
تنشر المفكرة القانونية الجزء الثاني من قراءة فريقها بتونس لمشروع قانون المجلس الاعلى للقضاء المقترح من وزارة العدل التونسية. فبعد ان تولت في الجزء الاول التعرض للاشكاليات التي تثيرها مسألة الاعضاء من غير القضاة بمجلس القضاء الاعلى، تحاول هنا دراسة الاشكاليات التي يثيرها تصور هيكلة المجلس الاعلى للقضاء وصلاحياته. ويهم المفكرة القانونية ان تشير لكون اهتمامها بشروع القانون يهدف الى تطوير حلقة النقاش حوله، داعية جميع قرائها الى المشاركة فيه (المحرر).
ضبطت الفصول 112 و113 و114 من الدستور التونسي هيكلة المجلس الاعلى للقضاء وحددت صلاحياته. ويستدعي البحث في نجاح مشروع القانون في تنزيل احكام الدستور وتوفير حاضنة مؤسساتية تضمن نجاعة مؤسسته التوقف عند الاحكام التي تتعلق بالهيكلة وتلك التي حددت صلاحيات المجلس الاعلى للقضاء للانتهاء بالبحث في تصور مشروع القانون للمؤسسات الملحقة بالمجلس الاعلى للقضاء.
هيكلة المجلس الاعلى للقضاء ومجالس القضاء:
التزم مشروع القانون بالتصور الدستوري لهيكلة المجلس الاعلى للقضاء. وميز في هذا الاطار الهياكل الأربعة للمجلس الأعلى للقضاء بشكل يضمن التوزيع الدستوري لاعضائها وهي مجالس القضاء العدلي والاداري والمالي فضلا عن الجلسة العامة للمجلس. كما صاغ المشروع تصورا لهيكلة الجلسة العامة فاقترح أن تكون مكونة ليس من جميع اعضاء المجلس الاعلى للقضاء وانما من 45 منهم فقط تم توزيعهم بشكل يضمن توازنا بين مختلف مجالس القضاء[1].
وعلى صعيد تركيبة مجالس القضاء، اقترح المشروع ان يضم مجلس القضاء العدلي سبعة وعشرين عضوا منهم 4 قضاة معينين بحكم صفاتهم و14 قاضيا منتخبين حسب رتبهم و9 شخصيات مستقلة حسب الاختصاص[2]. واقترح ان يضم مجلس القضاء الاداري 21 عضوا موزعين على الوجه الآتي: 3 قضاة معينين بصفاتهم و11 قاضيا منتخبا و7 شخصيات مستقلة[3]. كما اقترح ان يضم مجلس القضاء المالي : 21 عضوا موزعين على الوجه الآتي: 3 قضاة معينين بصفاتهم و11 قاضيا منتخبا و7 شخصيات مستقلة[4]
ويلحظ ان الاقتراح ضخم أعداد أعضاء المجالس. وهذا ما نتبينه بالنظر الى عدد القضاة. فعدد قضاة المحكمة الادارية المباشرين لا يتجاوز المائة وثلاثين قاضيا بينما يشمل مجلس قضائهم الاعلى 21 عضوا بمعنى ان لكل خمسة قضاة مباشرين تقريبا عضوا يناظرهم بالمجلس الاعلى للقضاء الاداري ونفس الامر بالنسبة لقضاة القضاء المالي. ويهدد تضخم عدد اعضاء المجلس الاعلى للقضاء غير المبرر عمله مستقبلا باعتبار ان كثرة الاعضاء تمنع تفرغهم وتجعل بالتالي عددا منهم مهمشا داخل المجلس.
وفيما بدت هيكلة المجلس الاعلى للقضاء في الجزء الاول من مشروع القانون رغم تضخمها مطابقة للدستور، فان الامعان في الباب المتصل باختصاصات المجلس سيبين أن هذه الهيكلية لن تكون دستورية.
صلاحيات المجلس: التوجه نحو التناقض مع الدستور
خصص مشروع القانون الفرع الثاني من بابه الاول لصلاحيات المجلس الاعلى للقضاء. ويتبين من دراسة هذا الفرع أن توزيع الاختصاص بين هياكل المجلس الاعلى للقضاء انتهى الى استحداث هيكل جديد هو الجمع العام للمجلس الاعلى للقضاء. واللافت أن هذا هيكل المستحدث والذي يضم كل اعضاء المجلس ويحتكر اغلب صلاحياته، لم يرد ذكره في الدستور كما لم يتعرض له المشروع في فرع هيكلة المجلس الاعلى للقضاء.
ويلحظ أن الجمع العام استولى وفق الاقتراح على صلاحيات وزعها الدستور بين مجالس القضاء والجلسة العامة، على نحو يؤدي في حال اقراره الى خرق صريح للدستور.
وقد اسند الفصل 48 من مشروع القانون للجلسة العامة للمجلس الاعلى للقضاء صلاحية النظر في التظلم من قرارات مجالس القضاء الفرعية التي تتعلق بالمسار المهني للقضاة. ويؤدي اعمال هذا الفصل الى اعطاء الجلسة العامة للمجلس الاعلى للقضاء دورا في المسار المهني للقضاة بخلاف الدستور الذي اسند صراحة دورا حصريا في ادارة المسار المهني للقضاة لمجالس القضاء العدلي والاداري والمالي.
