في إطلالته الأولى أمام المجلس النيابي، قدّم حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، خلال اجتماع لجنة المال والموازنة في تاريخ 7 أيار 2025 المخصّص لدراسة مشروع قانون إصلاح وضع المصارف الذي أعدّته الحكومة، دراسة قانونية عن “استقلاليّة مصرف لبنان وضرورة المحافظة على تجانس التشريع المصرفي”. وقد لمّحت هذه الدراسة إلى انتهاك مشروع القانون المقدّم من الحكومة لاستقلاليّة مصرف لبنان، ما يهدّد بمنع الأخير من القيام بدوره بشكل سليم كما هو منصوص عليه في قانون النقد والتسليف ويعرّض أصوله، حسب زعم الدراسة، لمخاطر صدور قرارات بحجزها من محاكم أجنبية تستفيد من سقوط حصانته لفقدانه استقلاليّته.
وقد استفاضت الدراسة (التي لم تقترن بإشارة إلى من أعدّها ولا إلى عرضها على المجلس المركزي لمصرف لبنان وموافقته عليها لكي يكون الاحتجاج بها أصوليًا) في الكلام عن أهمية استقلاليّة مصرف لبنان ومداها كما وردت في الأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف ومواد هذا الأخير لتخلص إلى استنتاجات منحرفة ومشوّهة عدّة أهمّها التّهويل بمخاطر المسّ بصلاحيّات الحاكم بأيّة صورة من الصور لصالح هيئة أو مرجعيّة أخرى داخل أو خارج هيكلية مصرف لبنان.
التعليق على ما ورد في الدراسة الآنفة الذكر يمكن إيجازه على نحو عاجل كالتالي:
1. إنّ الاستقلاليّة التي يتحدّث عنها قانون النقد والتسليف هي ابتداء وكما تشير المادة 13 منه “استقلالية مالية”.
2. إنّ ما تذكره المادة 13 الآنفة الذكر من “اعتبار مصرف لبنان شخصا معنويا من القطاع العام” و”عدم خضوعه لقواعد الإدارة وتسيير الأعمال وللرقابات التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام” لا يمكن تفسيره بأنّ المصرف بات يتمتع بـ “استقلاليّة كاملة” ولا حتى بأنّ المشرع “قد أعطى أول إشارة عن إرادته بمنحه الاستقلاليّة” كما تذكر الدراسة.
3. إنّ الاستقلاليّة المعتبرة أصولًا لا يؤخذ بها إلا إذا نص عليها الدستور بشكل صريح، كما هو الأمر في سويسرا حيث تنصّ المادة 99 من الدستور السويسري بشكل واضح على استقلاليّة البنك الوطني السويسري ومع ذلك فهي تلزمه “بأن ينتهج سياسة نقدية تخدم المصالح العامّة للبلاد وتُدار بمساعدة وإشراف الاتحاد السويسري”.
وقد أوضحت المادة 6 من قانون البنك الوطني السويسري مضمون الاستقلاليّة الدستورية للأخير فحدّدتها “بعدم جواز طلبه أو قبوله وأعضاء هيئاته تعليمات من المجلس الاتحادي أو الجمعية الاتحادية أو الهيئات الأخرى”.
وكمقابل لهذه الاستقلاليّة، يلتزم البنك الوطني السويسري بموجبيْ (1) الإعلام و(2) تأدية الحساب.
فيقوم عملًا بالمادة 7 بمراجعة الوضع الاقتصادي والسياسة النقدية والقضايا الحالية المتعلقة بالسياسة الاقتصادية للاتحاد مع المجلس الاتحادي بشكل منتظم. وقبل اتخاذ القرارات المهمّة بشأن السياسة الاقتصادية والنقدية، يتبادل المجلس الاتّحادي والبنك الوطنيّ معلوماتٍ حول نواياهما. ويتمّ تقديم التقرير السنوي والحسابات السنوية للبنك الوطني إلى المجلس الاتحادي للموافقة عليهما قبل عرضهما على الجمعية العمومية للمصرف.
