في سياق تهيّئه لخوض الانتخابات النيابيّة 2022 وسعْيه للانخراط في تحالف لقوى المعارضة على مستوى الوطن لهذه الغاية، قدّمت حركة مواطنون ومواطنات في دولة اقتراحا لافتا قوامه أن يعلن التحالف بمختلف قواه إنشاء مجلس وطني مدنيّ يتكوّن من الأشخاص المرشّحين على لوائحه. وهو مجلسٌ يستمدّ شرعيّته كمجلس بديل من حصوله على نسبة من الأصوات على أساس وطنيّ غير طائفي، وهي نسبة يأمل أصحاب الاقتراح أن تتجاوز ما قد يحصل عليه أيّ من أطراف السلطة عبر مرشّحيه. وكان مجموعة من الأشخاص، قد تداعُوا من قبل في 2021 لإنشاء مجلس مدنيّ، إنّما من أشخاص يختارُون بعضهم البعض وفق معايير معيّنة وبمعزل عن أيّ استحقاق انتخابيّ. وفي حين لم تصلْ تلك المبادرة إلى خواتيمها، فإنّ للمُبادرة الجديدة ميزة ثانية هي تحديدا ارتباطُها بعامل زمنيّ ضاغط، هو وجوب تكوين اللوائح قبل 4 نيسان 2022. وهي مبادرة يمكن أن تستمدّ شيئا من فلسفة المبادرة الأولى، بصورة من الصور عند الاقتضاء. وهذا ما يتيحُه الاقتراح من خلال فتح الباب أمام انضمام عدد محدود من الأشخاص من غير المرشّحين يختارهم أعضاء المجلس فيه لاحقا.
ومن دون الغوض في تفاصيل الاقتراح المذكور (وهو أمر قد نقوم به في مرحلة لاحقة)، سنحاول هنا التّفكير بأهميّة إنشاء مجلس مماثل والمحاذير المحيطة به.
أولا، تجميع “المختلفين” في المعارضة
الفائدة الأولى تحدث عنها المُقترح نفسه حيث ورد ضمن تعريف المجلس أنّه يقوم على “تجميع قوى المعارضة على مشروع مُشترك للسّلطة، وهو تجميع يختلف في جوهره عن التحالفات الانتخابية الهزيلة والمؤقتة”. نفهم من ذلك أنّه يؤمل أن يشكّل المجلس أداة لمأسسة التواصل والعمل المشترك بين قوى المعارضة رغم اختلاف مشاربها. وهي مأسسة يُؤمل منها أن تشكّل فضاءً لبلورة أوجه التشابه التي غالبا ما تحجبُها حاجة المجموعات المُنشأة حديثا إلى التمايز وأيضا لتوحيد الأولويات والمواقف والبرامج أو على الأقل تضييق الهوة فيما بينها. وما يبرّر الحاجة إلى هذه المأسسة بشكل خاصّ عاملان إثنان: الأول، تجفيف الحياة السياسيّة في العقود السابقة وتحويلها إلى فضاء تتحكّم فيه الأحزاب القائمة على أساس عصبيّ، مع ما استتبع ذلك من تهميش للأحزاب العابرة للطّوائف وتضييق للفضاءات العامة وإفقار للنقاشات والمداولات العامّة. أما العامل الثاني فيتّصل بماهية المعركة ضدّ النظام والتي أمكن وصفها بالوجودية. ففي معارك مماثلة، غالبا ما تجد القوى السياسيّة نفسها مضطرة على تجاوز خلافاتها الإيديولوجية أو الفكرية وإرجاء النظر فيها للتكاتف في خوض المعركة ضدّ ما قد تعتبره خطرا داهما على المجتمع برمّته.
وعليه، وانطلاقا من هذيْن السببيْن، يعكس هدف تجميع المعارضة ضمن المجلس المذكور نضْجا معيّنا لدى قواها، في اتجاه التّسليم بخلافاتها وضرورة بذل الجهد لضمان حسن إدارة هذه الخلافات، بحيث يصبح الوصول إلى برامج مشتركة غاية وهدفا للعمل المشترك وليس شرطا لمباشرته.
