في عددها رقم 59 الصادر في نيسان 2019 المخصص لعرض مجمل الأعمال والمستجدات القانونية والحقوقية خلال سنة 2018، نشرنا تعليقات على أبرز القوانين الصادرة خلال هذه السنة. ومن بين القوانين التي تناولناها في هذا السياق قانون الوساطة القضائية (المحرر).
هذا التعليق هو حصيلة مقابلات أجرتها “المفكرة القانونية” مع كل من السيدة جوانا هواري–بورجيلي وهي مؤسسة “المركز المهني للوساطة” Centre professional de médiation والسيدة منى حنا وهي رئيسة “المركز اللبناني للوساطة وللتوفيق” Lebanese center for mediation and conciliation.
لمحة تاريخية عن المسار التشريعي للقانون
مع تأسيس أول مركز للوساطة في لبنان وهو “المركز المهني للوساطة” CPM)) المرتبط بجامعة القديس يوسف، برزت لدى مؤسسيه أهمية العمل على إصدار قانون حول الوساطة، يعزز وينشر أهدافها. وبالفعل عمد فريق من المحامين والقضاة من الوسطاء العاملين ضمن المركز إلى العمل، خلال العامين 2008 و2009، على مسودة قانون مستوحى من التشريعات الأوروبية والفرنسية كما أكدت لـ”المفكرة” السيدة هواري-بورجيلي. وتم تقديم مشروع قانون الوساطة القضائية بصيغته الأولية في العام 2009 في عهد وزير العدل آنذاك إبراهيم نجار. وظلّ القانون في الأدراج، إلا أن مؤسسات أخرى دولية ومحليّة قامت بتقديم مشاريع أخرى في هذا المجال أو التعاون على تطوير المشروع الأول أبرزها International Finance Corporation المرتبطة بالبنك الدولي. كما وفي سياق مؤتمر CÈDRE الذي وضع على الحكومة موجب نشر وتطوير الوساطة القضائية، شُكّلت لجنة حكومية عملت على تحرير المسودة التي أقرّت استوحت بعض موادها من مشروع قانون 2009 المطوّر، وابتعدت عنه في أخرى، خصوصاً لجهة تكوين الوسطاء.
واستغرق القانون فترة تناهز العشر سنوات قبل إقراره أخيراً في الجلسة التشريعية المنعقدة في 24/9/2018. وكان مشروع القانون الوارد في المرسوم رقم 3201 كما عدلته اللجان المشتركة، واردا على البند رقم 3 من جدول الأعمال.
الإطار العام للقانون
تكمن أهمية القانون من جهة في وظيفة التحكيم الذي يعتبر من أبرز وسائل حلّ النزاعات، وتعزيز السلم الإجتماعي. كما له أثر أكيد في تخفيف الإختناق القضائي وفي تعزيز الوصول إلى العدالة ونشر السبل البديلة لحلّ النزاعات.
كما أن وضع القانون في سياق مؤتمر CÈDRE الذي تضمّن ضرورة نشر وتطوير الوساطة القضائية كما ذكرنا، يظهر هدفاً أكيداً من وراء إقرار النص وهو الرغبة في تسريع إجراءات المحاكمة ولجم خوف المستثمرين الخارجيين من بطء العملية القضائية في لبنان، ومن وضع القضاء بشكل عام.