أيضًا يقدم البنك الوطني تقريرًا سنويًا إلى الجمعية الاتحادية عن تنفيذ مهامه ويعرض بانتظام الوضع الاقتصادي وسياساته النقدية على اللجان المختصّة في الجمعية الاتحادية.
كذلك يقوم البنك الوطني بإطلاع الجمهور بشكل منتظم على سياسته النقدية ويعلن عن نواياه في هذا المجال.
5. في لبنان، لا يتمّ التقيّد بموجبيْ “الإعلام” و”تأدية الحساب” المقابليْن للاستقلالية حتى يصار إلى التمسّك بشدّة باستقلاليّة مصرف لبنان. فالكلّ يعلم وتقرير “ألفاريس ومارسال” Alvarez & Marsal يؤكد، بأنّ حسابات مصرف لبنان قد تمّ تمويهها بشكل غير قانوني لإخفاء خسائر المصرف ولم يخضع مصرف لبنان لعقود لأيّة عملية “تأدية حساب” حسب تقرير مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أوليفيه دي شوتر Olivier de Schutter.
6. يتبيّن أيضًا من نص المادة 99 من الدستور السويسري أنّ مضمون استقلاليّة المصرف المركزي محدّد بشكل واضح وصريح وهو محصور “بعدم جواز طلب القيّمين عليه أو قبولهم لأيّة تعليمات من السلطات العامّة”. ولا يشتمل على أيّ قيد آخر مثل عدم إمكانية إجراء المشرّع أيّ تعديل في هرمية المصرف المركزي أو بنيته التنظيمية كما تدّعي الدراسة.
7. وقد تمّ الاستناد إلى الطبيعة الدستورية لاستقلاليّة المصرف المركزيّ لإطلاق مراجعات قضائية أمام عدد من المحاكم الدستورية الأجنبية كما حصل في الطعن الذي قُدّم من قبل جماعات ألمانيّة أمام محكمة Karlsruhe ثمّ أمام محكمة العدل الأوروبيّة بخصوص التسهيلات المالية التي أجراها المصرف المركزي الأوروبي إبّان أزمة عام 2008. وهذا النوع من الطعون غير ممكن في لبنان لأنّ استقلاليّة مصرف لبنان ليست ذات طبيعة دستورية كما تدّعي تجاوزًا، الدراسة.
8. كذلك لا يستقيم استجرار أية تعابير وعناوين للقول ضمنًا باستقلاليّة مصرف لبنان من نوع أنّ الأخير هو من عداد الهيئات الإدارية المستقلّة (Autorités indépendantes administratives) وبأنّ المصرف يتّصف بطابع خاصّ (caractère propre) وأنّ قانون النقد والتسليف هو مدوّنة قانونية (code) أو قانون أساسي (loi organique) أو قانون أساسي أسمى (loi organique suprême) فالاستقلاليّة الحقّة تستند كما أشرنا إلى نصّ دستوري يحدّد مضمونها بشكل واضح وصريح، وهو أمر غير حاصل في لبنان.
9. لا يستقيم الكلام أيضًا عن الكتلة الدستورية bloc de constitutionnalité كما فعلت الدراسة بالإشارة إلى ما هو قائم في فرنسا، إذ أن استقلاليّة المصرف المركزي الفرنسي تقرّرت تنفيذًا لاتفاقية الوحدة النقدية الأوروبية ولا يمكن إعمال القياس على لبنان الذي لا يرتبط بأيّة معاهدة مماثلة.
هذا علمًا أنّ المادة الأولى من قانون المصرف المركزي الفرنسي تستعيد المضمون ذاته الذي حدّده المشرّع السويسري لاستقلاليّة الأخير وهي “عدم جواز قبول وطلب الحاكم ونوّابه وأيّ عضو من مجلس السياسة النقدية لأيّة تعليمات من الحكومة أو أي شخص”.
