في بداية شهر ماي، كانت الحملة البوليسيّة ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس على أشدّها. كانت عمليات قوّات الحرس الوطني في جبنيانة والعامرة، شمال مدينة صفاقس، متواصلة منذ أسابيع، حيث وقع نقل مئات المهاجرين بشكل قسريّ إلى “أماكن أخرى”. ثمّ فكّت أجهزة البوليس اعتصامات مهاجرين وطالبي لجوء في العاصمة تونس، ليتمّ إبعادهم قسرا إلى الحدود الجزائريّة. بالتزامن مع ذلك، تعدّدت الملاحقات ضدّ من يتضامن مع المهاجرين، من مواطنين يقدّمون مساعدات إنسانيّة، وصولا إلى منظمات المجتمع المدني. أبرز المستهدفين رئيسة جمعية منامتي والمناضلة ضدّ العنصريّة سعديّة مصباح، وهي إلى اليوم محلّ بطاقة إيداع بشبهة “تبييض أموال”، على الرغم من أنّ مصدر الأموال رسميّ ومعلوم. إيقاف سعديّة مصباح، الذي أعقبته ملاحقات وإيقافات أخرى في صفوف مسؤولين في جمعيات ناشطة في مجال الهجرة، جاء بعد مجلس أمن قومي دعا له الرئيس وكرّر خلاله نظرياته حول “مؤامرات التوطين” وتورّط المعارضة والمجتمع المدني فيها.
في الأثناء، لعب عدد من النواب في “مجلس نواب الشعب” دورًا في التحريض على المهاجرين وعلى التضامن الإنساني والمدنيّ معهم، سواء من منبر قصر باردو أو على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي 6 ماي 2024، قدّم 13 نائبا، يمثّلون خمس من أصل 6 كتل برلمانية إضافة إلى نائبين غير منتمييْن، مقترح قانون لتنقيح القانون عدد 7 لسنة 1968 المتعلّق بحالة الأجانب، وهو حجر الأساس في الإطار القانوني المنظم لوضعيّة المهاجرين إلى تونس. هذا القانون، الذي صيغ بمنطق أمني صرف في زمن لم تكن فيه تونس أرض هجرة أو عبور، لا يتلاءم ليس فقط مع احترام حقوق المهاجرين بوصفهم بشرًا، بل حتى مع ما تقتضيه أيّ سياسة عموميّة عقلانيّة وناجعة لإدارة ملفّ الهجرة. لكنّ أصحاب مقترح التنقيح تجاهلوا كلّ نواقص قانون 1968، ليقترحوا فقط تشديد العقوبات والرقابة، وكأنّ حلّ “أزمة المهاجرين” يمرّ عبر ملء السجون بهم. بعد أسبوعيْن من تقديم مقترح القانون، جاءتْ أرقام وزارة الداخليّة، من داخل البرلمان نفسه، لتكذّب خرافة مؤامرات التّوطين، بوجود 23 ألف مهاجر غير نظامي فقط من جنوب الصحراء في تونس، ولكن أيضا لتفضح عدم جدوى المقاربة الزجرية، حيث يوجد أكثر من 1100 مهاجر غير نظاميّ حاليّا في السجن.
قانون 1968: لا حقوق، لا إجراءات، لا تسوية وضعية
ربما ما يُحسب للنواب المبادرين هو التفاتُهم لقانون 1968، الذي على الرغم من مكانته المركزيّة في منظومة الهجرة ومن مقاربته الموروثة من الاستبداد، لم يكن محلّ تركيز أو نقاش خلال سنوات الديمقراطيّة، ولم تودع بشأنه مقترحات تنقيح. فقد تمحورتْ النقاشات والمجهودات لتطوير المنظومة القانونيّة للهجرة، خلال “عشريّة الانتقال”، على إيجاد إطار تشريعي للجوء. وحتى في هذا المجال، لم يودع مشروع قانون داخل البرلمان، على الرغم من تنصيص الدستور على حقّ اللجوء ومن تتالي المسودّات. والسبب، على الأرجح، التقاء المصلحة السياسيّة في تفادي تصنيف تونس أوروبيا كـ “بلد آمن” يمكن أن يرحّل إليه الواصلون منه أو المعترضون في البحر، والمصلحة “الأمنية” في أن لا تتحول تونس الديمقراطية إلى أرض لجوء للمعارضين السياسيّين العرب والأفارقة خصوصا، وأن لا يخرج ملفّ اللجوء إلى هيئة وطنية مستقلّة عنها.