إلا أنه ورغم رومنطقية هذا الطّرح، فإنّ وضعه موضع التنفيذ يبقى محفوفًا بصعوبات عدّة. فما هو هامش الاختلاف المقبول؟ وما هو بالمقابل الاختلاف الذي يمنع التلاقي والذي أمكن وصفه بالاختلاف الجوهريّ؟ بالعودة إلى المشروع المطروح، نلحظ أن واضعيه اختاروا الإضاءة على “معيار أوحد” للتنسيق السياسيّ، وهو يقوم على التزام “المواجهة والقطيعة مع أدوار السّلطة جميعها، من علاقات زعاماتيّة مع الداخل وتسوّل وخضوع تجاه الخارج إلى تحويل السياسة إلى زبائنية ومنافع وخطابات مناطقية وسعي وراء المناصب كغاية”. وهذا المعيار إنّما يظهر أن حجر الأساس لتجميع المعارضة ليس الاتفاق ضد خصم معين أو الاتفاق على مجموعة من المرجعيات القيمية أو العناوين العريضة، ولكن قبل كل شيء الالتزام بتصور مشترك للعمل السياسي هو نقيض التصوّر السائد. ويستدلّ من ذلك أن التغيير المطلوب وفق هؤلاء ليس مجرّد تغيير لأحزاب أو وجوه في الحكم بل تغيير لماهية العمل السياسيّ والغاية منه وأدواتِه. والتركيز على هذا المُعطى لا يتأتّى من رؤية مثاليّة للعمل السياسي الذي يفترض به أن يرتقي إلى مستوى خدمة المصلحة العامة وحسب، بل أيضا عن قناعة بخطورة إعادة إنتاج التصوّر السائد والناتج عن ممارسات مزمنة لأحزاب السلطة وزعاماتها. وهو التصور الذي يقوم على الانخراط في صناعة ومبايعة زعامات ينقسم المجتمع في معظمه حولها تمهيدا لإعمال المحاصصة وتعميق الانقسام في محاور إقليمية ودولية (وهذا ما أسماه الاقتراح بالتسوّل والخضوع تجاه الخارج).
ويؤدّي اعتماد هذا المعيار عمليا إلى نتيجتين مباشرتين:
الأولى، إقصاء القوى أو الشخصيات السياسيّة التي تماهتْ في السّابق أو ما زالت تتماهى مع طرق اكتساب السلطة وممارستها، والتي أمكن وصفها بالقوى التقليدية، والتي يرى واضعو الاقتراح أن لا مكان لها في المجلس البديل،
الثانية، فتح باب واسع أمام انْضمام مجموعات مختلفة تماما في منطلقاتها وأولوياتها وبرامجها، مما يمهّد لتحويل المجلس إلى فضاء تتلاقى وتتقارع فيه التوجّهات المختلفة أملا بالتقائها على برامج وأهداف موحّدة رغم هذه الاختلافات. وهذا تطوّر هامّ كما سبق بيانه مقارنة مع ما كانت الكثير من قوى المعارضة تشترطه من قبل لجهة توحيد البرامج أو الاتفاق على قائمة طويلة من المبادئ والتفاهمات. إلا أن تفريغه بالمقابل من أيّ قيم مرجعية قد تشكل لغة مشتركة ضابطة للنقاش يبقى قابلا للانتقاد وهو أمر قد يكون بإمكان المجلس المنشأ استلحاقه من خلال وضع شرعة أكثر تطورا. يبقى أنّ الاستفادة من هذا الفضاء الواسع يتطلّب حرصا على إدارة حكيمة للنقاشات داخل المجلس، بما يحول دون نشوء أكثريات دائمة تهيمن عليه وتنتهي دوما إلى فرض خياراتها من دون أن يكون للأقليات وقت ومساحة كافيين للدّفاع عن وجهات نظرها.