10. لا ينفع التهويل الذي أطلقته الدراسة بإمكانية تعرّض القسم من التغطية الذهبية لمصرف لبنان الموجود في نيويورك تحت إشراف الاحتياطي الفدرالي الأميركي FED لمخاطر الحجز لصالح الصناديق الانتهازية fonds vautours من حملة اليوروبوندز في حال ثبوت تجريد مصرف لبنان من استقلاليّته بمقتضى مشروع قانون إصلاح المصارف. فهذا نوع من الابتزاز غير قائم سندًا للقانون الأميركي 1611-28 الذي ينصّ صراحة على حصانة أملاك وأصول وحسابات المصارف المركزية الأجنبية في الولايات المتحدة بدون أيّ استثناء إلّا في حال التنازل عنها أو استخدامها أو خضوعها لغايات عسكرية أو لرقابة سلطة عسكرية.
حتى لو تمّ التسليم جدلًا بصحّة التهويل الذي أطلقته الدراسة بالربط بين فقدان مصرف لبنان لاستقلاليّته وخطر الحجز على موجوداته الذهبية الخارجية، فإنّ هذا الأمر سيثور (وفقًا لمنطق الدراسة) ليس بسبب مشروع قانون إصلاح المصارف بل بالطريقة التي بات يتمّ تعيين القيّمين على إدارة مصرف لبنان فيها والتي تحمل شبهة ارتهانهم لمصالح المصرفيين والسياسيين ووجود تضارب في المصالح.
11. كذلك لا يمكن الأخذ بما ورد في الدراسة من أنّ “الاستقلاليّة لا يمكن أن تُفهم وتطبّق بشكل مفيد ومجدٍ إلّا إذا شملت وامتدّت على كافة الأجهزة والدوائر والهيئات واللجان المرتبطة عضويًا ووظيفيًا بالمجلس المركزي والحاكم. وهذا ما يمكن تسميته بالوحدة الكاملة المتكاملة، وأنّ أيّ زعزعة في الهيكلية التنظيمية أو المهام الأساسية للأجهزة المرتبطة به يعرّض سلامة المصرف المركزي للخطر، ما يعتبر انتهاكًا لوحدته وسلامته (violation du principe d’intégrité)”.
وقد أضافت الدراسة أنّ مشروع قانون الإصلاح، أتى ليقضي على التنظيم المصرفي برمّته إذ، بذريعة تعزيز نظام الاستقرار المالي، فقد همّش دور المجلس المركزي والحاكم ووسّع صلاحيات الهيئة المصرفية العليا لتصبح صلاحيات استنسابية وتقديرية ومنحها سلطة الفصل والتقرير بمفردها في تصفية المصارف، ولها كامل الصلاحية في أمور التخمين وتعيين المصرفيين والمديرين المؤقتين وتحديد مهامهم وعزلهم من دون أي مراقبة قضائية مسبقة ومن دون أي مراعاة لحق الدفاع للمصرف المقرر تصفيته أو أي احترام لمبدأ الوجاهية الواجب احترامه عندما تتخطّى العقوبات الإدارية حدودها المسلكية لتصبح من مصاف الأحكام شبه القضائية.
كلّ الكلام السابق مجافٍ للتاريخ وللواقع وللحقيقة.
فمن المعروف أنّ الصيغة الأساسية لقانون النقد والتسليف كانت تنصّ في المادة 148 على تكليف اﻟﺭﻗﺎﺒﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺼﺎﺭﻑ إﻟﻰ ﺩﺍﺌﺭﺓ ﻓﻲ مصرف لبنان ﻤﻨﻔﺼﻠﺔ ﻭﻤﺴﺘﻘﻠّﺔ ﺘﻤﺎﻤًﺎ ﻋﻥ ﺒﻘﻴﺔ ﺩﻭﺍﺌﺭﻩ ﻭﻤﺭﺘﺒﻁﺔ ﻤﺒﺎﺸﺭﺓ ﺒﺎﻟﺤاكم.