لذلك، يبقى طالبو اللجوء في تونس خاضعين نظريّا لقانون 1968، وإن كان من يحصل منهم على بطاقة طالب لجوء، قد يحظى بمعاملة أفضل تصل أحيانا (ولكن ليس بالضرورة) إلى منحه الإقامة. فبطاقات طالبي اللجوء، التي تمنحها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعد فرز ملفاتهم، وفقا لاتفاقية المقرّ (2011) ولممارسة دامت قبل ذلك قرابة خمسة عقود، لا تضمن حقوقًا واضحة ومقنّنة لصاحبها في تونس. يسمح هذا الفراغ القانوني للسلطة الأمنيّة بالضغط بشكل قبلي على عدد طالبي اللجوء عبر منعهم من الوصول أصلا إلى ممثلي المفوضية لتقديم طلب اللجوء، باستعمال تكتيكات متنوّعة مثل إرجاعهم إلى الحدود البرّية عند محاولتهم الدخول أو احتجازهم تمهيدا لإبعادهم قسرا[1]. بل حتى من تحصّل على بطاقة طالب لجوء، لا يضمن حصانة تامّة من الإبعاد القسري. فالحماية التي يتمتعون بها تبقى هشّة ورهينة القرار الأمني.
الإشكال الأوّل في قانون 1968 هو إذًا في مجال انطباقه. فالنظام الزجري يشمل طالبي اللجوء، ومنهم من هربوا من الحرب. وهو في المقابل يقصي من انطباقه، إن لم يكن بالنصّ فعلى الأقلّ في الممارسة، المهاجرين من دول الشمال. إذ تسمح اتفاقيات ثنائيّة (وغير متوازية)، لبعض الجنسيات بمعاملة خاصّة، كالفرنسيّين الذين لهم الحقّ في بطاقة إقامة بـ 10 سنوات، مقابل سنة في أحسن الحالات للبقيّة. في حين يصعب أن يتعرّض مهاجر “أبيض” إلى مضايقة أمنيّة أو ترحيل. كما تحظى بعض الجنسيات العربيّة بمعاملة خاصّة وفق شروط أمنية/سياسيّة. نظام 1968 هو إذًا، أوّلا، نظام تمييزيّ وإن لم يقرّ صراحة بذلك.
وهو ثانيا نظام متشدّد، بالأخصّ في شروط الإقامة. فالإقامة العاديّة، بسنتيْن قابلتين للتجديد، هي في الواقع استثنائية جدّا وشروطها أقرب إلى شروط الحصول على جنسية. أمّا بطاقة الإقامة الوقتية، فلا يمكن أن تتجاوز صلوحيتها سنة، فضلا عن أنّها محدودة أيضا بفترة صلوحية الوثائق المقدّمة (عقد الشغل المؤشر من وزير التشغيل أو شهادة الحضور في المؤسسة الجامعية)، وتُسحب بزوال الأسباب المقدّمة للحصول عليها. وهي تشترط أيضا الدخول إلى تونس بصفة قانونيّة، من دون أيّ إمكانية لتسوية الوضعيّة. فمن دخل بشكل غير نظامي محكومٌ بأن يبقى كذلك، حتى إذا اشتغل لسنوات.
وهو بذلك، ثالثا، نظام يشجع اللانظامية، سواء في الإقامة أو في العمل. إذ لا تتجاوز نسبة الأفارقة من جنوب الصحراء في رخص العمل لفائدة الأجانب 4%، حيث بلغ عددهم سنة 2017 بالكاد 230 عاملا، غالبيّتهم رياضيون وإطارات ومهن علميّة[2]. يؤدّي ذلك إلى وضعيّة هشاشة واستغلال مضاعفة، سواء في الأجور أو في ساعات العمل والحقّ في العطل والتعويض على حوادث الشغل وغيرها من الحقوق. كما أنّ نظام 1968 يشجّع اللانظامية عبر الخطية المُحدثة عن كلّ أسبوع يقضيه الأجنبي بشكل غير نظامي. فالكثير ممن دخلوا بشكل نظامي، يضطرون بعد ذلك إلى اللانظاميّة نتيجة صعوبة تجديد الإقامة الوقتية وتراكم الخطايا.
