فيما اتفق أعضاء المجلس الدستوري على الموازنة الحاصلة في القانون بين فئتي المالكين والمستأجرين القدامى، فإنهم انقسموا بالمقابل بخصوص المواد المتصلة بإنشاء اللجنة الخاصة لتحديد بدل المثل للمآجير أو لبتّ مدى أحقية المستأجر القديم للاستفادة من مساعدة مالية. فهل هذه المواد مطابقة للدستور؟ وما هي الضمانات التي يقتضي إحاطة تعيين أعضاء اللجنة بها؟ وبشكل أعم، ما هي ضمانات المحاكمة العادلة الواجب توافرها وفق الدستور في عمل هذه اللجان وهل هي متوافرة فعلياً؟ وهل يشكل حرمان المتقاضين أمامها من حق الطعن في قراراتها مخالفة دستورية عملاً بحق التقاضي على درجتين؟ أمام هذه الأسئلة، نحت أكثرية أعضاء المجلس (سبعة) الى إعلان بطلان هذه المواد لعدم دستوريتها، فيما اتفق ثلاثة من أعضاء المجلس على تحرير مخالفة من سبع صفحات، تأكيداً على خلوّ هذه المواد من أي مخالفة دستورية. واللافت أن الخلاف بين الفريقين، لم يقتصر على كيفية تفسير النصوص أو المبادئ الدستورية أو تطبيقها، بل تعداه ليشمل النصوص أو المبادئ المرجعية المعتمدة منهما. فضلاً عن ذلك، جاءت المخالفة المحررة من قبل الأقلية لإثبات دستورية المواد مفعمة بتناقضات ونواقص، الى حد يشي بانحياز واضح.
اختلاف حول ماهية القواعد الدستورية الملزمة
وفي هذا المجال، بدا الطرفان، الأكثرية كما الأقلية، وكأنهما يقرآن في دستورين مختلفين.
فالأكثرية بنت تحليلها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الدستور وعلى المادة الثامنة منه الخاصة بحق اللجوء الى محكمة[1]، وعلى المبادئ العامة الدستورية. وهي بذلك توسعت بوضوح في إضفاء المرجعية الدستورية على المبادئ المتصلة بالمحاكمة العادلة وبضمانات التقاضي، على نحو يسمح للمجلس الدستوري بفرض رقابة واسعة على الأحكام القانونية المطعون فيها وفق ما نتناوله أدناه.
بالمقابل، ذهبت الأقلية في اتجاه معاكس تماماً. فهي حصرت درسها لدستورية المواد المطعون فيها في محل واحد، وهو مدى مخالفتها للمادة 20 من الدستور الخاصة باستقلالية القضاء، من دون أن تتطرق من قريب أو بعيد الى “المبادئ العامة الدستورية” التي ارتكزت عليها الأكثرية. وقد رأت انطلاقاً من ذلك “أن الفرق ساطع بين السلطة القضائية المنصوص عليها في الدستور (مادة 20) وبين الصفة القضائية للجنة إدارية أعطاها المشرّع بسلطته التقديرية حق بت نزاعات تنشأ عن العلاقة التأجيرية”. فكأن بإمكانها مخالفة حجج الأكثرية من دون الاستماع اليها أو مناقشتها ومن باب أولى من دون إيلاء أي جهد تحليلي لدحضها. وقد بدت الأقلية من خلال ذلك وكأنها تعمد الى تضييق هامش رقابة المجلس على التشريع وذلك في اتجاه معاكس تماماً لما قامت به الأكثرية. ونقرأ ذلك ضمناً في عدد من الحيثيات الواردة في متن المخالفة حيث جاء أنه “لا يسوّغ المجلس الدستوري تخطي حدود اختصاصه التي تقف عند حد مراقبة أعمال اللجان لناحية ائتلافها مع نصوص الدستور” وأيضاً أن “الرقابة الدستورية تتجلى عند تعارض النص القانوني والنص الدستوري”. وبذلك، تكون الأقلية قد حصرت دور المجلس الرقابي بـ”النص الدستوري” (وتحديداً المادة 20) وأهملت تبعاً لذلك ليس فقط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمبادئ العامة الدستورية ولكن أيضاً العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بما تضمنه من مبادئ هامة على صعيد مبادئ المحاكمة العادلة. إلا أن إعلان هذا الموقف من دون تعليل يجعله أقرب الى موقف براغماتي يرمي الى تحصين قانون تحرير الإيجارات القديمة منه الى موقف مبدئي بشأن حدود الرقابة الدستورية. وما يؤكد هذه القراءة هو أن الأقلية نفسها قد وافقت الأكثرية بشأن الحيثيات المتصلة بالموازنة بين المالكين والمستأجرين القدامى، والتي استندت في أجزاء كبيرة منها الى مفاهيم وردت في مقدمة الدستور مثل الإنماء المتوازن والعدالة الاجتماعية الخ..