تصور مضطرب لادارات المجلس الاعلى للقضاء
يبدو توحيد مؤسسات التكوين للقضاة والحاق التفقد القضائي بالمجلس الاعلى للقضاء من اهم ما تضمنه مشروع القانون من تصورات تطور ادارة المجلس الاعلى للقضاء.
– المعهد الاعلى للقضاء:
ارسى مشروع القانون مبدأ ان يكون المعهد الاعلى للقضاء المؤسسة التي تتكفل بتكوين الملحقين القضائيين قبل انتدابهم للعمل القضائي. ويقطع هذا التصور مع تعدد مداخل القضاء خصوصا بالنسبة لمحكمة المحاسبات والمحكمة الادارية كما يؤدي في صورة اعتماده الى جعل التكوين اكثر تلاؤما مع حاجيات العمل القضائي.
غير انه يلاحظ ان استعراض المؤسسات التي تتبع المجلس الاعلى للقضاء لم يتضمن ذكر المعهد الاعلى للقضاء رغم ان الفصل 37 من مشروع القانون اسند للجمع العام مسؤولية الاشراف عليه. كما كان يفترض ان يتم الحاق مركز الدراسات القضائية بالمجلس الاعلى للقضاء خصوصا وان له صلاحيات هامة في المجال التشريعي تتمثل في الاستشارة الوجوبية وصلاحية اقتراح الاصلاحات.
– التفقد القضائي
استجاب مشروع القانون لمطالب القضاة بالحاق التفقد القضائي بالمجلس الاعلى للقضاء. لكن يلاحظ هنا ان التفقد القضائي وان كان من مؤسسات المجلس الاعلى للقضاء فقد ظل حكرا على القضاء العدلي. فيلاحظ ان المتفقد العام عضو في مجلس القضاء العدلي دون سواه من المجالس.
وفي هذا المجال، التزم مشروع القانون بالوضع الحالي حيث لا توجد مصالح تفقد بتلك المحاكم. ويبدو هذا التوجه منتقدا لكون الدستور التونسي يوجب ان تتطور المحكمة الادارية هيكليا في اتجاه افقي يؤدي الى بعث محاكم ادارية جهوية وعمودي يؤدي لبروز محاكم استئناف ادارية ومحكمة عليا ادارية. كما ان ارساء مبدأ التقاضي على درجتين كمبدأ دستوري يستوجب حدوث ذات التطور بهيكلة محكمة المحاسبات. ويستوجب التطور الهيكلي لتلك المحاكم وتطور عدد قضاتها تبعا لذلك تطوير التفقد القضائي صلبها خصوصا وان التفقد القضائي لا يتعلق فقط بمراقبة المهنية بل يتجاوزه لدراسة نشاط المحاكم مع ما يستتبعه من تخطيط لتحديد حاجياتها.
ويلحظ ختاما ان العرض المبكر نسبيا لمشروع القانون يعد مبادرة ايجابية لما تسمح به من فتح النقاش العام حوله، غير ان الورقة الاولية التي عرضت ليست على مستوى الانتظارات. فهي لم تتوصل لتقديم تصور جدي لتركيبة مجالس القضاء العليا وكرست تصورات بيروقراطية لهياكل متضخمة واجراءات معقدة فيما كانت في جزء هام منها تتعارض مع احكام الدستور. كما غاب عنها الحس التشريعي الخلاق في تصور ادارات ومؤسسات المجلس الاعلى للقضاء، فاهملت ابراز الدور الجديد للمعهد الاعلى للقضاء واعادت صياغة التفقد الاداري بشكل لا يستشرف تطور الحاجة اليه.
الصورة منقولة عن موقع assabahnews.tn
[1]يبلغ العدد الاجملي لاعضاء المجلس الاعلى للقضاء 69 موزعون كالآتي 27 مجلس القضاء العدلي 21 مجلس القضاء الاداري 21 مجلس القضاء المالي .فيما تضم الجلسة العامة في عضويتها خمسة واربعين عضوا بحساب ستة معينين بصفاتهم اثنين عن كل قضاء واربعة وعشرين من القضاء المنتخبين بحساب 8 عن كل قضاء و 15 شخصية مستقلة
[2]الفصل 15 من مشروع القانون القضاة المعينون حسب صفاتهم الرئيس الاول لمحكمة التعقيب –وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب –المتفقد العام للشؤون القضائية –رئيس المحكمة العقارية القضاة المنتخبون : 5 عن الرتبة الاولى 4 عن الرتبة الثانية 5 عن الرتبة الثالثة – – سبعة شخصيات مستقلة من ذوي الاختصاص.
[3]الفصل 16 من مشروع القانون القضاة المعينون حسب صفاتهم الرئيس الاول للمحكمة الادارية العليا –الوكيل الاول لرئيس المحكمة الادارية رئيس دائرة تعقيبية الاقدم –المنتخبون 5 من القضاة المستشارين 6 من المستشارين المساعدين – سبعة شخصيات مستقلة من ذوي الاختصاص
[4]الفصل 17 من مشروع القانون.
متوفر من خلال: