قضتْ المحكمة المدنية في جبل لبنان (الناظرة في قضايا النقابات) في تاريخ 30/4/2024 بردّ الدعوى التي قدمتها المرشّحة أليسار قبيسي (وهي مرشّحة مدعومة من تجمّع نقابة الصحافة البديلة) لإبطال انتخابات مجلس المحرّرين الحاصلة في 2021. وهذه الدعوى هي الثانية من نوعها، حيث كان عددٌ من الصحافيّين المُعارضين لمجلس النّقابة قدّموا في 2015 دعوى لإبطال الانتخابات السابقة، وذلك من باب الإضاءة على المخالفات الحاصلة فيها، إلا أن الدعوى تلك تمّ ردّها آنذاك لانتفاء الصلاحية المكانيّة. وفيما بنتْ المحكمة قرارها بشكل خاصّ على الفارق الكبير في الأصوات (حيث حازت قبيسي على ثلث الأصوات التي حاز عليها آخر الفائزين) وهو فارق يحدّ عمليّا من أثر المخالفات التي يكون قد تمّ ضبطها على نتائج العمليّة الانتخابية، فإنها تخلّت بالمقابل عن دورها في توثيق الممارسات المخلّة بالعملية الانتخابية منعا لتكرارها. لا بل أنّ المحكمة ذهبتْ في بعض الأحيان إلى تسفيه مخاطر بعض الممارسات المشكو منها أو حتى تشريعها بالاستناد إلى حجج غير مقنعة، وعلى نحو يزيد من مخاطر تكرارها.
وقبل المضيّ في تفصيل مواقف المحكمة وتحليلها لهذه الجهة، تجدر الإشارة إلى أنّ الجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديمقراطية الانتخابات (اللادي) كانت أشرفتْ على مسار الانتخابات بناء على طلب عددٍ من المرشّحين وموافقة نقابة المحرّرين على ذلك، وأنها أصدرتْ بيانا حدّدت فيه ما رصدتْه من ممارسات مخلّة بالعملية الانتخابية، وهو البيان الذي تكرر ذكره ومناقشة مضمونه ضمن أقوال الجهة المدعية وحيثيات المحكمة.
المحكمة تتخلّى عن صلاحيتها في مراقبة النظام الداخليّ للنقابة رغم إخلال أحكامه بمبادئ الانتخابات الديمقراطيّة
توقف بيان جمعية ديمقراطية الانتخابات عند عدد من الممارسات المخلّة بالانتخابات الديمقراطية، قبلما يسجّل أنّ النقابة برّرت القيام بها انطلاقا من أحكام نظامها الداخلي. ومن أهم هذه الممارسات الآتية: (1) أنّه تم تعيين مرشّحين (منهم النقيب وعضو مجلس نقابة) ضمن الهيئة المشرفة على الانتخابات على نحو يناقض تماما مبدأ الحياديّة الذي يفترض أن تتحلّى به هذه الهيئة وفق ما جاء في بيان اللادي . وقد بررت النقابة هذا الأمر بالمادة 9 من النظام الداخلي التي تفرض أن يرأس نقيب المحررين هذه الهيئة من دون فرض استبعاده في حال كان مرشحا. (2) أنه لم يجرِ التحقق من مدى توفر النصاب لانعقاد الجمعية العامة للنقابة عند بدء العملية الانتخابية، إنما فقط في المساء عند بدء أعمال الفرز وذلك طبقا للمادة 27 من النظام الداخلي للنقابة التي أشارت حرفيا إلى أنّ “عملية الفرز تبدأ بعد التثبت من إكتمال النصاب”. وكان جمعية ديمقراطية الانتخابات أوصتْ في بيانها بضرورة تعديل النظام الداخلي لجهة وضع آلية محدّدة للتأكد من النصاب قبل بدء العملية الانتخابية (وليس قبل الفرز)، وذلك تفاديا لمعرفة المرشّحين مسبقا بالجوّ المرافق لحملتهم الانتخابية من جهة، وتفاديا لأي ضغوط من الممكن أن تمارس على الناخبين من قبل المرشّحين في الدورة الثانية من جهة أخرى.
