“
عرضت “وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان” تصورها الأولي “لمشروع القانون الأساسي المتعلق بمناهضة التمييز العنصري على الاستشارة العمومية[1]. ويعدّ هذا العرض خطوة إيجابية في اتجاه تحقيق صياغة تشاركية بين المجتمع المدني والحكومة لمشروع القانون.
وإذ تثمن المفكرة هذا التوجه، فإنها تذكر أن عددا من نواب الشعب كانوا تقدموا بتاريخ 12-07-2016 بمقترح قانون تحت عدد 54-2016 بذات الموضوع وأنه كان من الأسلم أن تتفاعل الوزارة مع مبادرة هؤلاء عوض تقديم مشروع خاص بها. وكان يمكن في مثل هذه الحالة للطرف الحكومي أن يعوّل على نقاشات مجلس نواب الشعب لتطوير نص المقترح التشريعي النيابي. أما وأنّ الوزارة لم تتّجه في هذا المنحى، واختارت أن تمارس حقها في المبادرة التشريعية فيكون من المهم إبداء بعض الملاحظات على مشروع قانونها.
ملاحظات حول الأحكام العامة
حدد الفصل الأول من مشروع القانون هدفا له قوامه “مناهضة جميع أشكال التمييز العنصري ومظاهره حماية لكرامة الذات البشرية وتحقيقا للمساواة بين المواطنين في التمتع بالحقوق وعند أداء الواجبات وفقا لأحكام الدستور التونسي والمعاهدات الدورية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية”. ويلاحظ هنا أن التنصيص على المساواة بين المواطنين كهدف للقانون قد يوحي بأنه يخص بحمايته مواطني الدولة التونسية دون سواهم من الممارسات العنصرية بما يتعارض مع فكرة المشروع. ويفترض لمنع هذا اللبس أن تبرز الأهداف بوضوح “القيمة الإنسانية” لمناهضة العنصرية. وقد يكون من الأجدى استبدال الفصل المذكور بالفصل الأول من المقترح النيابي والذي جاء فيه: “يهدف هذا القانون إلى القضاء على كل أشكال التمييز بين البشر القائم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني أو الدين وذلك من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية عبر التصدي لمختلف أشكاله بتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم ووضع الآليات الكفيلة بحماية ضحاياه”[2]. ويحقق هذا المقترح متى تم القبول به التفاعل الإيجابي مع المبادرة النيابية واعترافا من الحكومة بجهد من سبقها في البحث والاجتهاد.
فيما يتعلق بالفصل الثاني من مشروع القانون، فإن ما تضمنته الفقرة الأولى منه من إبراز للاتفاقات الدولية المصادق عليها من الجمهورية التونسية في تعريف الميز العنصري يعد أمرا ايجابيا يتعين الحفاظ عليه خصوصا وأنه من المؤاخذات الكبرى التي توجه للقضاء الوطني في المجال عدم التجائه لتلك الاتفاقيات عند النظر في المنازعات التي تعرض عليه.
كما تقترح “المفكرة” مراجعة المادة الخاصة بتبرير الأفضلية المعطاة للمواطنين. فقد جاء في هذه المادة: “لا يعدّ تمييزا عنصريا كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل بين التونسيين والأجانب، على ألا يستهدف ذلك جنسية معينة مع مراعاة الالتزامات الدولية للدولة التونسية”. فثمة ضرورة في هذا المجال في ضبط هذا الاستثناء بمعايير موضوعية، لئلا يمس بجوهر مبدأ المساواة كأن ينحصر الاستثناء في مجالات معينة. ومثل هذا التحديد يكون مفيدا جدا في منع كل انحراف ذي طابع عنصري من الجهات الإدارية والحكومية التي تصدر المقررات الإدارية لكونه يمكن القضاء الإداري من آليات رقابة حقوقية عليها.
ملاحظات حول باب الوقاية والحماية:
ينص الفصل الثالث من المشروع على أن الدولة “تضبط السياسات والاستراتجيات وخطط العمل الكفيلة بالوقاية من جميع مظاهر وممارسات التمييز العنصري ومكافحة جميع القوالب النمطية العنصرية في مختلف الأوساط ونشر ثقافة حقوق الإنسان والمساواة والتسامح وقبول الآخر بين مختلف مكونات المجتمع. وتتخذ الدولة في هذا الإطار التدابير اللازمة لتنفيذ ذلك في جميع القطاعات خاصة منها التعليم والتربية والثقافة والإعلام”. كما ورد في الفصل الرابع منه: “تساعد الدولة على وضع برامج متكاملة للتحسيس والتوعية والتكوين لمناهضة جميع أشكال التمييز العنصري في كافة الهياكل والمؤسسات العمومية والخاصة وتراقب تنفيذها”.
