيلات القضائية، فإنه مكّن المجلس الأعلى للقضاء من حسم أي خلاف مع هذا الأخير بغالبية 7 من أعضائه. وإذ استبقى شرط إصدار مشروع التشكيلات القضائية بمرسوم، فإنه نص على نفاذه حكما في حال عدم صدور المرسوم خلال شهر من إيداعه لدى ديوان وزارة العدل.  

وبمراجعة ملاحظات وزير العدل، يلحظ هنا أيضا أنه عمد إلى تشذيب المبادئ والضمانات المعتمدة في الاقتراح، بما يضيق من الضمانات القضائية ومن قدرة المجلس الأعلى للقضاء على إجراء التشكيلات القضائية بصورة مستقلة عن السلطة السياسية. وقد أتت العديد من ملاحظاته متعارضة مع رأي لجنة البندقية أيضا.   

بالمقابل، يسجل للوزير اعتراضه على إنشاء فئة جديدة من القضاة (قضاة المهمة) وعلى المبالغة في المعايير المقيدة للتعيينات القضائية. 

وهذا ما سنفصّله أدناه. 

  • الإبقاء على غالبية مشددة لتجاوز فيتوات وزير العدل 

حافظ اقتراح وزارة العدل على ما نصّ عليه اقتراح لجنة الإدارة والعدل بما يتصل بكيفية إقرار مشروع التشكيلات من قبل المجلس الأعلى للقضاء، بحيث جاء أنه في حال الخلاف في وجهات النظر بين المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل، يحسم المجلس المشروع بأكثرية 7/10 “على أن يتم التصويت على كل مركز بمفرده”. 

وكانت لجنة البندقية قد اعترضت على اعتماد غالبية السبعة أعضاء، بعدما أشارت إلى “أنه لا يمكن استبعاد فرضية أن يكون للوزير نفوذ كافٍ داخل المجلس الأعلى للقضاء، بصيغته القائمة، لمنع التصويت لصالح رفض حقه في النقض (الفيتو)”. وقد وصلت إلى هذه النتيجة بعدما ذكرت أن القضاة الحكميين الثلاثة ستكون  لديهم علاقات قوية مع السلطة التنفيذية وأنه يكفي أن يكون أحد القضاة المنتخبين السبعة متحيزا لوزارة العدل ليبرز خطر حدوث عرقلة سياسية للتعيينات القضائية. عليه، أوصت لجنة البندقية بالنظر في تخفيض الأغلبية المطلوبة لرفض حق الفيتو للوزير، الذي يجب أن يكون ممكناً بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (المشكل حديثاً).

  • شروط شبه تعجيزية لتجاوز الفيتوات السياسية

كرس اقتراح لجنة الادارة والعدل إمكانية تجاوز ممانعة وزير العدل أو غيره من السلطة التنفيذية إصدار مرسوم التشكيلات القضائية عبر النصّ بأن مشروع التشكيلات يعدّ نافذا ويبدأ العمل بموجبه إذا لم يصدر بمرسوم في خلال فترة شهر من تاريخ وروده إلى ديوان وزارة العدل. 

وقد دققت لجنة البندقية في اشتراط صدور مرسوم، وبخاصة على ضوء ما أثارته وزارة العدل من اعتبارات بالاستناد إلى المادة 56 من الدستور (الخاصة بصلاحية رئيس الجمهورية في إصدار المراسيم). وبعدما سجلت لجنة البندقية أنها لا تلحظ تناقضا مباشرا بين اقتراح لجنة الإدارة والعدل والمادة المذكورة، وضعت أن من شأن إدخال مادة دستورية جديدة تمنح المجلس الأعلى للقضاء صلاحيات في هذه المجالات، بدون الحاجة إلى مصادقة بمراسيم حكومية، إزالة هذا الالتباس. وهذا أيضا ما كان ائتلاف استقلال القضاء أكّد عليه في بيانه الصادر بتاريخ 10/10/2022. ولهو مستغرب أن يستند وزير العدل على صلاحيات رئيس الجمهورية، في حين أن كلا من الأشخاص الذين يقتضي توقيعهم على المرسوم عمدوا في العقدين الأخيرين إلى اعتباره بمثابة حق فيتو معطى لهم. وهذا ما أكدت الظروف السياسية السائدة على أهميته، حيث ما يزال مرسوم تعيين رؤساء غرف محكمة التمييز محل فتوات من السلطة السياسية، وتحديدا من أحد الوزراء المولجين التوقيع عليه (وزير المالية يوسف الخليل)، منذ نيسان الماضي.   