وقد أثارتْ المدعية هذه الممارسات داعية المحكمة إلى اتخاذ موقف منها انطلاقا من المبادئ الناظمة لديمقراطية الانتخابات وتحديدا المادة 25 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية والتي نصّت صراحة على أنه “يكون لكل مواطن، الحقوق التالية …: (ب) أن ينتخب وينتخب، في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتّصويت السرّي، تضمن التعبير الحرّ عن إرادة الناخبين، …” والمادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “(3) إرادةُ الشعب هي مناطُ سلطة الحكم، ويجب أن تتجلىَّ هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريًّا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرِّي أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرِّية التصويت.” وهي موادّ لها قوة دستورية بحكم مقدمة الدستور تفوق قوة النظام الداخلي للنقابة. إلا أنه رغم ذلك، رفضت المحكمة ممارسة رقابتها على قانونية هذه الأحكام معتبرةً أنها تعطي السّند الشرعيّ للإجراءات المتّخذة وتنفي وجود أي مخالفة، رافضةً بذلك التشكيك بمدى قانونيتها أو انسجامها مع الدستور والمواثيق الدولية.
ومن البين أن ذهاب المحكمة في هذا المنحى إنما يخلّ بمبدأ تسلسل القواعد القانونية وفق المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية، ويناقض ما كانت ذهبت إليه محاكم عدة لجهة استبعاد أحكام الأنظمة النقابية متى كانت مخالفة للأحكام القانونية أو أيّ حكم يعلوها من حيث القوة القانونية. هذا ما ذهبت إليه بشكل خاص محكمة استئناف بيروت في سياق رقابتها على السلطة التأديبية لنقابة المحامين في قرارين صدرا في تاريخ 25/6/2012، حيث كرّست مبدأ “سيادة القانون” وخضوع الهيئات النقابية له وللقاضي الذي يتولى تطبيقه. فالحرية التي يتمتع بها مجلس نقابة المحامين بإدارة شؤون النقابة ووضع نظامها الداخلي إنما تترافق مع رقابة قضائية لصيقة على التشريعات الداخلية تبقي للقانون سموّه على النظام الداخلي.
وعليه، وفيما كان بإمكان المحكمة أن تفسر النظام الداخلي على نحو يجعله متوافقا مع مبادئ نزاهة وحيادية الانتخابات (كأن تعتبر أن ترؤس النقيب للجنة الإشراف يصح فقط في الحالات التي لا يكون مرشحا فيها) أو أن تستبعد أي مادة تناقض هذه المبادئ، فإنّها قررت على العكس من ذلك التسليم بشرعية النظام الداخلي، من دون إخضاعه لأي رقابة منها.
المحكمة تشرّع ممارسات مخلّة بداهة بالعملية الديمقراطية
التوجّه الثاني الذي يجدر التوقّف عنده هو تماهي المحكمة مع مخالفاتٍ مخلّة بداهة بالعملية الديمقراطية، ليس من منطلق كونها مشرعة بحكم النظام الداخلي للنقابة، إنّما على أساس قرارات قضائية سابقة، وهي قرارات جوبهتْ عند صدورها باعتراضات حقوقية واسعة. ففي حين وثقت جمعية ديمقراطية الانتخابات قيام العديد من الناخبين بالتصويت خارج العازل، رأت المحكمة أن “خرق مبدأ سرية الاقتراع” أي الاقتراع خارج العازل لا يشكل بحد ذاته مخالفة لديمقراطية الانتخاب و”لا يعتبر مشوبا بأي عيب”، طالما أنه يحصل بإرادة المقترع المتخلّف طوعا عن الدخول وراء العازل. واللافت أن المحكمة عرّفت وضع العازل على أنه وسيلة وضعها القانون “لحماية حريّة الناخب في اختيار ممثليه