وهو رابعا نظام قمعيّ زجريّ بصريح النصّ. إذ يجرّم ويعاقب بالسجن، ليس فقط الدخول إلى التراب التونسي بطريقة غير نظامية، ولكن أيضا البقاء فيه من دون طلب الإقامة أو بعد انتهاء مدّة صلوحيّتها. بل هو يعاقب بالسجن أيضا كلّ من يساعد أجنبيّا، بشكل مباشر أو غير مباشر، على الدخول أو الجولان أو الإقامة، وكذلك من يأوي أجنبيّا (ولو كان نظاميّا) من دون إعلام المصالح الأمنيّة. فهو قائم على اعتبار المهاجر خطرًا أمنيّا. وهو ينخرط ضمن فلسفة تجريم الهجرة (crimmigration)، وأيضا تجريم التضامن الإنساني.
وهو أخيرا، لا يضمن أيّ حقوق أو ضمانات أو إجراءات. إذ يتيح لوزير الداخليّة صلاحيّة طرد أيّ أجنبي ”يشكّل وجوده خطرا على الأمن العامّ“، من دون أيّ تأطير إجرائي أو ضمانات للمعني بالقرار. كما أن الأمر التطبيقي الصادر في 22 جوان 1968 يقرّ صلاحية “إبعاد” الأجنبي الذي لم يغادر البلاد بعد انتهاء إقامته القانونيّة بإذن من المدير العامّ للأمن الوطني. ولكنّ النصوص المنشورة لا تنظّم طريقة قانونيّة للترحيل. في الواقع، تشترط السلطات على الأجانب دفع ثمن تذكرة العودة لترحيلهم، الذي كان ينضاف (إلى حدود 2017) إلى مبلغ الخطايا المتراكمة، وهو في معظم الأحيان شرط مستحيل. فتلجأ السلطات على الأقلّ منذ بداية سنوات الألفين، إلى احتجاز المهاجرين غير النظاميّين إما مباشرة أو بعد قضاء عقوبة سجنيّة، في ”مراكز الإيواء والتوجيه“ الخاضعة لإشراف قوات الحرس الوطني[3]، بشكل غير قانونيّ (حسب ما أقرّته المحكمة الإدارية في 2021 حول مركز “الورديّة”)[4]، وذلك تمهيدا لعودة “طوعية” بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة، أو لإرسالهم قسرا إلى الحدود البرّية مع الجزائر أو ليبيا. هذا الإبعاد القسريّ الجماعيّ خارج أيّ تأطير إجرائي، ومن دون أيّ حقّ في الدفاع، يخالف مبادئ القانون الدولي وأبسط حقوق الإنسان، بل وقانون 1968 في حدّ ذاته بما أنّه يمثّل مساعدة على الخروج من الحدود التونسية خارج المعابر الرسمية.
مقترح التنقيح: ومتى كان المنطق الزجريّ حلاّ؟
لا خلاف أنّ قانون 1968 لا يتلاءم مع وضعيّة تحوّل تونس إلى أحد أهمّ بلدان العبور في مسارات الهجرة إلى أوروبا- الحصن. لكنّ النواب المبادرين بمقترح التنقيح اكتفوْا بثلاثة تنقيحات تفصيليّة لا تغيّر شيئا في خيارات القانون ولا تحلّ أيّا من نواقصه، وتتّفق في فلسفتها الزجرية.
يتعلّق الأمر أولا بتنقيح الفصل 19 الذي ينظّم “الطرد”، والذي ينصّ على أن يعيّن وزير الداخلية للأجنبي المطرود الذي استحالت عليه المغادرة مكانا يقيم فيه إلى غاية تمكنه من ذلك، على أن يحضر بصفة منتظمة بمركز الشرطة أو الحرس. يقترح النواب إضافة “أجلِ شهريْن” لهذه الإقامة الجبرية، متجاهلين أنّ “المطرودين” لا يعيّن لهم مكان، بل يُحتجزون في فضاءات غير قانونية سالبة للحرية، وأنّ إضافة مدّة زمنيّة محدودة لا تغيّر شيئا في إمكانيّة الترحيل التي تبقى رهينة توفّر الموارد المالية لدى المطرودين، أو قبولهم ببرامج المغادرة الطوعية التي توفرها منظمات دولية. إلاّ إذا كان المقصود إبعادهم قسريا إلى الحدود البريّة مع الجزائر أو ليبيا، وهي جريمة لا يمكن تقنينها. هكذا تجاهلَ النواب كلّ المعوقات العملية وغياب إطار إجرائي للترحيل، للإيحاء بأنّ إضافة “أجل قانوني” لإتمامه سيحلّ المشكل.