وكان يؤمل أن يتضمن الجزء الخاص بالحماية تنصيصا صريحا على وجوب مشاركة المجتمع المدني في ضبط السياسة الحمائية من السلوكيات العنصرية تحقيقا للديمقراطية التشاركية التي نص عليها الدستور التونسي وبما يحقق تفاعل المجتمع مع سياسات الدولة التي تهدف لمعالجة أمراضه الاجتماعية من خلال نشر ثقافة التسامح ونبذ العنصرية. كما كان يستحسن توضيح أن الدولة تقوم بمسؤولياتها في نشر خطاب التسامح ونبذ العنصرية من خلال الهيئات التعديلية المستقلة الخاصة بالإعلام، وذلك رفعا لأي التباس.
نظّم المشروع إجراءات حماية ضحايا الممارسات العنصرية بموجب الفصل الخامس منه والذي اقتضى “يتمتع ضحايا التمييز العنصري بالحق في (الحماية القانونية وفق التشريع الجاري به العمل) و(الإحاطة النفسية والاجتماعية المناسبة لطبيعة التمييز العنصري الممارس ضدهم بما يكفل أمنهم وسلامتهم وحرمتهم الجسدية والنفسية وكرامتهم) و(تعويض قضائي عادل ومناسب عن الإضرار المادية والمعنوية اللاحقة بهم جراء التمييز العنصري).
ويلاحظ أن هذه الإجراءات أتت بصيغة عمومية. ومن المستحسن الاستفادة في هذا المجال مما تضمنه القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة من تفصيل فيما تعلق بالإجراءات الحمائية ومن تحديد لمسؤوليات المتدخلين العموميين في تنفيذها. ومن الوسائل الممكنة لتأمين حماية أفضل لضحايا الممارسات العنصرية، الآتية:
- فرض حقهم في أن يتم التكفل النفسي والصحي بهم بالمؤسسات الاستشفائية العمومية على حساب المجموعة العمومية،
- إمكانية التحجير المؤقت على من اتهم بالممارسة العنصرية الاتصال بالضحية لحين صدور حكم قضائي،
- فرض حق ضحايا العنصرية في الإعانة العدلية المجانية.
كما نلاحظ أن واضع المشروع يحصر اجراءات الحماية في ضحايا العنف المصلت على أفراد لأسباب عنصرية، في حين يجب أن تشمل الحماية أيضا الاعتداءات التي تستهدف الرموز الثقافية للأقليات، سواء كانت تلك الاعتداءات مادية أو معنوية، كلما تمت بدافع عنصري. ونقترح في هذا الإطار التنصيص على حماية خاصة لتلك الأقليات وموروثها الثقافي المهدد وتحميل المؤسسات العمومية الثقافية دورا في ذلك.
ملاحظات حول باب الزجر:
خص مشروع القانون الأحكام الزجرية بخمسة من فصوله الأربعة عشر بما يبرز المكانة التي أعطاها واضعوه لمعاقبة الممارسات التي تشكل ميزا عنصريا. وفي هذا السياق، اقترح المشروع تمييز الملاحقات الجزائية التي تتعلق بقضايا الميز العنصري باجراءات خاصة. كما جرّم ممارسات عنصرية لم تكن مجرمة سابقا بنص قانوني صريح.
- على مستوى الإجراءات الجزائية الخاصة:
نص الفصل السادس من مشروع القانون “على الشكاوى ضدّ كل من ارتكب فعلا أو أدلى بأقوال تتضّمن تمييزا عنصريّا على معنى هذا القانون ترفع من قبل الضحيّة أو الولي إذا كان الضحية قاصرا أو غير متمتع بالأهلية”. واقتضى “أن تودع الشكاوى المذكورة لدى كتابة حاكم النّاحية أو كتابة الدّائرة الجناحيّة بالمحكمة الابتدائية المختصة ترابيّا وترسّم بدفتر خاص، وتعفى من إنابة محام”. فيما ذهب الفصل السابع منه لفرض أن يتولى “حاكم النّاحية أو رئيس الدّائرة الجناحيّة بالمحكمة الابتدائية المختصة ترابيّا التعهد بالقضيّة المرفوعة لديه حال ترسيمها للقيام بأعمال البحث والتّحقيق”.
وتعليقا على ذلك، أمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
- أن المشروع فرض أن تكون الشكاية صادرة عن المتضرر أو وليه بحيث تعتبر كل شكاية أو وشاية تصدر عن سواهما غير مقبولة شكلا لصدورها عن غير ذي صفة في إثارة الدعوى العمومية. وهذا التوجه فيحال إقراره يكرس استثناء للمبدأ العام الإجرائي الذي يتوسع في قبول الإعلامات والشكايات والوشايات التي تتعلق بالجرائم. ويتعارض هذا التوجه مع ما تفرضه المواثيق الدولية من اعتبار الممارسات العنصرية “إنكارا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكا لحقوق الإنسان وللحريات الأساسية المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعقبة دون قيام علاقات ودية وسلمية بين الأمم، وواقعا من شأنه تعكير السلم والأمن بين الشعوب”[3]. كما يغفل هذا الاختيار وضع المتضرر الذي قد يكون في حالة ضعف وتهميش (أقلية دينية، أقلية عرقية، مهاجر سري..) تمنعه من التشكي وتفرض عليه واقعيا وفي الكثير من الحالات لزوم الصمت إزاء ما يتعرض له من ممارسات عنصرية.