وإحاطتها بالسرية التامة و بمنأى عن أي تأثير خارجيّ” و”صون حريّته من عوامل الضغط والإكراه”، لتخلُص بعدها إلى اعتبار السريّة “تتعلّق بالعامل الشخصي والذاتي للناخب، بحيث أن من لديه المناعة الكافية والكفيلة بمقاومة الضغط والإكراه وعدم الرضوخ لهما” يمكن أن يقترع خارج العازل. وعليه، ذهبت المحكمة أبعد من ذلك إلى حدّ اعتبار أنه “لا مانع من قيام أحد الناخبين من المجاهرة لميله لمرشح معيّن ولا يكون اقتراعه في هذه الحالة مشوبا بأيّ عيبٍ مبطل”. وقد استندتْ لهذه الغاية إلى القرار الدستوري الصادر في رقم 5/1997 والذي جاء فيه حرفيا الآتي: “وحيث أنه، لكي يكون الاقتراع مشوباً بعيب مفسد لعملية الاختيار، يجب أن يكون المانع الذي حمل الناخب على عدم الدخول إلى المعزل وليد ضغط أو إكراه، مما يحمله على انتخاب من لا يريد انتخابه فيما لو خلا إلى نفسه في المعزل وتحصن بالسرية فيه، الأمر الذي لم يقم عليه أي دليل أو قرينة.” وهنا أيضا اكتفت المحكمة بالاستشهاد بهذا القرار من دون أيّ مراجعة نقدية لمضمونه، وبخاصة أن هذا القرار شهد اعتراضات حقوقية عدة. وقد أدّى موقفها هذا إلى إعادة إحياء قرار الدستوري رغم خطورته الفائقة وصدوره في ظرف سياسي ضاغط، بلغت فيه إرادة التحكم بنتائج الانتخابات حدها الأقصى. يذكر أن المادتين 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيّة والمادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (ولها قوة دستورية) المشار إليها أعلاه قد نصتا حرفيا أنه يكون لكل مواطن حقّ التصويت السري بما يضمن التعبير الحرّ عن إرادة الناخبين. وقد ذهبت لجنة حقوق الإنسان أبعد من ذلك في تعليقه العام رقم 25 على المادة 25 من العهد الدولي بحيث صرح حرفيا أن التنازل عن الحق بسرية الاقتراع يتنافى معها. كما أنها أعلنت حرفيا أن تنازل أي من المقترعين عن السرية أو قيامهم بأي عمل من شأنه جعل وجهة اقتراعهم معروفة من العامة إنما يشكل انتهاكا لمبدأ سرية الانتخابات. وقد ذهب في الاتجاه نفسه مجلس أوروبا في مقرراته 1590 (2007) حيث أعلن حرفيا أن سرية الاقتراع ليس فقط حقا للناخب إنما موجبا عليه أيضا.
المحكمة تفسّر الوقائع على نحو ينفي المخالفات الانتخابية
فرصة أخرى أضاعتها المحكمة وتمثلت في وضع حدّ لممارسات استغلال السلطة والنفوذ، ومن ضمنها السلطة التأديبية، لمنع المرشحين من ممارسة حقوقهم السياسية. ففي هذا السياق، أشارتْ المستدعية أليسار قبيسي إلى تعرّضها للتهديد المعنوي عبر كتاب موّجه من محامي نقابة محرري الصحافة اللبنانية رداً على مطالبتها من مجلس النقابة بتزويدها بجداول الناخبين، الذي تضّمن العبارة التالية: “نحذركم من أية مغامرة قضائية تنعكس عليكم مطالبة بالتعويض عن العطل والضرر”. وقد وضعت جمعية ديمقراطية الانتخابات هذه العبارة بحسب ما جاء في بيناها في خانة الترهيب. إلا أن المحكمة هنا أيضا تعاملتْ مع هذا الكتاب بما احتواه من لغة عنيفة وجّهها مجلس النقابة ردّا على طلب مرشحة، على أنه مجرد تهديد بالقانون، متجاهلة تماما أنه صادر عن سلطة نقابية بعض أعضائها ترشحت قبيسي ضدهم، وأنه وهذا الأهم صادر بهدف ثنيها عن المطالبة بحقوقها كمرشحة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.