ثانيا، يقترح النواب تقليص الأجل المضبوط لمن يسوّغ محلّ سكنى لأجنبي كي يعلم السلط الأمنية بذلك، من أسبوع إلى 48 ساعة. وهو واجب يترتّب عن الإخلال به عقوبة قد تصِلُ إلى السجن 15 يومًا. هذا التنقيح يفضح هو الآخر الكسل التشريعي لأصحاب المقترح، الذين اكتفوا باقتراح تشديد الآجال من دون أيّة فائدة أو منطق.
أمّا التنقيح الأخير، والأهمّ، فيتعلّق بتشديد العقوبات ضدّ الأجانب من أجل الدخول أو الخروج من الحدود بصفة غير نظاميّة، أو عدم طلب الإقامة في الآجال، أو مواصلة الإقامة بعد انتهاء صلوحيتها أو سحبها أو رفضها، من عقوبة سجنية بين شهر وسنة حاليا، إلى عقوبة بين سنة وثلاث سنوات سجنا، مع خطية مالية بين 300 و5000 دينار. أمّا جريمة “إعانة أجنبي بصفة مباشرة أو غير مباشرة” أو محاولة تسهيل دخوله إلى تونس أو خروجه منها أو جولانه أو إقامته بها بصفة غير شرعية، فيقترح النواب تشديد عقوبتها إلى مدّة تترواح بين سنة وثلاث سنوات سجنا (عوض شهر إلى سنة) مع خطية بين 1000 و5000 دينار. لم يتفطّن النواب إلى خطورة التجريم الواسع، الذي لا يستهدف شبكات استغلال المهاجرين، بل مجرّد التضامن الإنساني معهم. فأيّ مساعدة لمهاجر غير نظامي، من طعام أو ماء أو نقل أو إقامة، ولو كانت من دون أيّ مقابل، تقابلها الدولة بالتجريم والسجن. اقتصر العقل التشريعي للنواب المبادرين على اقتراح تشديد في العقوبة، وكأنّ سجن المهاجرين وكلّ من يساعدهم أو يستغلّهم سيحلّ “الأزمة”.
هكذا، اكتفى النوّاب، من دون جهد كبير، باقتراح تشديد العقوبات والآجال. فتجاهلوا بذلك ليس فقط حقوق المهاجرين بوصفهم بشرًا وأفرادًا (وهذا ليس مفاجئا). بل تجاهلوا أيضا أنّ الحلّ الأنجع للانظاميّة، والذي لا يحتاج تسويات مع دول أخرى، هي تسوية الوضعيّة. حتى في تجارب دول لا تتميّز بحماية حقوق المهاجرين (بل اتّبعت سياسات إجرامية في حقّهم)، مثل المغرب وإيطاليا وفرنسا، فهي فهمت ضرورة فتح الباب لتسوية الوضعيّة، إمّا عبر حملات استثنائيّة، أو بطريقة ممؤسسة ودائمة. لكنّ مقترحات النواب ليست فقط وليدة قصور في فهم الظاهرة ودراستها، بل هي أيضا تعكس النظريات العنصريّة التي انتشرت بشكل رهيب منذ بلاغ الرئيس قيس سعيّد في 21 فيفري 2023، وتبنيه نظريات أقصى اليمين الأوروبي حول “الاستبدال العظيم“.
