في الوقت الذي تتضافر فيه جهود كافة أجهزة الدولة المصرية للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد كوفيد-19، ومحاولة تخفيف الأثار الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن تعطل عجلة الاقتصاد المصري بشكل كبير، أعلن المستشار بهاء الدين أبو شقة رئيس لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بمجلس النواب، ورئيس حزب الوفد، عن عزمه تقديم مشروع قانون جديد للبرلمان يُلزم بموجبه المواطنين بالتبرع لصندوق تحيا مصر لمواجهة تداعيات مكافحة فيروس كورونا[1]. وهو المقترح الذي ينص على اقتطاع نسبة 5% من الرواتب “كتبرع” لمن يزيد راتبه عن خمسة آلاف جنيه، و10% عمن يزيد راتبه عن عشرة ألاف جنيه، كما تزيد نسبة التبرع لتصبح 15% لمن يزيد راتبه عن خمسة عشر ألف جنيه، وأخيرًا تصل إلى 20% لكلًا من يزيد راتبه عن عشرين ألف جنيه[2]. كما أضاف المقترح أن تلك النسب سوف يتم استقطاعها من دخول المواطنين سواء كانت في صورة مُرتبا أو أيًا كان مصدر هذا الدخل. فوفقًا لأبو شقة يهدف هذا المشروع في حال إقراره إلى دعم التكافل بين المواطنين وبعضهم البعض، ومساعدة الدولة في مواجهتها لأزمة فيروس كورونا بموارد إضافية.
وترجع أهمية هذا المُقترح كونه مُقدّما من رئيس لجنة الشؤون التشريعية والدستورية داخل مجلس النواب، مما يجعل من فرص مناقشته فور انعقاد المجلس واردة وبشكل كبير. لذلك نحاول في هذا المقال مناقشة ما طرحه المُقترح بخصوص فكرة “التبرع الإلزامي” ومدى مواءمتها مع أحكام الدستور والقانون. بالإضافة إلى تسليط الضوء على ضرورة تبني سياسات ضمان اجتماعي للمواطنين في المرحلة الحالية بدلًا من تحميل مزيد من الأعباء المادية على كاهلهم. وأخيرًا، طرح التساؤل حول السبب وراء أن تكون تلك “التبرعات/الاستقطاعات” لصالح صندوق تحيا مصر، وليس لخزينة الدولة العامة أو لموازنة الصحة على وجه الخصوص.
“التبرع الإلزامي” غير دستوري
يروج المستشار أبو شُقة إلى أن فكرة التبرع الإلزامي سليمة قانونيًا ودستوريًا، وأنها تخضع لنظرية اقتصادية تُعرف باسم “المشاركة في الأعباء وقت الأزمات” على حد قوله[3]. لذلك، وانطلاقًا من المفارقة اللغوية في مصطلح “التبرع الإلزامي”، كون التبرع هو فعل اختياري تطوعي بحت لا يمكن أن يكون إلزاميًا، كان من الضروري توضيح ماهية العبء المالي الذي يفرضه المُقترح على كاهل المواطنين من الناحية القانونية. أولاً، يجب التأكيد على أننا لسنا أمام أي شكل من أشكال التبرع، فعقود التبرع بصورها العديدة كالهبة والإعارة (العارية)[4] كغيرها من كافة العقود تشترط موافقة طرفيها بإرادتهم الحرة، وليس عن طريق الإلزام. وعليه، فإن ما يقترحه المستشار أبو شقة هو في حقيقته ضريبة جديدة يهدف إلى فرضها على دخول المواطنين. فوفقًا لقضاء المحكمة الدستورية العليا، الضريبة هي “فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا من المكلفين بأدائها إسهامًا من جهتهم في تكاليفها العامة. وهم يدفعونها لها بصفة نهائية، ودون أن يعود عليهم نفع خاص من وراء التحمل بها. فلا تقابلها خدمة محددة بذاتها، يكون الشخص العام قد بذلها من أجلهم، وعاد عليهم مردودها”[5]. وهو التعريف الذي ينطبق على الاستقطاعات الثابتة من دخول المواطنين التي يقترحها مشروع القانون المُقترح.