بعد حصول أزمة إنترا وخلال إحدى جلسات المجلس النيابي المتعلّقة بمعالجتها، ارتفع صوت العميد ريمون إدّه قائلًا: “لقد عُهد بالرّقابة على المصارف إلى مديرية خاصّة في مصرف لبنان بإشراف الحاكم وفشلت. لذا فإنّ الحلّ هو بإخراج الرقابة على المصارف من مصرف لبنان وتكليف هيئة خاصّة مستقلّة عن المصرف بذلك”. وهذا ما حصل، ولم يحتجّ أحد بأنّ ذلك يتعارض مع استقلاليّة مصرف لبنان ويزعزع هيكليته التنظيمية لمصرف وينتهك وحدته وسلامته إلى غير ذلك من المحاذير التي رددتها مرارًا وتكرارًا الدراسة.
وقد قضت أيضًا المادة 209 من قانون النقد والتسليف الخاصّة بالعقوبات الإدارية الممكن إنزالها بالمصرف المخالف للقانون والأنظمة، بأن يختصّ مصرف لبنان فقط بتوجيه كتُب التنبيه واتّخاذ قرارات تخفيض أو تعليق تسهيلات المصرف. أما العقوبات الأكثر قساوةً مثل المنع من القيام ببعض العمليات أو تعيين مراقب أو مدير مؤقّت والشّطب من لائحة المصارف، فتقرّرها لجنة برئاسة قاضٍ يعيّن بمرسوم بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى ومن ممثّل عن مصرف لبنان يعيّنه الحاكم ومن مفوّض الحكومة لدى المصرف. ولا تقبل قرارات اللجنة الاستئناف.
ولم يسجّل أيّ اعتراض في حينه بوجود افتئات على صلاحية مصرف لبنان وحاكمه يتعارض مع استقلاليّة مصرف لبنان على النحو الذي تثيره الدراسة موضوع النقاش.
ومعروف أنّ نصّ المادة 209، تعدّل لاحقًا، فعهد بصلاحيات اللجنة إلى هيئة مصرفية عليا برئاسة الحاكم وأحد نوّابه وقاض وعضو لجنة الرقابة على المصارف المقترح من جمعية المصارف ورئيس المؤسسة الوطنية لضمان الودائع. ولم يحتجّ أحد أيضًا على الأمر تحت أي ذريعة.
هذا وتشير الوقائع إلى إخفاق تعديل المادة 209 في تحقيق المطلوب، بدليل تقاعس و/أو إحجام الحاكم عن إحالة ملفّات يقدّر عددها بالمئات خلال العقود الماضية إلى الهيئة للبتّ بها واتخاذ القرارات المطلوبة وهو أمر يمكن أن تتثبّت منه أيّة لجنة تحقيق نيابية. والإصرار بالتمسّك بهذا الواقع بحجّة الاستقلاليّة وما شابهه من شأنه عدم إصلاح الشوائب وزيادة الأمور تأزّمًا وسوءًا.
من هنا كان الاقتراح الذكي في مشروع القانون الذي أعدّته الحكومة لإصلاح المصارف بإضافة رئيس لجنة الرقابة على المصارف إلى الهيئة الناظرة في إعادة هيكلة المصارف من دون أن يعني الأمر (بالنسبة لنا) موافقة ضمنيّة على منطلقات ومندرجات مشروع القانون المذكور بالكامل.
12. جدير بالذكر أنّ النائب الأول للحاكم جوزيف أوغورليان الذي ترأّس اللجنة التي صاغت قانون النقد والتسليف بنسخته الأولى كان يدعو على الدوام في آخر مراحل خدمته، إلى ضرورة إعادة النظر في الهيكلية التنظيمية لمصرف لبنان التي وضعت أصلًا في الستينيّات للتعامل مع نظام سعر الصرف الثابت ويقتضي تعديلها جذريًا بعد خروج لبنان والعالم من هذا النظام عام 1971 وولوجه نظام سعر الصرف العائم، حيث يتعيّن التعامل مع الواقع المستجدّ بهيكليّة تنظيمية مختلفة لمصرف لبنان.