برلمان الرئيس منبرًا للمزايدات العنصريّة
ضُعف مقترح القانون لا يظهر فقط في أحكامه، وإنّما بالأخصّ في شرح أسبابه. إذ تفوح منه الرواسب العنصرية من خلال تحميل المهاجرين، بالتعميم، المسؤوليّة عن “جرائم جماعية نوعية تشتدّ خطورتها إذا أخذت في سياق جرائم سياسيّة أو إرهابية”. بذلك، يهدّد المهاجرون “ليس فقط الأمن القومي بل كيان الدولة”، نظرا لإنشائهم “محاكم خاصّة” و”مراكز أمن”، وهي الدعاية التي لا ينفكّ الرئيس سعيّد عن ترديدها. يتناسى أصحاب المقترح أنّ التنظّم العفوي وغير الرسمي الذي قد يلجأ إليه المهاجرون، هي نتيجة مباشرة لعدم اعتراف الدولة بأيّة حقوق لهم، وانتهاجها سياسة التجريم تجاههم. فكيف لهم أن يثقوا في مؤسساتها، وهي لا تخاطبهم سوى بالقمع والترحيل، ولا توفّر لهم أبسط الحقوق (كخدمة الترجمة مثلا حين يمثلون أمام الأمن أو القضاء)؟
لكنّ مقترح القانون ليس استثناءً. فقد أصبح النوّاب يتنافسون فيما بينهم في المزايدة العنصريّة والتحريض على المهاجرين ومن يتضامن معهم. إذ نشر النائب ياسين مامي في بداية ماي الجاري صورة لطلب عروض من المجلس الوطني للاجئين (جمعية شريكة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) لتوفير إقامة لطالبي لجوء، باعتبارها “مخطّط توطين” و”خطرًا داهمًا يهدّد الأمن القومي وتركيبة المجتمع”، مستغربا في خطاب عنصريّ مُقرف، تخصيص الفنادق لأناس كانوا يقطنون “في أدغال إفريقيا”. كما تميّزت النائبة فاطمة المسدي بخطاب عنصري حول “احتلال إفريقي” لمدينة صفاقس، واعدة بمبادرة تشريعيّة لتجريم “تسويغ المحلّات للأجانب من دون ترخيص” و”تسهيل التوطين”، بعد أن أطلقت عريضة لمطالبة الرئيس “بمحاسبة كل من تورط في مخطط التوطين والاستعمار”. وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، مراسلة من النائبتيْن ريم الصغيّر وأسماء درويش لرئيس الحكومة، بعنوان “تسوية ملفّ الأفارقة والمناولة”، تقترح إدماج نسبة من طالبي اللجوء ضمن شركات المناولة مقابل تسوية وضعية العملة التونسيين، وتوظيف “الأفارقة” في اليد العاملة عبر “شركات للخدمات الإفريقيّة” بإشراف أصحاب أعمال من صفاقس، وذلك لمدّة “20 سنة عمل” يتلوها بالضرورة “الترحيل”. مقترح هو ببساطة أقرب لاسترقاق العمّال من جنوب الصحراء، بتشريع استغلالهم من دون منحهم أيّ حقوق، ولمدّة عقديْن من الزمن ثم ترحيلهم بمجرّد استنزاف قدراتهم. ورغم تأكيد صاحبتيْ هذا المقترح العنصريّ رفضهما “التوطين”، إلاّ أنّ ذلك لم يحمِهما من مزايدة زملائهما.
في المحصّلة، لم يخرج تناول النوّاب لموضوع الهجرة عن مُعجم الرئيس سعيّد ونظرياته ومحاذيره، بين ما يسعى لإبرازه وما يحرص على حجبه. إذ قليلا ما يسائل النواب الخيارات الاستراتيجية للدولة، وخضوعها للإملاءات الإيطاليّة مقابل مبالغ زهيدة، وافتقارها لأيّة مقاربات عمليّة عدا الاحتجاز غير القانوني والإبعاد القسري. بدل ذلك، هم يركّزون، تماما كما الرئيس الذي وضع برلمانهم والنظام السياسي برمّته، على الحلقات الأضعف، أي المهاجرين وطالبي اللجوء أنفسهم، ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال الهجرة، والأفراد المتعاملين مع المهاجرين سواء بمنطق تجاري أو تضامني إنساني. فلا نجد أيّ صدى لمقاربة حقوقيّة لموضوع الهجرة (ولا لمواضيع أخرى). بل أنّ قبة باردو، التي شهدت قبل ستّ سنوات المصادقة على أوّل قانون يجرّم التمييز العنصري في المنطقة العربيّة، تحوّلت هي ذاتها إلى غرفة صدى للنظريات العنصريّة الصادرة عن قصر قرطاج.
[1] Vasja Badalič, « Tunisia’s Role in the EU External Migration Policy: Crimmigration Law, Illegal Practices, and Their Impact on Human Rights », in Int. Migration & Integration, 2019, p. 94
[2] Saïd Ben Sedrine, Défis à relever pour un accueil décent de la migration subsaharienne en Tunisie, Friedrich Ebert Stiftung, 2018, p. 29 et 32,
[3] المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ”المهاجرون المودعون بمركز الوردية: محتجزون فمرحّلون أو عائدون قسرا“، إعداد أمل المكي، إشراف قانوني لعصام الصغيّر، 2019.
[4] المحكمة الإدارية، “كليتيقي توري” ضدّ وزير الداخليّة، حكم ابتدائي في القضية عدد 161587، 10 نوفمبر 2021، غير منشور.