تنشر المفكرة القانونية مقتطفات من المرافعة في قضية "المسرح الفكاهي لبيع الشباب" (قضية بوكسر سوبرمان)
I-في المبادئ العامة التي تحكم هذه الدعوى:
ان المشرع باستخدامه عبارة "التعرض للأخلاق العامة" في المادة 532 من قانون العقوبات دون تحديد ما هي الافعال التي تتعرض للاخلاق العامة يكون قد فوّض للقاضي مهمة تعريف هذا الفعل.
وبناء على هذا التفويض الواسع الممنوح للقاضي، يتوجب علينا ابداء الملاحظات التالية:
-اولا: ان تجريم التعرض للاخلاق والآداب العامة لا يهدف الى حماية حق شخصي معين انما الى حماية قيم جماعية لمجتمع معين في زمن معين. وبالتالي، يتم تقويم الأفعال ليس بذاتها، انما بالنظر الى الظروف الاجتماعية وما قد تسببه هذه الأفعال من اضرار اجتماعية مباشرة. (…)
-ثانيا: ان مفهوم التعرض للآداب او الاخلاق العامة هو مفهوم متغيّر المضمون وفقا للزمان والمكان. فالافعال التي كانت تعتبر تعرضا للاخلاق العامة منذ عشرات السنين، لا يترتب عليها الوصف ذاته في يومنا هذا، خاصة مع تطوّر قيم المجتمع نحو تكريس أقوى للحريات الفردية، وهو أمر قد أجمع عليه الفقه والاجتهاد. وكذلك يختلف الوصف وفقا للمكان، فان بعض الافعال التي قد تعتبر مخلّة للآداب في بلد معين لا تعتبر بالضرورة كذلك في المجتمع اللبناني. وهكذا، سجل غارسون في بدايات القرن العشرين أن اظهار فنانين عراة على المسرح لم يعد بالضرورة في فرنسا في ذلك الوقت أمرا مخلا بالآداب العامة. (…)
ان هذا الطابع المتغيّر والمتحرك لمفهوم التعرّض للاخلاق والآداب العامة قد حمل المشرّع الفرنسي الى وضع نصوص خاصة. فقد منح القانون الفرنسي الصادر في 25-9-1946 حق الطعن لكل شخص محكوم لقيامه بنشر كتب تمسّ بالآداب العامة بعد مرور 20 عاما على ابرام الحكم دون الحاجة لاثبات وقائع جديدة، وذلك لوجود افتراض بتغير القيم. وهكذا وبناء على هذا القانون، قامت محكمة التمييز الفرنسية في 31-5-1949 بالغاء الحكم الصادر بحق الشاعر بودلير لكتابه الشهير Les Fleurs du Malالذي اصبح اليوم مادة للتعليم في المدارس الفرنسية واللبنانية.
-ثالثا: ان سلطة التقدير الواسعة الممنوحة للقاضي تمارس من خلال البحث عن الذهنية الاجتماعية لمعرفة ما اذا كانت الافعال المعروضة امامه يعتبرها المجتمع اخلالا بالاخلاق والآداب العامة. وقد توّسع الفقه لتحديد دور القاضي في بحثه عما قد يشكل تعرّضا للاخلاق والآداب العامة. ورغم تعدد التعريفات، يجمع الفقه والاجتهاد على ضرورة استناد القاضي الى معايير موضوعية بقدر المستطاع وعلى التصرفات الاجتماعية من اجل استخراج هذا الاجماع الاجتماعي.ومن هذا المنطلق، يصبح القاضي شاهدا يسجل تطور الأعراف والتقاليد والسلوكيات الاجتماعية في هذا المجال، فيخرج من اطار التجريم ما اصبح مقبولا اجتماعيا ومتعارفا عليه أنه عادي. وهكذا، فان سلوكيات عدة كانت في السابق تعد قلة أدب اصبحت الآن تصرفات تدعو الى الضحك والحبور. والقول بعكس ذلك انما يؤدي اليوم الى اعمال رقابة صارمة على غالبية البرامج التلفزيونية على الشاشات اللبنانية. وقد اعتمد عدد من الأحكام معيار الفضيحة لمعاقبة أفعال معينة، بمعنى أن الأفعال لا يعاقب عليها اذا بات الناس يتعاملون معها على أنها تصرفات عادية أو أقرب الى العادية أو على الأقل على أنها لم تعد تشكل فضيحة بحد ذاتها. (…)
