استنسخت اليمن مؤخراً الجدل السائد في دول الحراك العربي حول قضية العزل السياسي، فدارت فيه معركة شديدة في إطار فريق الحكم الرشيد في مؤتمر الحوار الوطني الشامل بعد ان تقدم مكون شباب الثورة في شهر أكتوبر 2013 بمقترح مادة دستورية، تنص على العزل السياسي لكل من شملتهم الحصانة بالقرار رقم (1) لسنة 2012 الصادر تبعا للمبادرة الخليجية مع رفع هذه الحصانة عنهم[1]. ومنذ التصويت على هذا المقترح باعتراض مكون حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم سابقاً والذي ما زال يرأسه الرئيس السابق علي عبدالله صالح) وحده، تصاعد مسار الجدل، وخصوصا بعدما هدد هذا الحزب بالانسحاب من مؤتمر الحوار. وبذلك، أضافت هذه المادة المقترحة تعقيداً اضافي لتعقيدات مؤتمر الحوار الذي يشهد اختناقاً شديداً في عدد من القضايا المطروحه على جدول اعماله، وخصوصاً القضية الجنوبية والعداله الانتقالية، الامر الذي يهدده بالفشل فعلياً خصوصاً بعد ان تجاوز المدة المحدده له لانتهاء اعماله باكثر من شهرين.
وعلاوة على كون هذا الاقتراح جزءا من تداعيات دول الحراك العربي الذي شهدت عدد من دوله اقرار قوانين شبيهه للحيلوله دون عودة "الفلول"، فـانه يأتي مُعززاً في اليمن ضمن السياق الممتد من الجدل الدائر حول الحصانة الممنوحة للرئيس السابق علي عبدالله صالح. فممثلو الشباب في الثورة، يرون ان هذا الاقتراح سيفقد صالح قدرته على التأثير على مسار الاحداث في اليمن، ولا سيما أن لحزب المؤتمر حاليا نصف مقاعد الحكومة، علاوة على سيطرته على مقاعد البرلمان ومجلس الشورى. وهذا ما أشار اليه صراحة مجدي النقيب أحد ممثلي الشباب بإن "مادة العزل السياسي للمخلوع وأعوانه ورفع الحصانة عنهم هي أهم مادة سعينا لتحقيقها في مؤتمر الحوار، وتم انتزعها بتكاتف وصمود جميع فريق الحكم الرشيد»، مشيراً في تصريحه بقوله «لا خير فينا إذا لم نخرج بهذه المادة ولا قيمة لمشاركتنا في الحوار إذا لم تنفذ"[2].
ورغم اقرار نص هذه المقترح بنسبة 90% في إطار الفريق مع اعتراض مكون المؤتمر فقط، بما يجعل منها مادة نافذه وفق النظام الداخلي لمؤتمر الحوار، إلا ان الجدل السياسي الكبير المتصل بها ادى لان تطلب لجنة التوفيق من فريق الحكم الرشيد تقديم مقترح بديل، واستبدل بعدها الفريق النص السابق باخر جديد يتضمن مجموعة شروط لشاغلي الوظائف العليا في الدولة والاحزاب! لتتبدل الوظيفة من العزل السياسي المباشر إلى عزل سياسي ضمني يحول دون قدرة اشخاص بعينهم من شغل مراكز عليا في اجهزة الدولة، وهو ما يبدو مفصلاً على صالح ونجله احمد -الذي كان يقود الحرس الجمهوري قبل الغاء هذا المسمى العسكري في الجيش اليمني مؤخراً وتعيينه سفيراً في دولة الامارات من قبل الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور الهادي. ويتضمن النص الجديد على وجوب توفر شروط عدة فيمن يترشح أو يعين في أحد المناصب الآتية: رئيس الجمهورية -رئيس الوزراء -رؤساء المجالس التشريعية -رؤساء الأحزاب والتنظيمات السياسية وأمناء العموم وكل المناصب القيادية والسياسية في الدولة، أبرزها فيما يعنينا هنا "أن لا يكون قد تولى منصب رئاسة الجمهورية او رئاسة البرلمان او الشورى او رئاسة الوزراء لفترتين رئاسيتين" و"أن لا يكون ممن لم يستطع القضاء النفاذ اليهم لادانتهم على اي إنتهاكات بسبب قيود قانونية تعرقل القضاء" و"أن لا يكون قد تورط في ارتكاب انتهاكات جسيمة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وفقا للمواثيق والعهود والقوانين الدولية (جرائم الحرب، جرائم الإبادة الجماعية، جرائم ضد الإنسانية)" و"أن لا يكون منتسب للمؤسسة العسكرية او الأمنية مالم يكن قد ترك عمله في المؤسستين قبل فترة لا تقل عن عشرة أعوام" و"أن يكون مؤهلاً ومشهودا له بالنزاهة والكفاءة وحسن المعاملة"[3]. ونلحظ أن موانع الترشح في هذه المادة تنطبق ليس فقط على المواقع القيادية في الدولة انما أيضا على هذه المواقع في الاحزاب ايضاً!