واللافت أن هذا الاختلاف الكبير لا يحصل بشأن مسألة هامشية بل بشأن إحدى أهم وأخطر المسائل أي ضمانات التقاضي واستقلال القضاء، وأنه يحصل بشأن مسألة حسمها المجلس الدستوري الذي أقر مفهوم المبادئ العامة الدستورية في قراره الصادر في 27-6-2000.
لجنة إدارية ذات صفة قضائية، أي ضوابط دستورية؟
هنا، اتفق الطرفان على توصيف اللجنة على أنها لجنة إدارية ذات صفة قضائية وعلى أن للسلطة التشريعية أن تنشئ لجاناً مشابهة. إلا أنهما اختلفا تبعاً لاختلافهما على المرجعية الدستورية، بشأن المواصفات والضمانات الواجب توافرها فيها لتخويلها الفصل في نزاعات ذات طابع قضائي، كما حصل في هذا القانون.
وفي هذا السياق، رأت الأكثرية أنه يتعين على السلطة التشريعية أن تحيط اللجان المشابهة التي تنشئها بضمانات لجهة كيفية تعيين أعضائها أو الإجراءات المتبعة منها، منعاً لإهدار الحق بالتقاضي. وكان من اللافت في هذا الإطار أن تحدثت الأقلية عن “تمادي السلطة الاشتراعية في إنشاء لجان تمنحها الصفة القضائية، دون التقيد بالشروط المطلوبة لذلك”، معتبرة ذلك “انتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”. ومن المآخذ التي سجلتها الأكثرية هو أنه ما خلا عضو اللجنة الذي هو قاض عامل أو قاض متقاعد، تبدو ضمانات استقلالية سائر الأعضاء موضع شك: فهنالك عضوان منتدبان من وزارتي المالية والشؤون الاجتماعية من دون أي ضمانة لناحية استقلاليتهم.أما ممثلا المالكين والمستأجرين المشار اليهما، فلا يحدد القانون كيفية تعيينهما أو انتخابهما كما لا يضمن بأي شكل استقلاليتهما. وقد خلصت انطلاقاً من ذلك الى القول بأنها لجنة غير محصنة. كما سجلت خلو القانون من تحديد الإجراءات المعتمدة منها ما خلا كيفية تبليغ الأشخاص المعنيين بالنزاع العالق أمامها. وبذلك، لا نعلم إذا كان يتعين على اللجنة تعليل أحكامها أو ضمان مبدأ الوجاهية وحق الدفاع للمتقاضين.
بالمقابل، اكتفت الأقلية بالقول بأن هذا النوع من اللجان يخرج عن مفهوم السلطة القضائية المنصوص عليها في الدستور، فلا يكون للمجلس تالياً البحث في مدى توافر استقلالية أعضائها أو الضمانات القضائية. وهي بدت وكأنها تشرّع من خلال ذلك انتهاك ضمانات المحاكمة العادلة بمجرد إناطة صلاحية بت النزاع بلجان إدارية. وفيما لم تعر الأقلية أي اهتمام للمبادئ الواردة في مقدمة الدستور، فإنها اكتفت بوضع ضابط دستوري واحد على اللجان الإدارية ذات الصفة القضائية مفاده أن “قرارات اللجنة نافذة ولا تخضع لمصادقة السلطة الإدارية أو سواها”، ما يقوّض أي تهمة بوجود فصل للسلطات. والأغرب من ذلك هو أنه رغم أنها اعتبرت المجلس غير صالح لإجراء تقييم بشأن توافر ضمانات المحاكمة وأنها امتنعت فعلياً عن أي تقييم مماثل، فإنها انتهت الى التأكيد من دون أي تعليل يذكر على أن “الضمانات متوافرة كلياً للجنة وأعضائها وللمتقاضي الذين هم مؤجر ومستأجر”. ومن خلال هذه العبارة، بدت الأقلية وكأنها لا تجد مانعاً في إطلاق العنان لتأكيدات لا تستند الى شيء، أو عملياً في الظهور مظهر المنحاز. وما يزيد الأمر خطورة هو أنها استمدت من مخالفات التشريع السابقة (إنشاء هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وسائر اللجان المعينة) حجة لتبرير التشريع الحالي، بدل استغلال مناسبة الطعن بقانون الإيجارات لوضع ضوابط لإنشاء لجان مماثلة. ومن يقرأ هذه المخالفة، يخرج تالياً بانطباع عبثي مفاده أن مبدأي استقلال القضاء وفصل السلطات يرتبطان بجهاز عضوي (قاض أو محكمة) أكثر مما يرتبطان بوظيفة الفصل في النزاعات، وأنه بإمكان المشرّع تجاوزهما في أي حين من خلال اللجوء الى تقنية اللجان الإدارية ذات الصفة القضائية.