وعليه، وبدل أن تخفّف وزارة العدل من العوائق السياسية الممكنة أمام إصدار التشكيلات القضائية، رأت وجوب تعديله في اتجاه يزيد منها. فبعدما أصرّت على أن الدستور (المادة 56) يفرض إصدار التشكيلات بمرسوم وعلى أن أي تجاوز لضرورة صدور مرسوم يؤول إلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المكرسة في هذه المادة، عاد ليوافق على إمكانية تجاوز المرسوم إنما بشروط أكثر تشددا من الشروط المقترحة من لجنة الإدارة والعدل بل شبه تعجيزية. فمن جهة أولى، مدّد وزير العدل المهلة الممنوحة للسلطة السياسية لإصدار المرسوم تحت طائلة اعتباره نافذا من شهر إلى ثلاثة، ومن جهة ثانية، مكّن المجلس الأعلى للقضاء من تجاوز الفيتو السياسي على إصدار مشروع التشكيلات بعد انقضاء مهلة ثلاثة أشهر بأغلبية  ثمانية من أعضائه. وهو شرط شبه تعجيزي طالما أنه قد يكون ثمة استحالة في توفير غالبية كهذه من دون موافقة السلطة التنفيذية. وينطبق هنا تخوف لجنة البندقية حيال اشتراط أكثرية 7 أعضاء لتجاوز الخلاف مع وزير العدل من باب أولى. 

وعليه، يتبدّى أن المسألة التي تقلق الوزارة ليست مسألة دستورية تتصل بضرورة إصدار مرسوم طالما أنها وافقت على جواز تجاوز المرسوم، بل مسألة سياسية قوامها التوجس من تخلي السلطة السياسية عن سلطة تعطيل التشكيلات بدليل وضع شرط تعجيزي لحصول ذلك. 

  • نسف مبدأ الترشح 

كرّس اقتراح لجنة الإدارة والعدل مبدأ ترشح القضاة للمراكز القضائية، وإن وضع شروطا تعجيزية تؤدي عمليا إلى نسف هذا الحق. وكانت لجنة البندقية توسّعت في إبراز أهمية منح القضاة حقّ الترشح ووضع آليات للمفاضلة بين المرشحين بشفافية من دون تمييز ومع التقيد بمبدأ التخصص والكفاءة استناد للمادة 95. وقد اعتبرت أن إرساء هذه الآليات شرط لتحقيق الطموح الدستوري بتجاوز الطائفية من دون الإخلال بالتماسك الاجتماعي والسلم الأهلي.

إلا أنه وبخلاف هذه التوصيات، جاء اقتراح وزارة العدل ليزيد الطين بلّة بالمطالبة بحذف  المادة 80 المتعلّقة بآلية الترشح، والمواد 82،83 و84 المتعلّقة بمعايير ودرجات وشروط اختيار القضاة بحجّة أنّ “مسألة ربط التشكيلات بالترشح للمركز من شأنه تعقيدها أكثر وربط حرية المجلس الأعلى للقضاء وفق المعايير التي يضعها.”

  • نسف مبدأ عدم التمييز والمساواة في التشكيلات

التراجع الأخطر في اقتراح وزير العدل هنري خوري يرتكز في هذه النقطة. فبعدما طلب حذف المادة 80 من اقتراح لجنة الادارة والعدل المتعلّقة بآليات الترشيح والمعنونة “الشفافية والوجاهية والمساواة”، عاد وزير العدل وطلب حذف المادة 86 من اقتراح لجنة الإدارة والعدل والتي تنصّ “على حظر إجراء أيّ تمييز من أي نوع في التشكيلات القضائية، ولا سيما التمييز على أساس العنصر أو الجنس أو الدين أو المذهب” بحجة أن لا داعٍ لهذا النص بحسب ما ورد حرفيّاً في ملاحظاتها.