مقترح سياسي مشوه قانونيا
إن مضامين هذا المقترح الدستوري تكشف بجلاء عن ارتباك شديد في علاقتها بفكرة القانون وعملية الصياغة الدستورية، وهو مقترح مليء بالتناقضات، حيث يتضمن موادا متعدده وارده في قوانين الجمهورية اليمنية في الأساس. فمثلاً ورد ضمن موانع العمل السياسي المشار اليها في المقترح "أن لا يكون منتسب للمؤسسة العسكرية او الأمنية مالم يكن قد ترك عمله في المؤسستين قبل فترة لا تقل عن عشرة اعوام." فرغم ان التشريع اليمني يحول دون الجمع بين العمل الحزبي وأن تكون فرداً عاملاً في المؤسسة العسكرية والأمنية، فقد تم التزيُّد على ما هو موجود بالقانون بإضافة مدى زمني لهذا المنع، بحيث تُشترط مدة قدرها عشر سنوات على الاقل منذ ترك هذه المؤسسات العسكرية والامنية قبل تولي أي منصب سياسي سواء في إطار حزب أو الدولة! وهذا الأمر يؤدي طبعا الى مصادرة حق الكثير من المواطنين بشكل غير مبرر، فيما قد فصل أساسا بهدف الحؤول دون ترشح احمد علي عبدالله صالح (قائد الحرس الجمهوري المنحل) للانتخابات الرئاسية.
وفي مستوى اخر من هذا المقترح الدستوري المُفصله على مقاس الرئيس السابق ونجله، نجد المانع المتمثل في "أن لا يكون قد تولى منصب رئاسة الجمهورية او رئاسة البرلمان او الشورى او رئاسة الوزراء لفترتين رئاسيتين." وتريد هذه المادة هنا ان تحول على من تولى منصب الرئاسة سابقاً ان يتولى قيادة أي حزب، او معاودة التفكير بالرئاسة ذاتها! وبغض النظر عن الموقف من صالح الذي يستهدف بهذا النص، فانه يعطل في مستوى اخر الحق الاصيل لاي شخص سبق ان ترأس رئاسة الوزراء او البرلمان او الشورى من التقدم للترشيح لمنصب الرئاسة! ومن المواد الفضفاضه بشده في المقترح تلك التي تنص "أن لا يكون قد تورط في ارتكاب انتهاكات جسيمة بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وفقا للمواثيق والعهود والقوانيين الدولية (جرائم الحرب، جرائم الإبادة الجماعية، جرائم ضد الإنسانية)" وهذا امر مفتوح للغاية، لا يمكن قياسه ولا يمكن اثباته والتحقق منه سوى بحكم قضائي.
وطبعاً تأتي مواد اخرى ضمن ذات الصياغات التي لاتعني شيئاً بالمعنى القانوني، كالشرط الذي يقضي ب"أن يكون موهلاً ومشهود له بالنزاهة والكفاءة وحسن المعاملة" ولا يبدو هنا واضحاً بالضبط كيف يمكن فهم او قياس (حسن المعاملة) على سبيل المثال!
وبالطبع، يشكل المانع المتمثل في "أن لا يكون ممن لم يستطع القضاء النفاذ اليهم لإدانتهم على اي انتهاكات بسبب قيود قانونية تعرقل القضاء" النموذج الارفع مستوى للعبث القائم في هذا المقترح الدستوري المُفترض! فالأصل الطبيعي في القوانين أن جميع المواطنين سواسيه بنظرها، وبالتالي لا يحول شيء دون قدرة القضاء على النفاذ إلى شخص انتهك القانون مهما كان موقعه واعتباره، ناهيك عن كونه مرشحا رئاسيا، أو قائد حزب سياسي! ويبدو هذا المقترح بغرض الالتفاف من حول قانون الحصانة لمنع صالح من الترشح فقط، بما يكشفه ذلك من عبث استثنائي وغير معقول، يكون ناتجه ان نؤبد وضعاً مختلاً – هو قانون الحصانة غير الدستوري القابل للسقوط من اول جولة امام اي دائرة او محكمة دستورية مهما كان الحديث عن سياديته- بتضمين نص دستوري يقر بوجود (قيود قانونية تعرقل القضاء) من الوصول إلى أحدهم دون البوح بذلك صراحة. فكأنما الدستور عملية احتيالية أو مجرد أداة من ادوات الفهلوة السياسية بين فرقاء سياسين يمنحون الحصانة لبعضهم بدايةً، ومن ثم يريدون توظيفها للنيل من طرف بعينه.
بالتأكيد يمكن مُلاحظة ان معظم مواد هذا المقترح الدستوري تتعلق بشروط الترشح لموقع الرئاسة، ولكن تم حشر كل المناصب العليا هنا أيضاً، هذا بالإضافة إلى تعميم هذه الشروط للتعلق بالموقع الاولى في قيادة الاحزاب السياسية! وهو خلط غريب بين ما يخص الدولة كموقع عام، وبين ما هو حزبي ينتمي لفضاء آخر بالمعنى القانوني، ناهيك عن كون ما يتعلق بالمواقع العليا الأخرى دون الرئاسة، تنظم بشروط مختلفه وفق قوانين ولوائح خاصة بكل موقع على حده، ولاينص عليها دستورياً عادةً.
إن الصياغة الدستورية، وعملية التشريع عموماً، هي ممارسة رصينة وهادئة، تعتمد التجريد والعمومية، وتلتزم بمعايير قانونية منضبطة وكلية، ولا يمكن أبداً مُقاربتها ضمن عملية توظيف سياسية انتقائية ومتحايلة كما يُفصح عنه أي تحليل سريع لهذا المقترح الدستوري الغريب الذي قدم مشوهاً ضمن ظروف الصراع السياسي المحتدم بين الاطراف الموقعة على المبادرة الخليجية. وانطلاقا من ذلك، لا يبدو مؤتمر الحوار الموقع الملائم لتدشين عملية صياغة دستور مستقبلي لعموم اليمنيين.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.