لذلك فإنه يتعين عند تقييم دستورية تلك “الضريبة“، عدم الاعتداد فقط بالرأي الذي يروج له صاحب المقترح، والقائل بأن الدولة تواجه ظرفا طارئا وتحتاج إلى مساعدة مواطنيها. فوفقًا للفقيه الدستوري عوض المُر الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا: “مجرد حاجة الدولة إلى الضريبة لتنمية مواردها، لا يعتبر عنصرًا قاطعًا في دستوريتها”[6]. كما يعتبر خضوع جميع الأعباء المالية التي تقع على عاتق المواطنين لضوابط العدالة الاجتماعية شرطا أساسيا لدستوريتها، وهو الأمر الغائب عن هذا المُقترح. فبغض النظر عن النسب التصاعدية للاستقطاعات التي يهدف المُقترح إلى تحصيلها وفقًا لحجم الدخل، والتي تبدو في ظاهرها موائمة لمبادئ العدالة الاجتماعية، ولكنها في حقيقة الأمر تتجاهل الظرف الطارئ الذي يمر به المواطنون أيضًا، وتأثر مراكزهم المالية وأنشطتهم الاقتصادية بشكل كبير، مما يفرض على الدولة ضرورة التدخل لحمايتهم اجتماعيًا ومساعدتهم، وليس استقطاع نسبة من مرتباتهم ودخولهم.
من ناحية أخرى، نص المُقترح على أن توجه تلك التبرعات/الاستقطاعات إلى صندوق تحيا مصر وليس إلى الخزانة العامة للدولة. ذلك الصندوق الذي تم إنشاؤه في عام 2014 لمعاونة أجهزة الدولة في إقامة المشروعات الخدمية والتنموية[7]، ويخضع لإشراف وعناية رئيس الجمهورية بشكل مباشر، بالإضافة إلى تمتعه بالاستقلال المالي والإداري للدرجة التي تصل إلى فرض نوع من السرية على حسابات الصندوق وميزانيته[8]. وهو الأمر الذي يجعل من تطبيق هذا المُقترح البرلماني انتهاكًا صارخًا لكافة مبادئ المحاسبة والشفافية.
هل تحتاج الدولة إلى “تبرعات” المواطنين لمواجهة أزمة فيروس كورونا؟
في 22 مارس 2020، أعلن رئيس الجمهورية عن تخصيص مبلغ 100 مليار جنيه، لتمويل الخطة المصرية الشاملة لمواجهة فيروس كورونا[9]. في الوقت نفسه، لم تستعرض الحكومة تفاصيل تلك المخصصات المالية، مما يسمح لنا بالوقوف على نصيب الجهاز الصحي من ذلك المبلغ، أو معرفة مقدار الدعم الذي تم توجيهه لدعم الصناعات التي تعطلت منذ بداية الأزمة. أيضًا، لم يتم الإعلان عما إذا كان مصدر تلك المخصصات الطارئة هو الموازنة العامة للدولة أم مصدر آخر. فعلى سبيل المثال، وجه رئيس الجمهورية صندوق تحيا مصر الذي يخضع لإشرافه بتحمل تكلفة إقامة جميع المصريين العائدين من الخارج بالحجر الصحي[10].
كما أكد رئيس الجمهورية مرة أخرى على توافر احتياطات مالية ومادية مناسبة وكافية لمواجهة الأزمة الحالية، ليست ضمن احتياطات وزارة الصحة أو احتياطات القوات المسلحة بل احتياطات أخرى، على حد تعبيره[11]. وهو الأمر الذي يثير التساؤلات حول هذه الاحتياطات ويطرح علامات استفهام حول مدى حقيقة استعداد الدولة. ولكن يظل أن الموقف الرسمي حتى هذه اللحظة يبعث كل رسائل الطمأنينة لدى المواطنين بشأن توافر الموارد المادية والبشرية الكافية للتعامل مع أزمة فيروس كورونا في الوقت الحالي. ولم تطلب الحكومة حتى من المواطنين التبرع أو المساعدة، وإن لم تعارض التبرع إلى صندوق تحيا مصر. فهذا الصندوق كما أشرنا تابع لرئيس الجمهورية ولا نعرف حجم التبرعات التي تصل إليه؛ وعليه من الممكن أن يكون هذا الصندوق هو الباب الخلفي لضخ الأموال اللازمة حالياً بعيداً عن الموازنة. وهذا الصندوق يتلقى التبرعات طوال العام وضمنا منذ بداية الأزمة. وعليه، وبمعزل عن مدى صدقية خطاب الدولة بتوفر الإمكانات الضرورية، فإنه من غير الجائز فرض هذه التبرعات على المواطنين في ظل خطاب مماثل.
