ننشر هنا مقالة للمحامي د. باسكال ضاهر بشأن قضية كان لها أثر كبير في الفضاء العام قبل قرابة 10 أيام وهي قضية الحجز على موجودات مصرف فرنسبنك بقرار قضائي لصالح أحد المودعين السابقين لديه، وهو القرار الأوّل من نوعه. فبدل أن يسارع المصرف إلى تنفيذ القرار القضائي، أعلن عن إغلاق مركزه وفروعه بما يشكّل تهويلاً على المودعين لديه وتعطيلاً لخدماته، ومنها خدمات عامّة كتسديد رواتب الموظفين.
كما سارعت جمعية المصارف إلى ملاقاة فرنسبنك من خلال إعلان إضراب أسمته تحذيرياً في يومي 21 و22 آذار الفائتين. ولم يقتصر الأمر على المصارف بل تدخّلت السلطات السياسية من خلال مسارين: مسار حكومي تمثل في دعوة الحكومة في 19 آذار للنظر في الخلل القضائي، ومسار تشريعي تمثل في المساعي الجارية على قدم وساق لوضع قانون معجّل مكرّر لفرض قيود على المودعين. في اليوم الثاني من إضراب المصارف، اتخذت محكمة استئناف بيروت قرارها بوقف المعاملة التنفيذية بوجه فرنسبنك، وهو القرار الذي تتناوله بشكل خاص هذه المقالة (المحرّر).
تقدم المودع عيّاد إبراهيم من مصرف فرنسبنك بأمر تحويل مبلغ صغير من وديعته لأجل إرسال تكلفة علاج أخيه المصاب بالسرطان، فرفض البنك. عندها أقدم المودع على تنفيذ إضراب عن الطعام أمام المصرف. وبعد أيام، وعده المدير بتمرير مبلغ صغير له كي يتمكّن من شراء العلاج اللازم، فقبل المودع وعاد أدراجه، ليفاجأ بعد أيام قليلة بإقفال حسابه وحساب زوجته (التي لم تطالب أصلاً بوديعتها) وإيداع شيكين مصرفيين مسحوبين على مصرف لبنان لدى الكاتب العدل. راجع المودع المصرف بهدف قبض الشيك فجوبه بالرفض. عاد وانتقل إلى مصرف لبنان لإتمام الأمر ولم يفلح لأنّ المصرف المركزي غير مخول فتح حسابات شخصية للعموم. انتقل إلى عدد من المصارف لتمكينه من قيد الشيك في حسابه فجوبه بالرفض. وأمام ذلك، قصد دائرة التنفيذ في بيروت طالبا منها التفضل وتنفيذ الشيك بصفته سندا تنفيذياً. سجل الملف لدى القاضي مريانا عناني التي وجهت للمصرف طلب تنفيذ اختيارياً عبر عرض الشيك عليه للقيام بفتح حساب وتسديد الشيك وتسليمه للمودع نقداً. تبلّغ المصرف القرار من دون أن ينفذه وبادر إلى الاعتراض أمام القاضية المدنية رولا عبدالله التي أصدرت قرارا بعد مضي شهرين تقريباً بردّ طلب وقف التنفيذ.
تبعا لذلك، عاد الملفّ إلى القاضية عناني التي قررت السير بالمعاملة التنفيذية وفقا للأصول واتخذت قراراً -بناء على طلب المنفذ- بالحجز على موجودات فرنسبنك في فروع عدة، على أن التنفيذ الفعلي اقتصر على فرعين إثنين، وكلفت مأمور التنفيذ الانتقال لإنفاذ الحجز ومن ضمن الموجودات حجز الخزنة الحديدية للمصرف دون الصناديق المتصلة بالنقدي اليومي وال atm والخزانات الخاصة بأموال المودعين.
