على وقع المطالبات المتكررة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، شاع بين النواب خطاب عن إنتاجية القطاع العام، والمقصود طبعاً النقص في إنتاجيته. وقد رأت المفكرة على ضوء تأثيرات هذا الخطاب على الإدارة العامة والقضاء، أن التوقف عنده بات أمراً ملحاً، بهدف إدراك مبادئه ومضامينه ومقاصده، وذلك لأسباب ستة:
الأول، أنه يصدر عن المجلس النيابي الذي هو على الأرجح الجهاز الإداري الأقل إنتاجية في الدولة اللبنانية. وهذا ما يتأكد سنة بعد سنة من خلال المراجعات التي أجرتها المفكرة القانونية لأعماله. فهي ثبتت النقص الفادح في إنتاجيته في 2011 و2012، فاستحق صفة “أغلى العاطلين من العمل” فيها. أما في 2013، فاقتصر إنتاجه على خدمة مصالحه من خلال قانونين اتصلا بتمديد ولايته بحيث استحق صفة “سلطة self
service“،
الثاني، أنه خطاب مناسبات أكثر مما هو خطاب دولة. ففيما يغيب تماماً عن النقاش العام، تُفاجأ دوماً بتوسع انتشاره عند بروز مطالبات بزيادة الرواتب في القطاع العام، تمهيداً لردها أو تقويض مشروعيتها. وهذا ما نقرأه في خطاب 2013-2014 ولكن أيضاً في خطاب 1995-1998. وأمام هذا الأمر، من الممكن القول إنه يشكل خطاب ذريعة للتنكر للحقوق المكتسبة، أكثر مما يشكل خطاب إصلاح إداري، وبكلمة أخرى، أنه “مطلب حق يراد به باطل”،
الثالث، أنه خطاب ترافق فجأةً مع خطاب يناقضه تماماً. ففي موازاة تقديم الإنتاجية كعنوان للإصلاح الإداري، راح النواب يتصرفون وكأنهم يتبجحون بالنزر اليسير الذي ينتجونه عملاً بالقول: “تكبر في عين الصغير الصغائر”، وتضيق صدورهم إزاء أي ضغط أو تبرّم أو انتقاد، بحجة أنهم لا يشرّعون تحت الضغط. وقد وصلت بهم الأمور الى إعلان نيتهم وقف جلستهم التشريعية المتصلة بالرتب والرواتب الى حين اعتذار مسؤولي هيئة التنسيق النقابية علناً من النواب على خلفية اتهامهم بـ”الحرامية”. وبالطبع، يتنافى خطاب الهيبة والصدور المنتفخة هذا مع خطاب الإنتاجية التي تقوم بالضرورة على المساءلة والمحاسبة،
الرابع، أن الإنتاجية المقصودة بدت وكأنها تقتصر على الإنتاجية الكمية (ساعات العمل) فيما غاب أي حديث عن الإنتاجية النوعية، كأن يتم الحديث عن نوعية التعليم الذي تقدمه المدرسة الرسمية أو الجامعة، أو عن نوعية الصحة التي تقدمها المستشفيات الحكومية أو عن حق المواطن بالترفيه والمساحات العامة، أو بحق السكن الخ..
الخامس، أن خطاب الإنتاجية بدا كأنه يختزل عملية الإصلاح الإداري، فيما غاب أي حديث عن الرشى أو الفساد الإداري، الذي غالباً ما يتم بحماية الطبقة السياسية. وقد بدا هنا كأنما الطبقة السياسية تقذف تهمة الكسل ونقص الكفاءة في وجه الموظف الذي يرشقها بتهمة الفساد،
السادس، وهنا الأخطر، أن الأثر الوحيد لهذا الخطاب قد تجلى داخل القضاء، أي داخل المؤسسة التي يفترض أن تكون الوحيدة الخارجة عن اختصاص السلطات الحاكمة عملاً بمبدأ فصل السلطات. فإزاء تهديد النواب بتقصير مدة الإجازة القضائية وإعادة النظر في تقديمات صندوق التعاضد، سارع مجلس القضاء الأعلى الى تبني هدفية تعزيز الإنتاجية فابتكر شعار “القاضي المتميز” وهو القاضي الذي يسرع في إنتاج أحكامه، ولو على حساب نوعيتها، ولو على حساب التعليل وسائر شروط المحاكمة العادلة (المحرر).
رسم رائد شرف
نشر هذا المقال في العدد | 19 |تموز/يوليو/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.