-رابعا: للكوميديا هدفاجتماعي نبيل يستوجب الحماية القانونية. يكرّس الدستور اللبناني حرية التعبير في المادة 13 التي تنص على الآتي: "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون." وتشكل الاعمال الكوميدية احد اوجه حرية التعبير بما تتضمن من نقد وسخرية من العادات الاجتماعية المختلفة والمتعارف عليها. فللكوميديا والسخرية الترفيهية هدف اجتماعي نبيل وهو اضحاك الناس، وقد أثبت الطب وعلم النفس الحديث أن للضحك آثار ايجابية عديدة على صحة الانسان وسلاماته الجسدية والنفسية، فضلا عن دوره الأساسي في معالجة قضايا اجتماعية مأزومة يصعب معالجتها من خلال التصرفات او النقاشات الجدية. وبناء على ذلك، تمنح للكوميدي مساحة واسعة لممارسة حرية الابداع والتعبير والنقد والسخرية لتمكينه من تأدية هذا الدور الاجتماعي المتعارف عليه. (…)
فيجمع الفقه والاجتهاد على اعتماد تفسير اضيق لمفهوم التعرّض للاخلاق والآداب العامة عندما يطال الفن دون ان تشكل الافعال والاعمال والكلام الفنية والكوميدية تعرضا للاخلاق او الآداب العامة. وفي هذا الاطار، يرى الفقهاء انه لا بد للكوميدي ان يتجاوز الامور المألوفة لكي ينجح في اضحاك جمهوره. وينطبق ذلك حتى وان تجاوز الكوميدي حدود اللياقة والتهذيب اذ لا دخل للقانون الجزائي في حماية هذه القيم. وبكلمة أخرى، قد يصح في الكوميديا ما كان يقوله العرب القدماء بشأن شعراء الهجاء الذين يحق لهم ما لا يحق لغيرهم. (…)
ويرى الفقهاء ايضا، انه اذا كانت الكوميدية والسخرية تشكل دفاعا قانونيا لانتفاء المسؤولية المدنية الناتجة عن الضرر المعنوي للتعرض للافراد ولحقوق الملكية الادبية والفكرية في العديد من الدول، من الطبيعي ان تشكل دفاعا ايضا لانتفاء المسؤولية الجزائية الناتجة عن الضرر المحتمل للمجتمع. (…)
II-في تقويم وقائع الدعوى على ضوء المبادئ القانونية المشار اليها أعلاه: (…) في وجوب فسخ الحكم المستأنف واعلان براءة المدعى عليهما لعدم توفر عناصر جريمة المادة 532 عقوبات:
ان الوقائع في هذه القضية لا تشكل اساسا لادانة المدعى عليهما المستأنفان بما أن عناصر جريمة التعرض للاخلاق العامة غير متوفرة للاسباب التالية:
-لكون السهرة هي عمل تمثيلي كوميدي (1)
-نظرا لوجود تقبل اجتماعي للتطرق للمواضيع الجنسية علنا (2)
-لعدم وقوع ضرر بالقيم الاجتماعية الجماعية (3)
-لعدم توفر النية الجرمية (4)
ونستوضح هذه الاسباب ادناه:
1-في عدم التعرض للاخلاق العامة نظرا لكون السهرة هي عمل تمثيلي كوميدي
من الثابت من مجمل اوراق الملف ان السهرة موضوع الدعوى هي عرض تمثيلي كوميدي وان طابع السخرية كان طاغيا وواضحا، ومن الاثباتات على ذلك: (…)
-احتراف المدعى عليهما للتمثيل وللكوميدية وكونهما شخصيتين معروفتين في عالم الفن والكوميدية في لبنان (…)
-عدم حصول اي افعال جنسية وعدم حصول اي عملية "بيع" او "شراء" لاي شخص في هذه السهرة كما اشرنا سابقا، مما يؤكد ان كل الكلام المتعلق بامور جنسية والذي قيل خلال السهرة ليس كلاما جديا بل عملا تمثيليا،
-بعض الاقوال المنقولة في المقال المنشور في جريدة نهار الشباب في 6/1/2012 تحت عنوان "شبان لبنانيون في المزاد العلني" حيث صرّح الشبان عن طبيعة عملهم بعبارات سخرية مثل "يلعب بالسبق" و"الجلوس في البيت" و"بيع نفسه" وعن هوايتهم "الشمال واليمين"، وهي جميعها عبارات تشير الى ان ما قيل ليس حقيقة ولا يتمتع باي جدية كون الهدف من اداء هذا الدور هو اضحاك الناس. (…)
لذلك، فلا يوجد اي لبس لدى المشاهدين والمشاركين في السهرة كما للرأي العام عن كون الاقوال والافعال التي اتت في سياق السهرة موضوع الدعوى تشكل عملا فنيا تمثيليا ترفيهيا، يخلو من اي اثارة او استعراض جنسي.