وبالفعل انتقل مأمور التنفيذ. وبعد إفهام مدير الفرع المهمة المطلوب تنفيذها وهي في الأساس الاستحصال على مبلغ الوديعة، قرر مدير الفرع التسديد النقدي. وإذ باشر بذلك، حضرت الوكيلة القانونية في إدارة المصرف وطلبت إقفال ال atm وإخراج المودعين منه معلمةً إياهم أنّ الصناديق مقفلة ومختومة، وأنّ ثمة قرارًا بالحجز يطال جميع الفروع. ولهذا السبب سوف يتم اقفال الفروع والامتناع عن دفع رواتب ومستحقات الناس، علما أن التنفيذ لم يقع على أيّ صندوق يتصل بالنقدي كما صرح بذلك مدير الفرع على المحضر التنفيذي ولا بخزنات المودعين.
بعدها، وإذ استأنف المصرف قرار الرئيسة رولا عبد الله، أصدرت محكمة استئناف بيروت (غرفة القاضي حبيب رزق الله) قرارا بتاريخ 22/3/2022 بقبول طلب المصرف بوقف التنفيذ، وهو القرار الذي نسعى أدناه للتعليق عليه .
الملاحظة الأولى: مسألة وجوب صرف الشيك خلال 8 أيام
اعتبرت المحكمة أن الشيك الذي لم يعرض على المسحوب عليه خلال فترة ثمانية أيام يصبح فاقداً لقوته الصرفية. وهذا ما جعل المودعين في حالة ذعر وعدم يقين ناتجة عن أن المصارف تتعسف باستعمال الحق تجاه كل مودع يطالبها بتسديد وديعته وتعمل فوراً على إقفال حسابه وتسليمه إياه بموجب شيك مصرفي. وبالمقابل، تمتنع عن إعادة فتح الحساب أو استلام الشيك، وبالتالي يصبح إثبات تحقق العرض على المصرف أمرًا مستحيلا، الامر الذي يعرّض حقوقهم للضياع، دون إغفال مسألة أن عرض الشيك يتمّ عادة على المصرف التجاري وليس على مصرف لبنان مباشرة، كون الأول هو الذي يتولى إجراء المقاصة مع الاخير؛ بحيث يصبح التمسّك بحرفية نص وجوب أن يحصل العرض على المسحوب عليه (أي مصرف لبنان) لا على الساحب (أي المصرف التجاري) أمراً مجافياً للمنطق.
وفي ذات السياق، أغفل القرار عن بيان أن الشيك المصرفي لا يقبل السداد إلا بالحساب وغض طرفه عن الاستناد إلى أن المصارف تعمل على إقفال الحسابات الجارية مما يجعل من تسديد هذا الشيك أمرا مستحيلا ويشكل مانعاً يحول دون اتمام حالة العرض. وهذا ما لم تحطه المحكمة بالعناية والدراية بالرغم من أنّ المودع قد بيّن للمحكمة أنه انتقل مرّات عدّة إلى المصرف لعرض الشيك وكان يجابه بالطرد. وهذا التصرف من قبل المصرف يشكل بحد ذاته خروجاً منه على الأحكام القانونية التي جعلت الشيك وسيلة ايفاء وليس ائتمان وفرضت على المصرف استقبال العرض غبّ التقدم منه من حامل الشيك، ناهيك عن أن اتباع المصارف لهذا الاسلوب يشكل أيضاً خروجاً عن الأعراف المصرفية كافة كما وعن الاتفاقية الدولية للشيك. وبالتالي وبدلا من فرض ما يصحح الاعوجاج المساق تعسفا من قبل المصارف، أتى القرار ليسبغ المشروعية على تصرفاتها لا بل لمكافأتها على سلوكها هذا بتحريرها من امكانية ملاحقتها مباشرة عبر دوائر التنفيذ، وإكسابها سنوات ريثما يستحصل المودع على حكمٍ من محكمة الأساس يثبت حقّه، الذي كان ثابتاً اصلاً بموجب دفتر التوفير، وأنهاه تعسفاً المصرف بشيك لم يقبل عرضه عليه، فأفقده قوته التنفيذية بإرادته، ما يطرح المبدأ القانوني المعروف “لا يجوز أن يستفيد أحد من مخالفته للأحكام القانونية”.