وقد بدا الوزير خوري بذلك وكأنه يتجاهل الانتقادات الموجهة إلى تطييف المراكز القضائية، خلافا للمادة 95 من الدستور، وفق ما ذكرت به لجنة البندقية في متن رأيها أيضا. 

  • نسف مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه

كرّس اقتراح لجنة الإدارة والعدل هذا المبدأ (وهو أحد أهم المعايير الدولية لاستقلالية القضاء)، وإن عاد لينسفه أو يحدّ من مدى تطبيقه بشكل محسوس في موادّ أخرى منها بحيث يطبق هذا المبدأ “خارج التشكيلات القضائية” بما يجرّد القضاة من أي ضمانة عند وضعها. 

وبدل تصحيح هذا الواقع، طلبت وزارة العدل حذف أي إشارة إلى مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه واستبدال المادة 78 بمادة جديدة فحواها: “لا يمكن تعيين القضاة أو نقلهم أو تقييمهم أو تأديبهم أو فصلهم عن القضاء إلا وفقا لأحكام هذا القانون.”

وتبعا لذلك، يكون في حال الأخذ بملاحظات وزير العدل بالإمكان نقل القاضي من دون رضاه بموجب مشروع التشكيلات القضائية، بما يتعارض مع أحد أهم المعايير الدولية لاستقلالية القضاء.

بالمقابل، يسجل لوزير العدل أنه طلب حذف  بعض الشروط المبالغ بها والمقيدة لحق الترشح والتي لا تتصل بأي معيار من معايير استقلالية القضاء، وأهمها موجب تنقل القاضي على محافظات عدة وموجب البقاء في المركز القضائي نفسه لمدة من الوقت (حبس القاضي في مركزه) فضلا عن تعميم مبدأ المداورة.   

كما يسجل لوزير العدل المطالبة بحذف  فئة قضاة المهمة المنصوص عليها في اقتراح لجنة الإدارة والعدل، علماً أن قاضي المهمة هو قاضٍ لا يُعيّن في مركز محدّد بل يكون من الممكن انتدابه لأيّ وظيفة  عند الحاجة. وقد أعرب الائتلاف سابقاً عن مخاوف من استخدام قضاة هذه الفئة لخدمة مصالح القوى النافذة في القضايا التي تهمها، وذلك من خلال تنصيبهم في هيئات تعاني من شواغر وهيئات يتنحى أو يُنحَّى أعضاء منها. 

3- عدم الاعتراف بالمساواة بين القضاة وإبقاء أبواب الإغراء والمحاباة مفتوحة

كما سبق بيانه، اقترح الوزير حذف مبدأ عدم التمييز بين القضاة، فضلا عن حصر الترشح على عضوية المجلس الأعلى للقضاء برؤساء الغرف في تمييز واضح ضد الفئات العمرية الشبابية. كما أن وزير العدل اقترح نقل صلاحية الترخيص بالتدريس من المجلس الأعلى للقضاء إليه، من دون أي ضوابط تتصل بنتائج تقييم القضاة طالبي الترخيص. كما طالب من دون مبرر حذف أي ضوابط لتعيين القضاة في لجان قضائية مقابل بدل، وأيضا حذف حظر التحكيم.  