التقاضي على درجتين: مبدأ دستوري؟
هنا أيضاً، برز خلاف أساسي بين الفريقين، علماً أن كلا الموقفين يقبلان النقد.
فالأكثرية اعتبرت أن للمجلس أن يقدّر ما إذا كان المشرّع قد أخل بضمانات التقاضي في حال حصر التقاضي بدرجة واحدة. فأي تجاوز لقاعدة التقاضي على درجتين يجب أن يكون مسنداً الى “أسس موضوعية تمليها طبيعة النزاع وخصائص الحقوق المثارة فيه، وأن تكون الدرجة الواحدة محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي متوافرة فيها الضمانات”. وقد خلصت الأكثرية الى إعلان وجود مخالفة معتبرة أن القانون “حصن قرارات لجنة غير محصنة أساسها بجعلها قرارات نهائية وغير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة”. وبمعزل عن النتيجة التي وصلت اليها، إلا أنه من المؤسف أن الأكثرية تركت هامشاً واسعاً لتجاوز هذا المبدأ من خلال إحالتها الى مفاهيم مطاطة (أسس موضوعية، خصائص الحقوق، ..) وأنها فوّتت فرصة الطعن المقدم الى المجلس لوضع ضوابط أكثر دقة. كما أنه من المؤسف أن لا تذكر الأكثرية المجالات التي لا يجوز فيها التنازل مطلقاً عن حق المراجعة كما هي الحال بالنسبة الى المحكومين بجناية مثلاً (المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية)[2]. والمؤسف أكثر أن المجلس قد ذهب الى تشريع مخالفة دستورية مجاناً في سياق تعليله. فبعدما ذكر أن المجلس كرّس المبدأ بما يتصل بالأحكام التأديبية الصادرة بحق قضاة عدليين حين رفض غياب أي مراجعة قضائية في قراره المؤرخ في 27-6-2000، فإنه عاد وأعطى شهادة مجانية للمشرّع الذي انتهى وفق القرار “الى وضع أصول مناسبة بهذا الخصوص”. وهذه الشهادة تأتي لتدحض من دون أي تعليل مجموعة من الآراء التي تؤكد أن المشرّع قد عاد وخالف القرار المذكور حين جعل المرجع الاستئنافي للقرارات التأديبية تلك أمام هيئة عليا تنبثق كما هيئة التأديب الابتدائية عن المرجع نفسه الذي هو مجلس القضاء الأعلى[3].
بالمقابل، فإن الأقلية رأت أن المشرّع غير مقيد دستورياً بأشكال إجرائية محددة، وبالتالي غير مقيد بأن تنظر نزاعات المواطنين في أكثر من مراجعة واحدة من درجات التقاضي، فالتقاضي على درجة واحدة جائز دستورياً كلما استدعت الخصومة واقتضت السرعة في إنهاء صور من المنازعات بالنظر الى طبيعتها. وهذه العبارة تستدعي ثلاث ملاحظات:
– أولاً أنها تضرب عرض الحائط بالقرار الصادر عن المجلس نفسه في 27-6-2000 كما تضرب مجمل النصوص الواردة في المواثيق الدولية لهذه الجهة،
– أن الأقلية ناقضت نفسها. فهي من جهة تقول بانعدام أي قيد أمام المشرّع لتسارع الى القول بأن له القيام بذلك إذا اقتضت السرعة ذلك، وهو شرط متوافر بحسب رأيها لضرورة حسم عدد الدعاوى الكبير بين المستأجرين والمالكين في هذا الخصوص، ولا سيما أن سريان بدل المثل يبقى وقفاً على انتهاء النظر في أحقية المستأجر بالمساعدة المادية،
– أن الأقلية بدت وكأنها تحقّر من أهمية التقاضي على درجتين، من خلال القول إن الدستور اللبناني قد خلا من أي نص يجعل الخصومة على أكثر من درجة واحدة، لأن حرصه في المادة 20 كان منصباً على تأمين محاكمة منصفة وعادلة يؤمنها قضاة مستقلون ضمن نظام يحفظ لهم وللمتقاضين الضمانات اللازمة.
نشر هذا المقال في العدد | 20 |آب/أغسطس/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ملاحظات المفكرة القانونية حول قرارالدستوري في قضية الإيجارات القديمة
[1] لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون.
[2]لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء، وفقا للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفى العقاب الذي حكم به عليه.
[3]طارق مجذوب، أي أثر لقرارات المجلس الدستوري أمام القضاء الإداري؟ (قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12-7-2010 نموذجا)، المفكرة القانونية، عدد 7، كانون الثاني 2013.