وعليه، وفي حين يشكّل إقصاء القوى التقليدية من المجلس عامل إضعاف لقوى المعارضة في وجه السّلطة التي تتحكم بذمام الحكم (وهو أمر قد يمكن تعويضه في أظر أخرى)، فإنّه قد يبدو بالمقابل ضرورةً تفرضها الغاية منه، وبخاصّة الغاية المتمثّلة في جعله فضاءً مُنتجا بين قوى المعارضة رغم اختلافاتها. فتتلاقى وتتقارع فيه التوجّهات المختلفة من دون أن تكون أيّ منها مثقلةً بثوابت بنيوية (شخصية أو طائفية أو مناطقية)، هي في صلب مشروعيتها السياسية وتكون عادة غير قابلة لأيّ نقاش. وعليه، ما قد تفقده المعارضة بفعل ذلك لجهة وزنها السياسي، فإنّها قد تعوّضه بالمقابل على صعيد تعميق التفاهمات والبرامج المشتركة فيما بينها والأهمّ على صعيد بناء نموذج جديد للعمل السياسيّ وهو نموذج بات تظهيره حيويّا أكثر من أيّ وقت مضى.
وقبل الانتقال إلى الميزة الثانية، يجدر التنبيه إلى وجود معيار آخر شخصيّ وهو المعيار الذي يقوم على الاعتراف المتبادل بين الأشخاص من خلال قبولهم الائتلاف في معركة انتخابية على مستوى الوطن، وهو أمر لا يمكن تعريفه بشكل دقيق على اعتبار أنّ جزءا منهُ على الأقلّ يستند إلى معايير (كالثقة أو الرغبة بالتعاون أو اشلعور بالتكامل) يصعب قياسها بصورة موضوعية.
ثانيا، مجلس وطني لبلورة “المصلحة العامة” وضمان تحقيقها
الميزة الثانية بالغة الأهمية للمجلس هي إعادة السياسة إلى دورها الأساسيّ المتمثّل في استشراف المصلحة العامة وتحقيقها، وهي المصلحة التي يجدر تغليبُها على المصالح الشخصيّة والمناطقيّة المُشار إليها أعلاه.
وبفعل هذه الميزة التي تتأتى بشكل تلقائي عن اعتماد التّصوّر الجديد للعمل السياسيّ، يؤمل أن يصبح المجلس الوطني بمثابة نقيض للمجلس النيابيّ الحاليّ، الذي تحوّل بفعل حكم زعماء الطوائف إلى مجلس يضمّ كتلا تبايعهم وتجهد لتغليب مصالحهم ووجهات نظرهم (وهي بالضرورة فئوية) في كل استحقاق وفق منطق المحاصصة ومساومات لا تنتهي، مع قليل اهتمام بالمصلحة العامة. وليس أدلّ على ذلك حصول الانهيار الذي كان مُرتقبا من دون أن تقوم أيّ من السلطات السياسية بأدنى جهد لمنع وقوعه أو للحدّ من مفاعيله أو معالجة التّداعيات الناجمة عنه. وكذلك الأمر بخصوص انفجار المرفأ حيث سفّهت هذه السلطات مخاطر تفجير أجزاء واسعة من أحياء العاصمة وناسها، فلم تحرّك ساكنا لإخراج المواد المتفجرة من المرفأ. في كلتا الكارثتين، بدا الجرم الأكبر ملازما لطبيعة نظام الحكم الذي يقوم قبل كل شيء على حجب المخاطر أو المصالح العامة تحت ظلال كثيفة من المخاطر والمصالح الفئوية التي يتجند الكل لخدمتها.
وبذلك، بدتْ القوى الاجتماعية وكأنها تلقّت إنذارين كبيرين (كلا منهما بحجم الوطن) سواء عند بروز معالم الانهيار أو عند اشتعال المرفأ حول الخلل الحاصل في نظام الحكم بنتيجة الهوس بالمصالح الفئوية وطمس مصالح المجتمع وقدرته التدميرية للمجتمع برمته. وإذ أسهم هذان الإنذاران في تعزيز الوعي العامّ، فإن إنشاء مجلس يراد منه أن يكون مكانا أساسيا لإعادة الاعتبار لمصالح المجتمع إنما يشكل ردّا ضروريا في اتجاه تحرير المصالح الحيوية من غشاء العصبية.