ويبدو ان القرار المستأنف قد اغفل النظر في الطابع التمثيلي الكوميدي للسهرة مما أدّى به الى ادانة المستأنفين بصفتهما منظم ومقدمة السهرة، فتجاهل مجمل وقائع القضية واستند حصرا على مقال صحافي واحد نشر في جريدة النهار عبّر فيه الكاتب عن رأيه الشخصي بمجريات السهرة علما ان هذا الكاتب لم يحضر السهرة بل بنى رأيه على نقل لوقائع السهرة نشر على موقع "النشرة". والفضيحة ليست السهرة انما رأي هذا الكاتب الذي يبدو وكأنه يعيش في زمن آخر وليس لديه ذرة من خفة الدم. وقد أدّى تشويه الوقائع حول هدف السهرة وطابعها الى قيام الجريدة بالموافقة على نشر رد المستأنف منظم السهرة حيث قام بتصويب الامور.
وكما اشرنا اعلاه، لطالما منحت الكوميديا التسخيرية مجالا واسعا للعمل دون ان تشكل افعالها وكلامها اخلالا بالاخلاق العامة وذلك حماية لحرية التعبير والنقد ولتمكينها من تحقيق هدفها الاجتماعي في اضحاك الناس ومن ايداء دورها البناء في طرح القضايا الاجتماعية بقالب سهل ومتسامح.
وبناء على ذلك، يستفيد افعال المستأنفين من كونهما ممثلين كومييديين محترفين لابطال التعقبات بحقهما.
2-في عدم التعرض للاخلاق العامة نظرا لوجود تقبل اجتماعي للتطرق للمواضيع الجنسية علنا
كما شرحنا اعلاه، يلزم التفويض التشريعي في المواد 531 و532 من قانون العقوبات القاضي ان يبحث عن اجماع اجتماعي حول مدى تقبل او عدم تقبل الافعال المعروضة امامه من اجل تحديد مدى توافر عناصر الجريمة.
ونظرا لتقاعس القرار المستأنف عن البحث عن هذا الاجماع كما اشرنا أعلاه، نتقدم ببعض المؤشرات على وجود تسامح وتقبل واسع في المجتمع اللبناني لحالات التطرق علنيا الى مواضيع جنسية:
-ان تطوّر وانفتاح المجتمع اللبناني يتجه نحو تكريس مزيد من الحرية في الكلام عن الجنس بين المواطنين بحيث يتقبّل المجتمع اللبناني اليوم الحديث عن المواضيع الجنسية علنا خاصة لاسباب تثقيفية وترفيهية.
-فبالنسبة للحديث عن المواضيع الجنسية علنا لهدف تثقيفي، اصبحت مواد التوعية الجنسية مدرجة في مناهج العديد من المدارس اللبنانية ومنشورة في العديد من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وهو امر لم يكن مقبولا في الماضي حين كانت المواضيع الجنسية ممنوعة او غير مقبولة في المساحات العامة (تابوات).
