تعتبر العقوبات اليوم سمة بارزة في السياسة الدولية في عالم يتّسم أكثر فأكثر بتعدّد الأقطاب. ويجد لبنان نفسه في قلب هذه الجبهة الجديدة.
ففي 30 تموز 2021، اعتمد المجلس الأوروبي القرار رقم 2021/1277 والتنظيم رقم 2021/1275، اللذين وافق بموجبهما على إطار قانوني لفرض عقوبات على أفراد وكيانات في لبنان. ويتألّف نظام العقوبات الجديد من عنصرين أساسيين: (1) حظر سفر يمنع دخول الأشخاص المدرجين على قائمة العقوبات أو مرورهم عبر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ و(2) عقوبات مالية تستهدف الموارد المالية لهؤلاء الأفراد عبر تجميد أية أموال أو أصول لهم داخل أراضي الاتحاد الأوروبي وحظر توفير أية أموال أو موارد اقتصادية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لصالح هؤلاء الأشخاص المستهدَفين. وعلى عكس الولايات المتحدة، لا تدّعي عقوبات الاتحاد الأوروبي أنّ لها تأثيراً يتجاوز حدوده، ما يعني أنّها تنطبق فقط على الأفعال التي تجري داخل أراضي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، عدا عن أفعال مواطني الاتحاد.
إطار الاستهداف: مَن يمكن أن يُدرج على قائمة العقوبات؟
حدّد قرار المجلس المعايير التي يُدرج بموجبها الأفراد على نظام العقوبات الجديد. وقد نصّ على إمكانية إخضاع الفئات التالية من الأشخاص لهذه العقوبات:
“(أ) الأشخاص الطبيعيون المسؤولون عن تقويض الديمقراطية أو سيادة القانون في لبنان من خلال قيامهم بالأفعال التالية:
(1) عرقلة أو تقويض العملية السياسية الديمقراطية من خلال الاستمرار في إعاقة تشكيل الحكومة أو عرقلة إجراء الانتخابات أو تقويضها بشكل جدّي.
(2) عرقلة أو تقويض تنفيذ الخطط التي وافقت عليها السلطات اللبنانية والتي تدعمها الجهات الفاعلة الدولية ذات الصلة -بما في ذلك الاتحاد الأوروبي- لتحسين المساءلة والحوكمة الرشيدة في القطاع العام أو تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المهمّة، بما فيها القطاعين المصرفي والمالي. وبما في ذلك اعتماد تشريعات شفافة وغير تمييزية بشأن تصدير رأس المال.
(3) سوء السلوك المالي الجسيم في ما يتعلّق بالأموال العامّة، ما دامت الأفعال المعنيّة مشمولة باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتصدير غير المشروع لرأس المال.
(ب) الأشخاص الطبيعيون المرتبطون بأشخاص مستهدفين بموجب النقطة (أ)”.
ويبدو أنّ هناك صعوبات عدّة واضحة أمام هذا الإطار. أولاً، وباستثناء البند المتعلّق بالفساد وسوء السلوك المالي الخطير، فإنّ المعايير غير دقيقة بشكل صارخ. فعلى سبيل المثال، ما هي أنواع الأفعال التي يمكن اعتبار أنّها بالفعل “تعرقل أو تقوّض العملية السياسية الديمقراطية”؟ وكيف يمكن تحديد من هم الأشخاص الذين “يعرقلون باستمرار تشكيل الحكومة” مقابل من يطرحون مطالب سياسية مشروعة في سياق مفاوضات مطوّلة متعدّدة الأطراف؟ فمفاوضات تشكيل الحكومة، وبخاصّة تلك التي تسعى إلى تحقيق ما يسمى بحكومات “الوحدة الوطنية” المفضّلة لدى الدول الأوروبية، تنطوي على العديد من أصحاب المصلحة الذين يطرحون طلبات متنافسة إلى السلطة الشرعية. وبالتالي، من الصعب تصوّر كيفية تحديد الطرف الذي ينبغي تحميله مسؤولية “إعاقة” تشكيل الحكومة في هذا السياق من دون فرض شيء من الأحكام المبنيّة على مقاييس معيّنة عمّن مزاعمه السياسية مشروعة وعمّن ليس كذلك. وهذا بدوره يبدو بشكل واضح تدخّلاً أجنبياً غير مشروع.