الملاحظة الثانية: مسألة الخلط بين القوة الصرفية والقوة التنفيذية للشيك
خلط القرار بين مفهوم القوة الصرفية والقوة التنفيذية للشيك، فلو سلّمنا جدلاً ان الشيك فقد قوته الصرفية -وهو ما لا نسلّم به وفق ما جاء أعلاه- فإن ذلك لا يفقده قوّته التنفيذية،فالمادة الرقم 10 من التعميم الصادر عن مصرف لبنان تحت الرقم 20 الصادر بموجب القرار الأساسي الرقم 6060 تاريخ : 25/11/1995 تفرض في فقرته ألف على المصارف*”حجز مبلغ يعادل قيمة الشيك المرتجع لدى المصرف المعني لفترة مرور الزمن على المصرف المسحوب عليه الشيك المحددة بثلاث سنوات تبتدئ من تاريخ نهاية مهلة العرض المحددة بثمانية ايام من تاريخ الاصدار”*. وهذا ما يفيد أن الشيك حال عدم عرضه خلال فترة الثمانية أيام يبقى محتفظاً بقوته التنفيذية لمدة ثلاث سنوات. ولذلك فرض مصرف لبنان على المصرف المسحوب عليه حجز قيمة الشيك طيلة تلك المدة التي تبدأ من تاريخ انتهاء مهلة العرض المحددة بثمانية أيام. ومن المعروف أنه لتحصيل الشيك المصرفي لا بد من فتح حساب به لدى مصرف تجاري، بسبب أن مصرف لبنان- المسحوب عليه في قضية عيّاد إبراهيم- لا يدخل ضمن صلاحيته فتح حسابات شخصية للعموم وفق أحكام المواد ٨٢ وما يليها من قانون النقد والتسليف، وهذا ما يوضح ويبين مدى مناقضة القرار للأحكام القانونية .
الملاحظة الثالثة: مسألة التعهد بدفع مبلغ معين
ختم القرار باعتبار أن الشيك كسند عادي لا يتضمن “التعهّد بدفع مبلغ معين” إنما أمرا صادرا من الساحب للمسحوب عليه”. وبالتالي لا يعدّ سنداً تنفيذياً عادياً ويكون القرار بذلك قد نسف المبدأ الحاكم للشيك وهو أنه ينشأ عن توقيعه التزامٌ بأداء قيمة هذا السند للحامل، وهو بحد ذاته يثبت أن الساحب مدينٌ للمستفيد، أي أن الالتزام الأصلي ثابت من خلال التوقيع على الشيك (بمعزل عن الالتزام الصرفي)، كما أغفل أنه ووفقاً لأحكام المادتين 417 و450 تجارة، يعتبر الساحب بمجرد توقيعه على هذا الصك ملتزماً مع المسحوب عليه بالتكافل والتضامن بدفع قيمة السند… فضلاً عن أن المادة 411 من قانون التجارة قد اعتبرت أن الشيك وحتى في حال خلوّه من ذكر اسم المسحوب عليه يبقى سندا عاديا يثبت التزام الساحب تجاه المستفيد. ومن المعلوم أن السند العادي يبقى قابلا للتنفيذ وفقاً للأحكام القانونية الناظمة، كون مفهوم الأسناد التنفيذية ينضوي تحته كل الأسناد التي تنطوي على تعهد بالدفع، سواء أكان سنداً عادياً أو سند دين أو سنداً تجاريا… بحيث أن إفقاد هذا السند حتى لمواصفات السند التنفيذي العادي يعتبر هفوة قانونية.
الملاحظة الرابعة: استفاضة بالتعليل تقيد ولاية محكمة البداية
إن بحث القرار في أساس النزاع يشكل مخالفة قانونية لأنه بذلك يكون قد قيّد ولاية المحكمة الابتدائية في النظر بالملف ووجهها إلى الحلّ. وهذا أمر لا يستقيم قانونا بسبب أنه قد سلخ عن المحكمة الابتدائية حقّها بالغوص في أساس النزاع بغية إيجاد الحلّ الذي سيخضع في مرحلة لاحقة لرقابة محكمة الاستئناف في حال جرى استئنافه. وهذا ما أقرّه الاجتهاد في قرارات عدة[1].
لتحميل قرار المحكمة الابتدائية
لتحميل طلب التنفيذ الاختياري الذي وجهته القاضية عناني للمصرف