ونقترح في هذا الإطار السير في الاتجاه المعاكس من خلال التنصيص صراحة على أنه من واجب كل من بلغ العلم إليه بجريمة عنصرية إعلام السلط العمومية بها وبالتنصيص صراحة على حق جمعيات المجتمع المدني ذات الاختصاص بممارسة الحق في إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة كلما تعلق الأمر بجريمة عنصرية.
- أن المشروع فرض أن توجه الشكاية مباشرة للمحكمة المختصة. يمنع هذا الاختيار تعهد النيابة العمومية ومن خلفها أعوان الضابطة العدلية من البحث في الجرائم العنصرية. ويمس هذا الاختيار بأصول المحاكمة الجزائية التي تفرض الفصل بين جهة التتبع وجهة الحكم وقد يؤول لفرض ما يشبه الإجراءات الاستثنائية تمس مقتضيات المحاكمة العادلة بما يتعارض مع أحكام الفصل 110 من الدستور التونسي الذي ينص صراحة على تحجير ذلك. وعلاوة على ما ذكر، فإن نشر الشكاية كما ترد من المتضرر أمام المجلس القضائي دون أبحاث أولية قد يؤدي إلى أن تنظر المحكمة في دعوى لم يتم استكمال استقراءاتها بما يمنعها من الفصل العادل فيها. وفي ما يرجح أن يكون هذا المقترح رمى إلى حماية ضحايا العنصرية من الآراء المسبقة لدى عناصر الضابطة العدلية، فإن الحل الأمثل لتحقيق هذا الهدف يكون برأينا بأن يتم تكوين أعوان من الضابطة العدلية في تخصص قضايا الميز العنصري. كما نقترح أن ينص المشروع على حق المتضرر الكامل في الاستفادة من نظام الإعانة العدلية، دون أن يتم ربط ذلك برأي اللجنة المختصة في إسنادها[4].
- فيما تعلق بالجرائم العنصرية:
ميز المشروع في الفصلين 08 و09 منه بين اقتراف فعل عنصري وبين التحريض على ممارسة عنصرية. وقد فرض عقوبة على كل من اقترف فعلا عنصريا يتراوح بين الشهر والستة أشهر وخطية مالية فيما نص على معاقبة الجرائم التحريضية بعقوبة تتراوح بين العام والثلاثة أعوام وخطية مالية.
ونلاحظ هنا أن هذا التصنيف يغفل أن الجرائم العنصرية يمكن أن تكون جنايات حق عام كان الفكرة العنصري الدافع عليها. ونقترح لتجاوز هذا الخلل التنصيص على العنصرية كظرف تشديد إذا ما كانت الدافع على اقتراف جرائم حق عام.
ملاحظات حول إنشاء اللجنة الوطنية لمناهضة التمييز العنصري
فرض المشروع أن يكون المجتمع المدني ممثلا وجوبا في هذه اللجنة التي يعود لها اقتراح سياسات الدولة في مكافحة العنصرية. ويبدو هذا الاختيار إيجابيا ونقترح تدعيمه من خلال إيجاد تواصل هيكلي بينها وبين هيئة حقوق الإنسان التي استحدثها الدستور التونسي وذلك بفرض عرض تقارير هذه اللجنة وتوصياتها على هيئة حقوق الإنسان. كما نقترح أن يفرض القانون على الحكومة نشر كل التوصيات والأعمال التي تصدرها هذه اللجنة ضمانا لشفافية أدائها أولا وتحقيقا لغاية توعية المجتمع بواقع الممارسات العنصرية صلبه ثانيا.
نشر هذا المقال في العدد 9 من مجلة المفكرة القانونية في تونس.
[1] تم استحداث الاستشارة العمومية حول مشاريع التشريعات بموجب المنشور عدد 31 لسنة 2014 الصادر عن رئيس الحكومة والذي ورد بطالعه ” أنه في اطار تكريس مبادئ الحوكمة الرشيدة التي ترتكز على الشفافية والمقاربة التشاركية في مجال اعداد النصوص التشريعية والترتيبية ، فقد احدثت رئاسة الحكومة خدمة قانونية تحت عنوان ” مشاريع نصوص معروضة على استشارة العموم ” تتولى من خلالها نشر بعض مشاريع النصوص التشريعية والترتيبية لتمكين العموم من الاطلاع عليها وابداء ما لهم من تعليقات في شأنها ”
[2] يراجع موقع مجلس نواب الشعب التونسي
[3] المادة الأولى من إعلان الأمم المتحدة للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري
[4] يمكن نظام الإعانة العدلية من يستفيد به من الاستعانة بمحام ومساعدي القضاء دون بذل مصاريف مالية
“