هذا وقد تمّ إدراج إعادة هيكلة مصرف لبنان من ضمن الاقتراحات الأولى لصندوق النقد الدولي. والتعديلات التي اقترحتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي السابقة في هذا الخصوص، تقرّر أن تكون للأسف “تجميلية” فقط بصريح إعلان وزير العدل. ولم يرتفع أي صوت في كلّ ما سبق، بأنّ زعزعة الهيكلية التنظيمية لمصرف لبنان يعرّض استقلاليّة مصرف لبنان وسلامته للخطر ويعتبر انتهاكًا لوحدته وسلامته كما تدّعي الدراسة موضوع النقاش.
13. إنّ كلّ ما ورد في الدراسة من إشارة إلى مخاطر قانونية يحملها مشروع الحكومة لإصلاح وضع المصارف بتضمّنه إعادة نظر في صلاحيات ومهام دوائر تابعة عضويًا للحاكم (من لجان وهيئات) على حساب الحاكم والمصرف المركزي ما يؤثّر على وحدة الأخير النظامية (intégrité structurelle) وعلى مبدأ تجانس التشريع المصرفي (principe de cohérence de la législation bancaire) يعتبر أمرًا غير قانوني وضربًا لهرمية النظم العائدة للمصرف المركزي (hiérarchie des normes)، هو من قبيل الشطط الواضح إذ لم تحدّد الفقرة 12-ج من الدراسة المادة القانونية التي تمّت مخالفتها كما تدّعي. والسبب؟ هو عدم وجود لهذه المادة.
14. تشير الوقائع إلى أنّ الدول التي حافظت على قوّة عملاتها حتى في أقسى الصعاب (كسويسرا) أو حمتْ مصارفها التجارية من أزمات عالمية (كألمانيا خلال أزمة الرهونات العقارية لعام 2008) سجّلت نجاحاتها هذه بسبب حصر المهامّ الأساسية لمصارفها المركزية بقضايا الحفاظ على الاستقرار النقدي وتكليف هيئات أخرى مستقلّة بأمور المصارف تنظيمًا ورقابةً وتدقيقًا في العمليات لكشف غير المشروع منها ومعاقبة الارتكابات كما هو الحال مع الـ FINMA السويسرية والـ BAFIN الألمانية.
ويسمع زائر البوندسبنك (المصرف المركزي الألماني) من قادة الأخير أنّ نجاحات مصرفهم قد تحقّقت لأنّه من غير المسموح “وضع أكثر من بطيخة واحدة بيدي مصرفهم”. ويضيفون أنّ تكليف أيّ مصرف مركزي بمهام أساسية إضافية إلى جانب الاستقرار النقدي سيكون على حساب الأخيرة وسيكون هناك تمويه للخسارات وتعظيم للنجاحات، فالأخيرة هي قصيرة الأجل بالنسبة للسياسات المصرفية ومتوسطة وطويلة الأجل في السياسات النقدية.
وكانت مجلة The Economist قد ذكرت في عددها الصادر في 28 آب – 3 أيلول 1993 في مقال ورد في الصفحة 68 منها تحت عنوان “مهامّ المصرف المركزي” أنّ مصرفًا مركزيًا بمهامّ متعدّدة، لن يقوى على القيام بأيّ منها بشكل جيّد. واستطردت بالقول بأنّ “تعدّد مهامّ المصرف المركزي لن يساعد على تحقيق الهدف الأساسيّ الذي هو تحقيق استقرار الأسعار بل على العكس فهو يؤسّس للانحدار (وهذا بالتحديد ما حصل في لبنان)”.
15. بالنسبة للبنان الشيء الأكيد أنّ المنهبة – الكارثة التي حصلت ما كانت لتمرّ قطعًا لو كان التنظيم المعتمد هو على غرار ما هو قائم في سويسرا أو ألمانيا، لأنّ القيّمين على القطاع المصرفي ما كانوا سيسمحون أبدًا بأنْ يستقطب مصرف لبنان بشتّى الحيل والتعاميم غير القانونية حوالي 80% من الودائع المصرفية الدولارية إلى صناديقه ليقوم بتبديدها لاحقًا في إنفاقات متنوّعة لا يجيزها القانون.