ثالثا: مجلس يمهّد لصناعة بديل
الميزة الثالثة المأمولة للمجلس، هو أن يتحوّل إلى نمُوذج بديل (نقيض) للمجلس النيابي الحالي. وهنا أيضا ما يؤمل به ليس فقط مجلسا تحضر فيه وجوه مختلفة، بل قبل كلّ شيء مجلس يختلف عن السابق إلى حدّ تشكيل نقيض له في منطلقاته وأولوياته وأصول المناقشة فيه أو اتّخاذ القرارات. ومن هنا، يؤمل أن يظهّر أداء المجلس عيوب المجلس النيابي الحالي، سواء لجهة الجديّة في المداولات أو الديمقراطية في إدارتها أو في اتخاذ القرارات والأهم لجهة وصوله إلى نتاج تُغلّب فيه اعتبارات المصلحة العامة على أيّ اعتبار آخر.
ومن شأن ذلك أن يُظهّر أكثر من أيّ أمرٍ آخر عيوب المجلس الحاليّ. ولإدراك ذلك، يكفي أن نتخيل لو كان مجلس كالذي نتصوره الآن موجودا حقيقة غداة بروز الانهيار، أو أن نتخيّل ما كان أن يجري فيه من مداولات ونقاشات حول أسباب الأزمة وسبل التخفيف من تداعياتها والاحتكار والسرية المصرفية وكيفية إعادة إنعاش الاقتصاد والصحة والتعليم والنقل العام…إلخ.
ولا يُخفى أنّه في حال النجاح في إرساء المجلس الوطنيّ، فإنّ تحقيق هذه الميزة سيكون الهدف الأصعب بحيث أنه يتطلّب توفر خبرات عالية والكثير من النضج وحسن التنظيم.
ولعلّ النموذج الأقرب للمجلس المقترح هو مجلس حماية الثورة المنشأ في تونس في آذار 2011 بعد قرابة شهرين من ثورة 14 جانفي والذي ضمّ أبرز الشخصيّات والهيئات المناوئة للسلطة في زمن الديكتاتورية. وقد عمل هذا المجلس لفترة قبل أن يتحول بموافقة الحكومة التونسية إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس. وقد انتهى عمل هذا المجلس/ الهيئة إلى إنتاج عدد هامّ من مشاريع المراسيم الهامة التي سارعتْ السّلطات آنذاك إلى تكريسها كنصوص نافذة. وبقيت الهيئة قائمة إلى حين انتخاب الجمعية التأسيسية. بالطبع، وجه الشبه هنا يتصل بالنموذج أكثر مما يتصل بالقدرة، في ظل اختلاف موازين القوى بين القوى المعارضة وقوى السلطة في لبنان 2022 عما كانت عليه موازين القوى هذه في تونس 2011.
خلاصة:
من البيّن أنّ انتخابات 2022 في حال حصولها ستكُون مشوبة بمخالفات أكثر جسامة من أي وقت مضى، بما يجعلها بعيدة كل البعد عن أن تكون انتخابات حرّة أو ديمقراطية. فرغم ارتفاع منسوب الوعي الاجتماعي تبعا لانهيار 17 تشرين، فقد تضاعف بالمقابل منسوب الحاجة وإمكانيات استغلالها في المعترك الانتخابي في ظلّ تفقيرٍ غير مسبوق لشرائح واسعة من المجتمع اللبناني. وقد يكون نجاح قوى المعارضة في تكوين “مجلس بديل” في خضمّ الانتخابات أمرا هاما من أجل مأسسة الطعن في مشروعية مجلس نيابي يرجّح أن يكون مرة أخرى في غالبه فسيفساء من العصبيات.