وكانت لجنة البندقية اعتبرتْ أن من شأن فتح باب التعيين باللجان أو الانتداب للعمل في إدارات عامة أن تغري القضاة بالانتقال للعمل داخل هياكل السلطة التنفيذية، مما يؤثر سلباً على استقلال القضاء. وأنه من الضروري صياغة شروط لمثل هذه التعيينات بالإعارة، وتحديد مدتها ووتيرتها والشروط الواجب توفرها لدى القاضي المعنيّ فضلاً عن المزايا المرتبطة بها. وعليه، يتعارض الطلب بحذف الضوابط على التعيين في اللجان مع هذه التوصية ومع ما عبّر عنه الائتلاف لجهة أن فتح الباب أمام هذه التعيينات والانتدابات إنما يمسّ بمبدأيْ الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاة ويشكل حالة تضارب مصالح فاقعة، فضلا عن أنه يشرّع الإجراءات التمييزية بين القضاة خلافاً لمبدأ المساواة فيما بينهم.

4- عدم الاعتراف بالضمانات الذاتية للقضاة

انتقد ائتلاف استقلال القضاء اقتراح القانون كما عدلته لجنة الإدارة والعدل لكونه جافى العديد من الضمانات الضمانات الأساسية المكرسة دوليّا للقضاة. وقد لفتت لجنة البندقية من جهتها إلى عدم كفاية الاقتراح لهذه الجهة مبدية عددا من التوصيات بهدف تصويبه. وبدل أن يأخذ وزير العدل بهذه التوصيات، ذهب في اتجاه معاكس في اتجاه المطالبة بنسف بعض هذه الضمانات بصورة كاملة. 

ومن أهم الملاحظات التي أمكن إبداؤها هنا، الآتية:

  • إن الوزير كما لجنة الإدارة والعدل لم يضعا أي قواعد ضامنة للاستقلالية المالية أو للحقوق الأساسية للقضاة (صحة، تعليم، سكن وإلخ)، مما يشكل أمرا خطيرا وبخاصة في ظلّ انهيار قيمة الراتب بشكل كامل،
  • إن الوزير نسف مبدأ عدم جواز نقل القضاة إلا برضاه، أحد أهم معايير استقلال القضاء، بعدما كانت لجنة الإدارة والعدل أعلنت المبدأ لتسارع إلى تبرير تجاوزه،  
  • إنه طالب بحذف المادة 91 من الاقتراح المتعلّقة بضمان حرية القضاة في إنشاء جمعيات والتي تشكل ضمانة لاستقلاليّتهم، بحجة أن الدستور يكفي لضمان هذه الحرية. وقد تجاهل هنا أيضا وزير العدل ملاحظات لجنة البندقية في هذا الشأن، 

هذا فضلا عن أنه ‘طالب بحذف إمكانية تقديم مطالب وشكاوى جماعية. 