ثانياً، وربّما الأهم، فإنّ هذه الفئات عرضة للتلاعب السياسي، سواء في الداخل أو الخارج.
ففي داخل لبنان، قد يكون لفرض هذه التدابير أثر ضارّ يتمثّل في زيادة التشهير الطائفي بين الفصائل السياسية المتنافسة، حيث يسعى كلّ طرف إلى تجنّب احتمال تعرّضه للعقوبات بينما يحاول في الوقت نفسه تبرير فرض عقوبات على خصومه. وقد تكون النتيجة المزيد من الجمود في الحياة السياسية وتعزيز مواقع مختلف أمراء الحرب الطائفيين في لبنان.
أما بالنسبة للدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي أنفسهم، فإنّ إطار العقوبات الجديد يمكن استخدامه كأداة للتدخّل المنحاز لأحد الأطراف في الشؤون الداخلية للبنان. ورغم أنّه لا مجال للشك في أنّ الطبقة الحاكمة في لبنان بأكملها يمكن اتّهامها بشكل مشروع بتقويض العملية السياسية الديمقراطية (على ما هي عليه) منذ انتهاء الحرب الأهلية، إلّا أنّه لا مؤشر على أنّ الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات شاملة على هذه الطبقة بأكملها. وهنا يطرَح السؤال: مَن إذاً الذي سيخضع للعقوبات؟ فطبيعة ومجال الصلاحيات لتحديد المستهدَفين بموجب نظام العقوبات الجديد، يجعلان ممارستها تقديرية جداً وعرضة لسوء الاستخدام. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلفاءها لديهم مجموعة من الشركاء والوكلاء داخل الساحة السياسية اللبنانية المتغيّرة بشكل دائم – ويمكن بالتالي استخدام نظام عقوبات تقديري من هذا النوع كوسيلة سرّية لتعزيز مصالحهم السياسية والاقتصادية.
التدابير المالية: عقوبات “ذكيّة” أم خنق اقتصادي؟
مع مراعاة المخاوف المبيّنة أعلاه المتعلّقة بمعايير تحديد المستهدَفين بالعقوبات، فإنّ فرض حظر سفر على أفراد من الطبقة السياسية في لبنان مبرّر إلى حدّ ما. فالمتورّطون في الفساد منذ عقود ومعظمهم لديهم أصول وممتلكات في باريس أو ميلانو، قد يؤدّي التهديد بحظر السفر إلى تخفيف إحكامهم على مؤسّسات الدولة. بيد أنّ الوضع يختلف كثيراً بالنسبة للعقوبات المالية. فإلى وقت قريب نسبياً، كانت العقوبات الدولية عموماً تأتي على شكل عقوبات تجارية، أي كقيود على الاستيراد والتصدير على دولة ما، ويمكن أن تصل إلى مستوى الحصار أو الحظر الشامل. ومن شأن هكذا نوع من التدابير أن يكون له عواقب وخيمة على مواطني البلد الذي يخضع لهذا النوع من العقوبات. ففي العراق على سبيل المثال، قدّرت “اليونيسف” أنّ ما يزيد عن 500 ألف طفل دون سن الخامسة فارقوا الحياة نتيجة للحظر الوحشي الذي فرض على الدولة العراقية في تسعينيات القرن الفائت. ومن المعروف أنّه عندما عرضت هذه الأرقام على وزيرة خارجية الولايات المتحدة آنذاك، مادلين أولبرايت، خلال مقابلة ضمن برنامج “60 دقيقة” في العام 1996، وسئلت ما كانت العقوبات تستحق أن يموت بسببها نصف مليون طفل، أجابت: “نعم الثمن يستحق ذلك”.
وكإقرار جزئي بهذه الأثمان البشرية الهائلة وبحقيقة أنّ العقوبات التجارية غالباً ما يكون لها الأثر السيئ المتمثّل في ترسيخ قبضة النظام المستهدَف على سلطة الدولة بدلاً من إضعافها، شهدت الفترة منذ أوائل الألفية الثانية تحوّلاً عاماً عن العقوبات التجارية الشاملة باتّجاه ما يسمى بـ”العقوبات الذكيّة” التي تستهدف الموارد المالية للأفراد وللكيانات المدرجة على قائمة العقوبات بدلاً من استهداف دول بأكملها. كما وتشمل تلك الأنظمة الأكثر تطوّراً للعقوبات المالية أيضاً استثناءات مختلفة تهدف إلى توفير تكاليف معيشية معقولة وتأمين الضرورات الإنسانية، شرط الترخيص من السلطات الوطنية.