ولا يمكن التذرّع بالاستقلاليّة بهدف التعنّت والتشبّث بالهيكلية التنظيمية لمصرف لبنان التي تراكم بيد حاكمه صلاحيّات لا مثيل لها في أية دولة في العالم. خصوصًا أنّ الواقع أثبت بشكل جليّ خطورة لا بل كارثية هذه الهيكلية على اللبنانيّين، إذ تتجمّع في يد مرجعيّة واحدة السلطة التقريرية والتنفيذية والرقابية، إضافة إلى الإشراف على لجنة الرقابة على المصارف وقيادة الهيئة المصرفية العليا وهيئة التحقيق الخاصّة وهيئة الأسواق المالية.
16. في أيار من عام 2005 وقف البروفيسور ستانلي فيشر Stanley Fischer، النائب الأوّل السابق لصندوق النقد الدولي الذي استدعته الحكومة الإسرائيلية ومنحته الجنسية الإسرائيلية لتعيينه حاكمًا للمصرف المركزي أمام الكنيست في جلسة استماع. وعندما بدأ الكلام في القسم الثاني من خطابه المخصّص لعرض الاقتراحات التي يرى، من خبرته الطويلة والثرية في أمور المصارف المركزية، إن من الضروري إدخالها على قانون مصرف إسرائيل للارتقاء به إلى مستوى التحدّيات الوطنية والعالمية، قاطعه أحد النوّاب منذ بداية الكلام مستغربًا طرح الموضوع أساسًا وقائلًا: سيّدي الحاكم أستغرب مطالبتك بتعديل قانون المصرف المركزي، فكلّ الصلاحيات بيدك، وعمليًا أنت من يتخذ القرارات الأساسية. فما كان من البروفيسور فيشر إلّا أن جاوبه “أحسنت، من أجل ذلك أنا أدعو لتعديل قانون المصرف المركزي الإسرائيلي للتخفيف من تمركز الصلاحيات بيد الحاكم (وهي على فكرة أقلّ بكثير من صلاحيات حاكم مصرف لبنان)”. ,كان له ما أراد ووافق الكنيست على توزيع مثالي للصلاحيات في المصرف وسبل فضلى لاعتماد الميريتوقراطية (Meritocracy) في قيادته.
وكم كان سيكون تاريخيًا ومؤثرًا على جميع الصعد في الداخل والخارج، لو أتت مبادرة الحاكم كريم سعيد في إطلالته النيابية الأولى هذا الشهر، باتجاه يتماهى مع الخطاب التاريخي للبروفيسور فيشر قبل عشرين سنة بالتمام في أيار 2005، بدلًا من التذرّع باتجاه مناقض كلّيًا، باستقلاليّة لا ترتقي إلى مصاف الدستورية بهدف التمسّك بهرمية تنظيمية في مصرف لبنان أثبتت تقصيرها وكارثيّتها بشهادة العارفين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ قادة ومتنوّرين كبارًا في السياسة، كالرئيس الفرنسي ريمون بوانكاريه Raymond Poincaré والاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان Milton Friedman، باتوا يدركون خطورة ترك الأمور في يد المصرف المركزي، بشكل مستقلّ كلّيًا وأهمّية إخضاعه لعملية رقابة وتقييم موثوقة ومستمرّة حتى يتمّ التقليل من الحالات المتزايدة مؤخرًا لاستدعائه إلى قفص الاتهام على حد تعبير الاقتصادي الشهير باري آيشنغرين Barry Eichengreen (ولبنان حاليًا على رأس هذه الحالات).
والرقابة المنشودة يقوم بها حاليًا ديوان المحاسبة في عدد من المصارف المركزية كالمصرف الفرنسي والأوروبي وغيرهما. وهو ما يجب أن يكون عليه الأمر في لبنان لولا المادة 13 من قانون النقد والتسليف التي تخرج مصرف لبنان من رقابة هذا الديوان.