  • إنه أثنى على اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة تمكين المجلس الأعلى للقضاء من عزل قاض (من خلال إعلان عدم أهليته) من دون تعريف عدم الأهلية ومن دون تمكين القاضي من الدفاع عن نفسه، فضلا عن أنه أعطى صلاحية إضافية لوزير العدل بتوقيف القاضي عن العمل لحين صدور قرار المجلس (تعديل المادة 104 اقتراح وزارة العدل). وكان الائتلاف تحفّظ حيال هذا الأمر على خلفيّة أنّه “لم يتمّ تعريف عدم الأهلية”، منعاً لاستخدام صلاحية إعلان عدم الأهلية كإجراء تأديبي موازٍ، مشيرًا إلى أنه كان يجب حصر هذا الإعلان بتوفّر حالات العجز الصحيّ أو النفسيّ دون سواه. وإذ أثنتْ لجنة البندقية على ضرورة تعريف “عدم الأهليّة” والمعايير التي تُقاس على أساسها، وشدّدت على أن حالة عدم الأهليّة يجب أن تنحصر في الحالات التي يظهر فيها القاضي نقصا فادحا في المهنيّة من دون أن يرشح عنها أيّ سبب للمؤاخذة التأديبيّة. كما شدّدت على عدم جواز استخدام هذه الآلية في حالات الخطأ غير المقصود أو الأخطاء العرضيّة الحاصلة في تفسير القانون أو الوقائع، مؤكّدة ضرورة أن يتمتّع القاضي بهامش معيّن في تفسير القانون والوقائع. في النهاية، أوصتْ اللجنة باعتماد مبدأ التّناسب بين النقص في الأهليّة المعزوة للقاضي والتدبير المتّخذ بحقّه، بحيث لا يكون العزل مُناسبا كلما كان بالإمكان إيجاد حلول مناسبة للنقص في الأهلية، كأن يخضع القاضي مثلا لتدريب معين.
  • إنه أثنى على اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة ترك القاضي عرضة لملاحقة تأديبية على أساس نصوص مطّاطة خلافاً لمبدأ شرعية العقوبة وإن طلب إضافة نص صريح بتكريس مبدأ  تناسب العقوبة مع خطورة الخطأ المرتكب عملا بتوصيات لجنة البندقية.
  • إنه أثنى على اقتراح لجنة الإدارة والعدل الذي لا يقرّ للقضاة في القضايا التأديبية ضمانة المحاكمة العادلة باللجوء إلى محاكمة على درجتين، بصورة تخالف صراحة القرار الدستوري رقم 5/2000 الذي اعتبر حق الدفاع شرطا من شروط الاستقلالية.
  • إنه اقترح إضافة مادة مفادها: “تكون قرارات المجلس الأعلى للقضاء غير قابلة بأي طريقة من الطرق المراجعة أو الطعن بما فيها تجاوز حد السلطة”. وعليه، طالب وزير العدل بحذف حق القضاة بالطعن بالقرارات الفردية وغير التنظيمية الصادرة عن المجلس والمضرة بهم (م.21). وقد برر موقفه ب “إن دور وصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء في إطاره التنظيمي للسلطة القضائية لا يقبل مراجعةً ومراقبة من قبل هيئة قضائية كالهيئة العامة لمحكمة التمييز مهما علت درجتها لا سيما وأنه هو من يقوم بتعيينها في إطار التشكيلات التي يضعها، أما بالنسبة للقرارات الفردية وغير التنظيمية فإن حالاتها المحددة والمحصورة ترد تباعاً في القانون مع معالجة لكل حالة منها وفقاً لطبيعة القرار على المستوى القانوني.” وقد جاء موقف الوزارة في هذا الخصوص مناقضا لرأي لجنة البندقية والائتلاف، حيث ورد في البند 92 منه أنه لا بد من وجود سبيل قانوني للطعن بالقرارات التي تبدو تعسفية بشكل واضح أو تتسم بعيوب إجرائية جديّة.
  • إنه طلب حذف المادة 76 المتعلّقة بإنشاء ملف خاص لكل قاض فور تعيينه. وهذا أمر ينسف الخطوة الأولى اللازمة لإرساء نظام التعيينات على أساس الكفاءة،  

5- نسف الشفافية 

يشكل تعزيز شفافية القضاء جانبا من جوانب الإصلاح القضائي، إلى جانب تعزيز استقلاليته. فالشفافيّة هي الضمانة الأهم لنفاذ القانون واحترام مجمل الضمانات الواردة فيه. 

لكن هنا أيضا، صبت ملاحظات وزير العدل في تضييق الشفافية داخل المحاكم، وفق ما نبينه أدناه:  

  • طالب بحذف الموجب المفروض على المجلس الأعلى للقضاء بوضع تقرير سنوي عن أعماله وأعمال القضاء (حذف  المادة 13)، علما أن هذا الأمر يتعارض مع قانون الوصول للمعلومات، 
  • طالب بحذف موجب نشر النظام الداخلي للمجلس الأعلى للقضاء (تعديل المادة 16)
  • طالب بحذف موجب نشر جدول أعمال المجلس الأعلى للقضاء (تعديل المادة 17)
  • طالب بحذف موجب نشر جدول الأعمال وإشراك القضاة في مقررات المجلس ( حذف المادة 14)
  • شدّد على سريّة  المداولات بين أعضاء المجلس دون أي استثناء (تعديل المادة 18)
  • طالب بحذف موجب نشر التقرير السنوي الذي تضعه النيابة العامة التمييزية الخاص بأعمال النيابات العامة (تعديل المادة 43)
  • طالب بحذف المادة 80 المتعلّقة بالشفافية والوجاهية والمساواة في التشكيلات،
  • طالب بحذف المادة 98 المعلّقة بنشر القرارات التأديبية بحجّة أن “مبدأ النشر برمته يتعارض مع موجب الحفاظ على السرية المرتبط بالملاحقات التأديبية القضائية حفاظاً على موقعية الجسم القضائي والسلطة القضائية والدور المناط به.”
  • طالب بحذف جميع المواد التي توجب على الهيئات القضائية نشر تقارير سنوية وجزء من قراراتها(هيئة التفتيش والتقييم القضائي) والمحاكم، 
  • أغفل توصية لجنة البندقيّة لجهة وجوب إلزام المجلس الأعلى للقضاء بتعليل قرارات النقل والترقيات (بند 88).  