تعويض إخفاق الانفاق على الرعاية الصحية من جيوب المواطنين
من ناحية أخرى، فإننا نرى أن ما كانت تحتاجه الدولة المصرية ومازلت تحتاجه بشدة هو الالتزام بواجبتها الدستورية فيما يتعلق بالإنفاق على الرعاية الصحية. فوفقًا للنص الدستوري “تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية“[12]. وهو الأمر الذي لم يتحقق ولو لمرة واحدة منذ إقرار الدستور الحالي، أي منذ ما يزيد عن ست سنوات، حيث تجدر الإشارة إلى أن موازنة وزارة الصحة للعام المالي 2019/2020 بلغت ما يقرب من 73 مليار جنيهًا، يذهب حوالي نصفها إلى أجور ومرتبات العاملين بقطاع الصحة[13]. وهو ما دفع وزيرة الصحة للمطالبة باعتمادات إضافية لمشروع موازنة وزارة الصحة تُقدر بنحو 33 مليار جنيه لتنفيذ وتفعيل قانون التأمين الصحي الشامل، وتطوير المستشفيات والعلاج على نفقة الدولة، والعديد من الخدمات الصحية الأخرى، وهو ما لم يجد قبولا من مجلس النواب أثناء المناقشة النهائية لمشروع الموازنة العامة[14]. لذا فإنه كان من الواجب على رئيس لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بمجلس النواب الإلتزام بالمخصصات المالية التي حددها الدستور لموازنة الصحة أثناء إقراره للموازنة العامة، بدلًا من الترويج لمشروع قانون غير دستوري، يقتطع من أموال المواطنين لرأب الضرر الناتج عن سياسات مالية خاطئة ارتكبتها الدولة بأجهزتها التشريعية والتنفيذية معًا.
خاتمة
تعتبر الأزمة الحالية التي تمر بها الدولة المصرية في إطار محاولتها لتوفير الموارد الكافية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا ليست فريدة من نوعها، وليست بمعزل عما يحدث في دول العالم كافة، حيث يعاني أطراف المجتمع الدولي كافة من الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية لهذا الحدث الاستثنائي. ولكننا في الوقت نفسه لم نجد أي دعوات أو مقترحات تدعو لإلزام المواطنين بالتبرع للدول لمواجهة ذلك الوباء، بل على النقيض، تحاول أغلب الأنظمة توفير أكبر قدر ممكن من الضمانات الاجتماعية لمواطنيها لمساعدتهم على عبور فترة الركود الاقتصادي الحالية والمتوقع استمرارها لفترة طويلة. لذلك فإننا نرى أنه من الملائم أن يتم إطلاق بعض الدعوات التي تنادي أصحاب رؤوس الأموال الضخمة بالتبرع والمساهمة من أجل اجتياز تداعيات الظرف الراهن، أو حتى فرض ضريبة على تلك الأموال إذا اقتضى الأمر بشرط أن ينظم القانون أوضاع تلك الضريبة، وأسس تقديرها، وبيان مبلغها، وقواعد تحصيلها حتى تكون ملائمة لمبادئ العدالة الضريبية. ولكنه ليس من الجائز أو المقبول على الإطلاق إلزام المواطنين الذين يتقاضون بضعة ألاف تكفي بالكاد أعباء الحياة اليومية بمشاركة الدولة في دخولهم بالإجبار.
[5] القضية رقم 33 لسنة 16 قضائية “دستورية” – جلسة 3/2/1996 – قاعدة رقم 22- ص 413-414 – من الجزء السابع من مجموعة أحكام المحكمة.
[6] الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية – المستشار الدكتور/ عوض المُر- مركز رينيه جان دبوى للقانون والتنمية – 2003 – ص290.
[7] راجع/ قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 84 لسنة 2014 بشأن إنشاء صندوق تحيا مصر.
[11] راجع: شاهد تصريحات الرئيس السيسي في إطار تفقده للعناصر والمعدات التابعة للقوات المسلحة المخصصة لمعاونة القطاع المدني بالدولة لمكافحة انتشار فيروس كورونا- قناة ONE – 7 أبريل 2020.
[12] راجع مادة (18) من دستور 2014.