-اما بالنسبة للحديث عن المواضيع الجنسية لاسباب ترفيهية – وهو ما يعنينا مباشرة في هذه القضية – فلطالما كان العمل الجنسي المادة المفضلة للكوميديين لكونها مادة تسمح باضحاك الجمهور وكسر الجليد بين الفنان وجمهوره، الى حد توّقع الجمهور بل واستباقه لهذا النوع من المادة الفكاهية. وهو ما يظهر خاصة من البرامج التلفيزيونية الفكاهية المتعددة التي تستند على المادة الجنسية والتي لديها جمهور واسع من مختلف شرائح المجتمع. فهي تشير الى ان المجتمع اللبناني بات متقبلا لهذا النوع من الفكاهة، حتى انها اصبحت تلقى اقبالا واسعا بمختلف تجلياتها المسرحية أو المتلفزة.
وتأكيدا على ما سبق، نتقدم بعيّنة من الاراء الصحافية التي نشرت نتيجة صدور القرار المستأنف بانزال عقوبة الحبس على المستأنفان (…).
وبما ان مفهوم التعرض للاخلاق العامة هو مفهوم متغيّر وفقا للزمان والمكان، فعليه مواكبة تطوّرات المجتمع والامتناع عن تجريم الافعال التي يتقبلها هذا المجتمع. لذلك، فان هذا الاجماع الاجتماعي يوجب ابطال التعقبات عن المستأنفين.
3-في عدم التعرض للاخلاق العامة لعدم وقوع ضرر بالقيم الاجتماعية الجماعية
بناء للمؤشرات المتوفرة حول وجود تقبل اجتماعي للاعمال الكوميدية وخاصة التي تتناول المواضيع الجنسية، لم يحدد القرار المستأنف الضرر الذي وقع بالقيم الاجتماعية نتيجة هذه السهرة.
فمن الثابت ان هذه السهرة الكوميدية حصلت في اطار محصور لمنع وقوع اي ضرر محتمل. فمن جهة اولى، ان المكان الذي نظمت فيه السهرة وهو ملهى ليلي في شارع الجميزة هو مكان مخصص للسهر وللراشدين ويمنع دخول القاصرين اليه، وبالتالي هو مهيء لهذا النوع من العروض الترفيهية. ومن جهة ثانية، تعمد المستأنفان وضع اطر محددة لمجريات السهرة لتتوافق مع اهدافهم الكوميدية والخيرية عبر اعلانهم عن شروط المشاركة في العرض التمثيلي الارتجالي. فقد شارك في العرض شبان متطوعين لاداء دور تمثيلي ومشاهدين اشتركوا مع الممثلين لانجاح هذا الحفل الخيري.
بالتالي، ان عدم وقوع اي ضرر بالقيم الاجتماعية الجماعية يستوجب ابطال التعقبات بحق المستأنفين.
4-في عدم توفر النية الجرمية
ان نية المستأنفين لدى قيامهما بتنظيم وتقديم السهرة موضوع الدعوى كانت حسنة وسامية ولم تتجه نحو اقتراف اي جرم. فمن الثابت ان هدف السهرة هو جمع تبرعات لجمعية "برايف هارت" الخيرية المعنية بمساعدة الاطفال المصابون بامراض قلبية. ونظرا للقالب الكوميدي للسهرة، فان جميع افعال المستأنفان جاءت بهدف اضحاك الناس من اجل رفع مبلغ التبرعات.
فقد قام المستأنفان باستخدم فنهما وتحديدا الكوميديا من اجل حث الناس على الكرم والتعاطف مع المحتاجين. لذلك، ان رسالة هذا النشاط ليست الحض على الفجور او التعرض للاخلاق والآداب العامة بل وضع الفن والكوميديا بخدمة قضية اجتماعية محقة.
لذلك، ونظرا لغياب اي نية وارادة جرمية، ينتفي عنصر اساسي من عناصر الجريمة مما يستوجب ابطال التعقبات بحق المستأنفين.