6- استقلاليّة الهيئات القضائيّة: هيئتي التفتيش والتقييم القضائيين

كان المُرتجى من اقتراح استقلال القضاء أن يُحقّق استقلال الهيئات القضائيّة كافة، وذلك بهدف الحدّ من التأثيرات السياسية. إلا أن لجنة الإدارة والعدل عمدت إلى منح السلطة السياسية أحقيّة التفرد في تعيين أعضاء هيئتيْ التفتيش والتقييم القضائيين، الأمر الذي انتقده ائتلاف استقلال القضاء معتبرا إياه سلاحا جديدا في يد السلطة التنفيذية، يخشى أن يبطل المفاعيل الإيجابية التي قد تنشأ عن تغيير طريقة تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء. في الاتجاه نفسه، نبهت لجنة البندقية من مخاطر تفرّد السلطة السياسية في هذه التعيينات داعية إلى تمكين المجلس الأعلى للقضاء من المشاركة فيها (بند 106). وهنا أيضا، وبدل أن يصحّح وزير العدل اقتراح القانون في اتجاه الحدّ من التفرّد، أتت ملاحظاته مخيبة وفق ما نبينه أدناه: 

  • هيئة التفتيش القضائي 

أول الملاحظات في هذا الخصوص تمثّل في تمكين وزير العدل إضافة أسماء مرشّحين إلى قائمة المرشّحين المنظمة من المجلس الأعلى للقضاء، كما سبق بيانه وخلافا لما أوصت به لجنة البندقية. أما بخصوص أعضاء هيئة التفتيش القضائي، فقد أثنى وزير العدل على اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة تفرد السلطة التنفيذية في تعيينهم خلافا لما ذهبت إليه لجنة البندقية. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أن التفتيش القضائي يتخّذ قراراته بشكل جماعي، مما يزيد من هامش تدخل السلطة السياسية فيها حسبما ألمحت إليه توصيات لجنة البندقية. 

يلحظ على الهامش ورود إيجابية في اقتراحات الوزير، قوامها إعطاء هيئة التفتيش صلاحية رفع السرية المصرفية من دون أن يتعين عليها المرور بالنائب العام التمييزي (كما جاء في اقتراح لجنة الإدارة والعدل)، لا سيما وأن قرار رفع السرية متخذ من مجلس الهيئة وقد تؤدي إحالته لجهة أخرى إلى عرقلة التحقيق أمام الهيئة. (م.139)

  • هيئة التقييم

لئن رأى وزير العدل أن التقييم يدخل ضمن صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء مما يوجب منحه الدور الرئيسي فيها وضمنا في تعيين أعضائها، فإنه لم ينشئها بالقانون تاركا للمجلس تقدير مدى ملاءمة إنشائه وتوقيته كما لم يحط عملية التقييم بأي ضمانات لحماية القاضي موضوع التقييم. وكانت لجنة البندقية أكدت على أهمية وضع آليات للتقييم، وهي آليات ضرورية لضمان انتظام العمل القضائي وحصول التعيينات وفق الكفاءة والتخصص.  