وتحت نظام العقوبات الجديد الخاص بلبنان، تقدّم المادة 4 من التنظيم رقم 2021/1275 توضيحاً مفيداً لإطار العقوبات والإعفاءات المستهدفة، وتنصّ على ما يلي:
“على سبيل الاستثناء من المادة 2 [التي تفرض تجميد الأصول وحظر تقديم أموال لأفراد مدرجين على قائمة العقوبات]، يجوز للسلطات المختصّة أن تأذن بالإفراج عن بعض الأموال أو الموارد الاقتصادية المجمّدة، أو إتاحة بعض الأموال أو الموارد الاقتصادية، في ظلّ الظروف التي يرونها مناسبة، بعد أن تتثبّت من أنّ تقديم هذه الأموال أو الموارد الاقتصادية ضروري لأغراض إنسانية، مثل إيصال أو تسهيل إيصال المساعدة ، بما في ذلك الإمدادات الطبية أو الغذاء أو نقل العاملين في المجال الإنساني والمساعدة ذات الصلة أو من أجل عمليات الإجلاء من لبنان”.
ورغم أنّ هذا النهج يبدو جذّاباً من حيث المبدأ، إلّا أنّ الواقع يختلف تماماً. فمن الناحية العملية، من المحتمل أنّ يكون لما يسمّى “العقوبات الذكيّة” آثار كاسحة على اقتصاد وطني صغير مثل الاقتصاد اللبناني. فالمخاطر القانونية التي ينطوي عليها الأمر، فضلاً عن التكاليف الكبيرة المرتبطة باستحداث إجراءات امتثال مناسبة، تعني أنّ الأطراف التجارية والمؤسّسات المالية ببساطة غالباً ما ستفضّل عدم ممارسة الأعمال التجارية في بلد يخضع لنظام عقوبات. وقد أقرّت محكمة العدل الدولية بهذه النقطة في أمرها الصادر في 3 تشرين الأول 2018 في قضية الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأميركية. وكانت الولايات المتحدة قد احتجّت بأنّ تدابير العقوبات التي اتخذتها لم تؤدّ إلى خطر إجحاف لا يمكن علاجه في ما يتعلّق بالاحتياجات الإنسانية للشعب الإيراني، كون النظام القانوني المعمول به يتضمّن تصاريح وإعفاءات واسعة للسماح بالنشاط الإنساني. إلّا أنّ المحكمة أكّدت على أنّ تدابير العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة جعلتْ من الأصعب على الصعيد العملي على إيران والإيرانيين الانخراط في المعاملات المالية اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية (]89[):
“علاوة على ذلك، ترى المحكمة أنّه في حين أنّ استيراد المواد الغذائية واللوازم والمعدات الطبية مستثنى من حيث المبدأ من تدابير الولايات المتحدة، إلّا أنّه يبدو قد أصبح أكثر صعوبة من الناحية العملية، منذ إعلان الولايات المتحدة عن التدابير المتعلقة بإيران والشركات الإيرانية والمواطنين الإيرانيين للحصول على هذه المواد الغذائية والإمدادات والمعدات المستوردة. وفي هذا الصدد، تلاحظ المحكمة أنّه نتيجة لهذه التدابير، فقد انسحبت بعض البنوك الأجنبية من اتفاقيات التمويل أو علّقت التعاون مع البنوك الإيرانية. كما ترفض بعض هذه البنوك قبول التحويلات أو تقديم خدمات مماثلة. ويترتّب على ذلك أنّه أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل على إيران والشركات والمواطنين الإيرانيين الدخول في معاملات مالية دولية من شأنها أن تسمح لهم بشراء مواد لا تشملها، من حيث المبدأ، التدابير، مثل المواد الغذائية والإمدادات الطبية والمعدات الطبية”.
وعلى هذا المنوال، من المرجّح أن يؤدي فرض العقوبات المالية على أفراد في لبنان إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة بالفعل، والتي وصفها البنك الدولي بالكساد الاقتصادي الحاد والطويل الأمد، مرجِّحاً أن تكون من بين أشد الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا هنا