فجاء في الأسباب الموجبة أن إقرار هذا القانون وفي هذا التوقيت بالذات ينمّ عن رغبة في مواكبة “التطور المستمر للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية وتنوّعها وما ينتج عن ذلك من تعقيد في المعاملات يؤدي الى تراكم القضايا وإرهاق كاهل العاملين بالقضاء، بالإضافة إلى طول المدة التي تستغرقها المنازعات القضائية، وبالنظر إلى ارتفاع تكاليف التقاضي وغير ذلك، ما يولد لدى المتقاضين انطباعا بعدم الثقة في كثير من الأحيان مما تثمره المنازعة من حلّ لا يرضي رغبة الطرفين المتنازعين ولا يأخذ بالاعتبار مصالحهما المتبادلة. لذلك، أصبح من الضروري البحث عن وسائل بديلة لحل النزاعات، وابتكار آليات قانونية جديدة تمكّن الأطراف من حلّ خلافاتهم بشكل سريع وعادل وفعال، وبالتالي تضمن لهم المرونة والسرعة والحفاظ على السرية وضمان مشاركة الأطراف في إيجاد الحلول المناسبة لمنازعاتهم”. كما جاء في النقاشات البرلمانية التي سبقت إقراره أنه يسهم بـ “تسهيل العقود الدولية”، سيما بعد أن قام لبنان “بالتوقيع على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص”.
أبرز النقاشات النيابية التي أثارها القانون
لم يستغرق النقاش حول هذا القانون أمام الهيئة العامة الكثير من الوقت. وقد اقتصرت المداخلات على ثلاثة عشرة نائباً (من بينهم وزير المال علي حسن خليل بالإضافة إلى وزير العدل سليم جريصاتي).
ومن اللافت ما تقدّم به النائب جورج عقيص الذي لخص موقفه بالقول أن القانون يحوي العديد من الثغرات إلى جانب الغموض في العديد من جوانبه، لاسيما لجهة تحديد مراكز الوساطة، وكيفية إعداد لوائح الوسطاء وكيفية تدريبهم.
إضافة إلى ذلك، أثارت المادة 20 جدلاً. ففي حين نصّت على أنه “يجري البت بطلب المصادقة بالصورة الرجائية” مما يعني إخضاعه إلى رسم مقطوع، اعتبر وزير المالية علي حسن خليل أنّ في ذلك إعفاء طلب الوساطة والقرار المتخذ بشأنه من الرسوم القضائية وأن “هذا الموضوع لا مبرر له على الإطلاق” خصوصاً “إذا عطفناه على المادة 21 (لا يقبل قرار المصادقة على اتفاق التسوية أيا من طرق الطعن العادية أو غير العادية) فهل الإدارة الضريبية ملزمة أن تقوم بالتسوية؟ إذا كانت ملزمة فربما يكون هذا الأمر باب تهرب ضريبيا”. وأيده في ذلك عدد من النواب.
وعلى الرغم من التصويت على المادة وإقرارها كما هي، أصر وزير المالية على أن تسجل جملة “هذا إتفاق تسوية لا يلغي حقوق الإدارة الضريبية على كلا الطرفين”، إلا أنه تم إهمال هذا الطلب.
الملاحظات الأساسية حول مضمون القانون
على الرغم من تأكيد الخبيرتين في الوساطة اللتين قابلتهما “المفكرة” أن مجرد إقرار القانون يعتبر بمثابة إنجاز وتقدم كبير في مجال تنظيم السبل البديلة لحل النزاعات القضائية فضلاً عن الفائدة الإجتماعية المتوخاة منه كونه يساهم في المحافظة على الوئام واستقرار العلاقات المستقبلية بين الأطراف، إلا أنّ الإطلاع عليه بشكل مفصّل يستدعي إبداء الملاحظات التالية:
1- مهل غير كافية لإتمام الوساطة
تجمع الخبيرتان على اعتبار المهل الممنوحة من أجل إتمام عملية الوساطة غير كافية لإجرائها. فقد نصّت المادة 11 من القانون على أنه لا يجب أن تتخطى مدة الوساطة ثلاثين (30) يوم عمل بدءاً من تاريخ قرار الإحالة القضائي، مع إمكانية تمديد هذه المهلة إلى ثلاثين (30) يوم عمل إضافي بقرار من مركز الوساطة المعتمد وذلك بناء على طلب خطي موقع من الأطراف كافة والوسيط. وتزداد قابلية انتقاد هذه المدة بالنظر إلى أن عملية اختيار الوسيط قد تأخذ وحدها أكثر من 20 يوماً وفقاً للمادة 8. وكان لا بدّ من تحديد أن مدة الوساطة أي مهمة الوسيط تبدأ بالسريان منذ تاريخ “إبلاغ الوسيط المهمة” – كما جاء في مشروع قانون 2009، وليس منذ تاريخ الإحالة. وعلى سبيل المثال، فإن مدة الوساطة في القانون الفرنسي هي 3 أشهر، وكان النص الأولي في 2009 قد اقترح اعتماد المدة نفسها.
2- شروط غير كافية لاكتساب صفة الوسيط
بالنسبة للتكوين الأولي للوسطاء، يكتفي القانون باشتراط أن يكون “قد أنهى دورة تدريبية في معهد أو مركز معتمد من قبل وزارة العدل حول الوساطة لا تقلّ عن خمس وأربعين ساعة من الدروس الوجاهية ومن لعب الأدوار يليها تقييم” (المادة 10)، دون تحديد أي معيار لمضمون هذه التنشئة. واعتبرت هواري-بورجيلي أن ذلك غير كاف لجهة أهمية الوظيفة المناطة بالوسيط، وضرورة أن يتمتع بثقة الأطراف. وكان مشروع قانون 2009 قد ألزم الوسيط الحصول على شهادة تكوين لا تقل عن 100 ساعة، يتخللها تكوين عملي وأخلاقي، إذ أن حساسية وظيفة الوسيط تستدعي احترام أصول أخلاقية واضحة.
3- غياب المعايير لتحديد مراكز الوساطة المعتمدة
نلحظ أن هذا القانون لم يضع الضمانات اللازمة في ما يتعلق بمسألة تحديد مراكز الوساطة المعتمدة من قبل وزارة العدل التي للفرقاء أو القاضي اختيارها. فقد اكتفت المادة الأولى من القانون المذكور بتعريف مركز الوساطة “كـكل شخص معنوي أو مؤسسة أو هيئة تعمل على الأراضي اللبنانية، معتمد من قبل وزارة العدل ويكون من صلب مهامه إدارة عملية الوساطة القضائية وتعيين الوسطاء”. وعليه، تبدو المعايير أو المواصفات التي يجب إحترامها من أجل أن يتم إعتماد مركز الوساطة من قبل وزارة العدل غير كافية، حيث تكتفي المادة 10 باشتراط أن يكون كل وسيط معتمدا ومسجلا لديها “ضمن قائمة الوسطاء وأن تعتمد قواعد السلوك المهني للوسيط المرفقة بهذا القانون، كما أن يكون لديها نظام متكامل للتقييم والتعامل مع الشكاوى؛ وأن يكون لديها نظام لإعادة النظر بقائمة الوسطاء ومتطلبات التطوير المهني المستمر وأخيرا أن تكون مجهزة بالتسهيلات الإدارية واللوجستية كافة المطلوبة للقيام بعملية الوساطة بشكل فعال”. انطلاقاً من ذلك، يثور الشك حول آليات مراقبة احترام هذه الشروط والضمانات من قبل مراكز الوساطة التي ستعتمدها وزارة العدل، قبل أن تقبل اعتماد إحداها. ومن شأن غياب هذه الآليات أن يعطي وزارة العدل سلطة إستنسابية في اختيار هذه المراكز، فتضاف إمكانية اعتماد مراكز الوساطة كباب آخر من أبواب التنفيعات. وما يزيد الأمر قابلية للإنتقاد هو غياب أية معايير لتحديد أتعاب الوسطاء1.
- نشر هذا المقال في العدد | 59 | نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
لمن القانون في لبنان؟
1 كان مشروع قانون 2009 تضمن المادة 9 نصها: “عند إنتهاء مهمة الوسيط يحدد القاضي أو المحكمة التي عينته مقدار أتعابه النهائية وكيفية توزيعها على أطراف النزاع. ويحق للوسيط أما لأطراف النزاع، الإعتراض على هذا القرار أمام المرجع الذي إتخذه في مهلة ثلاثة أيام من تاريخ التبليغ.”