7- الفشل في تحقيق المساواة في الدخول إلى معهد الدروس القضائية

يجدر الذكر أن لجنة البندقيّة لم تتناول هذا الموضوع، موضحة أنّ عدم إبداء ملاحظات بشأن بعض المسائل لا يعني بالضرورة أنها توافق على ملاءمتها لمعايير استقلال القضاء أو لا ترى إشكالا فيها. وكان ائتلاف استقلال القضاء قد انتقد اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة استعادة الممارسات الإقصائية والتي تقوم على استبعاد مرشّحين لدخول معهد الدروس القضائية بقرارات غير مبنية على أيّة معايير موضوعية ومن دون أن يكون لهؤلاء أيّ حقّ بالطعن فيها. وقد تمّ ذلك من خلال وضع شرط إضافيّ للترشّح للدّخول إلى معهد الدروس القضائية، وهو أن يكون المرشّح قد نجح في سنة تحضيرية، علما أن قبول الطلبات للاشتراك في السنة التحضيرية هو أيضا يخضع لقرار استنسابي تتخذه اللجنة الفاحصة المعيّنة من مجلس إدارة معهد الدروس القضائية بعد إجراء مقابلة شفهية معهم. كما يكون للمجلس الأعلى للقضاء قرار استبعاد أيّ مرشح لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية بناء على مقابلة شفهية أخرى. ومن شأن هذه الآليات أن تؤدي عمليا إلى التمييز ضدّ المرشّحين. وأخطر ما كان تقدّم في اقتراح اللّجنة، وبمقابل تمديد مهلة دخول القضاء من خلال المعهد إلى ما يقارب 4 سنوات (بعد إضافة السنة التمهيدية)، هو فتح طريق سريعة أمام تعيين قضاة أصيلين من بين محامين ومساعدين قضائيين وذلك بموجب مباراة، ومن دون وضع ضوابط لانتقائهم (ولا حتى المقابلة الشفهية) سوى تمتّعهم بأقدميّة 10 سنوات. وما يزيد من خطورة الأمر هو عدم وضع حدّ أقصى لعدد القضاة الذين جاز توظيفهم بهذه الطريقة. ويُخشى أن يُؤدي هذا الأمر إلى إدخال عشرات القضاة الجدد من المحسوبين على الفئات السياسية بما يعوّض عن الاستقالات الحاصلة داخل القضاء حاليا. 

وفيما كان ينتظر من وزارة العدل معالجة الإخفاق الحاصل في اقتراح لجنة الإدارة والعدل، فإنها قررت اعتماد حلّ سريع ألا وهو العودة إلى النصّ الحالي بحسب ما جاء في ملاحظاتها “الإبقاء على مضمون المواد 54 إلى 76 من المرسوم الاشتراعي رقم 83/150”. أي أنه عاد ليجيز الممارسات الإقصائية للدخول إلى المعهد. بالمقابل، لم يضع كوتا لدخول محامين من خارج معهد الدروس القضائية إلى القضاء.

8- الفشل في تحقيق استقلالية النيابة العامة

ضمنت الإدارة والعدل اقتراحها مادة هامة لضمان استقلالية النيابة العامة. ولئن أكدت على ترؤس النائب العام التمييزي للنيابات العامة، فإنها وضعت ضوابط للحؤول دون التعسف في ممارسة سلطته في هذا الخصوص. حيث أوجبت عليه توجيه تعليماته لأي عضو في النيابة العامة من خلال رئيسه التسلسلي، وأن تكون هذه التعليمات ملزمة لقضاة النيابة العامة جميعهم شرط أن تكون خطية وقانونية ومعللة وأن تودع نسخة عنها في ملف القضية. 

ورغم أهمية هذه المواد لجهة إيجاد ضوابط في أداء النيابة العامة، فإن وزارة العدل عادت لتطالب بإبقاء صلاحيات النائب العام التمييزي كما هي عليه في أصول المحاكمات الجزائية، لجهة منح النائب العام التمييزي صلاحية توجيه تعليمات شفهية وخطية، من دون حتى فرض أن تكون قانونية أو معللة.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، إقتراح قانون ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني