أعدّت لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت اقتراح قانون معّجل مكرّر يرمي إلى إصلاح وضع المصارف المتوقفة عن الدفع وإعادة تنظيم القطاع المصرفي، وقد تقدّم به النائب فراس حمدان في تاريخ 13/2/2023 بصيغة اقتراح معجّل مكرّر. وهو اقتراح كانت اللجنة أعدّته بالتوازي مع اقتراح قانون آخر لوضع ضوابط على السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول) (تقدم به النواب حليمة قعقور وإبراهيم منيمنة في تاريخ 10/2/2023). وكانت اللجنة أعدّت هذيْن الاقتراحيْن في مواجهة مشروع قانون لحكومة تصريف الأعمال بشأن الكابيتال كونترول واقتراح قانون قدمه النائبان جورج بوشكيان وأحمد رستم (المقربان من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي) بشأن إعادة التوازن المالي وهو اقتراح صوّر على أنّه يحظى بتأييد هذا الأخير. وإذ تتصل هذه المقترحات بالإصلاحات المذكورة في الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي الموقع في نيسان 2022، فإن نقيب المحامين ناضر كسبار برّر مبادرة النقابة في بيانٍ تلاه خلال مؤتمر صحافي أعلن فيه إنجاز الاقتراحين، قائلاً: “منذ ثلاث سنوات والسلطة في لبنان تدور في حلقة مفرغة إزاء القوانين التي كان يجب إقرارها منذ اليوم الأول للأزمة المالية، أسوة بما قامت به دول العالم التي تعرّضت لأزمات مالية مماثلة. لقد حاولنا جاهدين العمل مع اللجان النيابية لتعديل القوانين المقترحة من الحكومة ولكن لم نتمكّن من خرق الجدار المتعلّق بالمواد التي كانت دائما حاضرة لتذويب الودائع والتهرّب من المحاسبة. فضّلنا العمل على قوانين مستقلة تراعى فيها حقوق المودع وتعتمد المعايير العالمية”.
وعند مقارنة هذه المقترحات المختلفة، يتبيّن بوضوح أنها تختلف ليس فقط لجهة كيفية توزيع الخسائر وتحديداً مدى مسؤولية القطاع المصرفي في تحمّلها كاملة أو جزئيا (وهذا ما ندرسه في هذا الجزء من المقال)، ولكن أيضا – وهذا يعدّ أمرا متميزا وجديدا في الخطاب العامّ – مدى جدارة الودائع بالحماية (وهو الأمر الذي درسناه في الجزء الأول من هذا المقال)، على نحو يسمح باستبعاد الودائع غير المشروعة أصلا مقابل منح حماية أكبر للودائع المتصلة بأهداف اجتماعية كصناديق الضمان الصحي. وهذا ما سنعرضُه تفصيليا أدناه.
وقبل المضيّ في ذلك، يذكر أن لجنة الإدارة والعدل كانت عكفت على دراسة اقتراحي قانون قدما من كتلتي الوفاء والمقاومة والتغيير والتنمية، وانتهت في آذار 2023 إلى اقتراح يحصر أي مسّ بقيمة الودائع (اقتطاع أو شطب أو إلغاء أو تخفيض القيمة من أموال المودعين بأي عملة كانت) بإرادة المشرع وحدها. وعدا عن أن هذا الاقتراح لا يضيف جديدا على مضمون القوانين الحالية وإن كان يدين ضمنا ممارسات قص الشعر المعتمدة من المصارف، فإنه لا يتضمن أيّ معالجة واقعية لإشكالية الودائع.
أي مسؤولية عن تعثّر المصارف؟
تبعا لما تقدّم، يعكس اقتراح لجنة حماية حقوق المودعين لدى نقابة المحامين توزيعا جديدا للخسائر، يتميّز عن الاقتراح المقدّم من جهات مقرّبة من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ليس فقط لجهة كيفية توزيع الخسائر، ولكن أيضا لجهة الأطراف المشاركة في توزيع الخسائر. كما يتميّز اقتراح النقابة أنه يعدّ مسؤولية المصارف كاملة (أقله بالنسبة إلى أصل الودائع المشروعة والفوائد العادية) تحت طائلة إعلان توقفها عن الدفع، بحيث تكون مسؤولية الآخرين مسؤولية مكمّلة واستلحاقية فقط. وتحدّد هذه المسؤوليات وفق اقتراح النقابة على ضوء المعايير الآتية:
أولاً: مسؤولية المصارف شاملة؟
السؤال الأول الذي يطرحُه الاقتراحان هو مدى مسؤوليّة المصارف عن تسديد الودائع. وهنا تجدر الإشارة منذ البداية إلى وجود فوارق كبيرة بين الاقتراحيْن وفق ما نبينه أدناه.
ففي اقتراح النقابة، تكون المصارف مسؤولة بصورة شاملة عن تسديد جميع الودائع باستثناء الودائع غير المشروعة والفوائد الفائضة، من دون أن يكون بإمكانها شطب أي جزء منها وأيضا من دون أي تمييز بين الودائع لجهة قيمتها أو صاحبها. ويُلحظ هنا أنّه بالنظر إلى جسامة الخسائر الحاصلة لدى المصارف، فتح هذا الاقتراح أمام المصارف إمكانيّة تقسيط تسديد الودائع على فترة زمنيّة تصل في حدّها الأقصى إلى خمس سنوات. وبإمكانِنا هنا أن نتساءل عن سبب اختيار الخمس سنوات كمدّة قصوى ومدى ملاءمة تطويل هذه المدة وبخاصة في حال الودائع الكبيرة أو ودائع المحترفين أو ما شابه، إذ يخشى في ظلّ جسامة الخسائر أن تؤدي إلزامية تسديد الودائع خلال هذه الفترة سببا لإعلان غالبية المصارف إن لم يكن كلها غير قادرة على متابعة أعمالها. وقد يكون تاليا من المفيد اعتماد هذه الفترة بالنسبة للمودعين غير المحترفين والذين لا تتجاوز ودائعهم نسبا معينة، على أن يكون للمصارف تسديد ودائع المحترفين خلال فترات أطول نسبيا. علما أن الاقتراح أورد بوضوح تعريف المحترفين وغير المحترفين كما نبيّن أدناه.
أما الاقتراح الثاني، فمن البين أنه يحمّل المصارف مسؤولية تسديد جزء من الودائع كاملا وهو مبلغ مائة ألف د.أ على أن تكون الأجزاء المتبقية قابلة للتخفيض عملا بلعبة أسعار الصرف المختلفة، وذلك على أساس سعر صرف يقلّ عن سعر صيرفة وتحدده الهيئة المصرفية العليا. ومؤدّى ذلك عمليا هو إخضاع الودائع التي تزيد عن قيمة 100 ألف د.أ لقصّ شعر وفق ما ترتئيه الهيئة التي لها أن تقصّ قليلا من الشعر أو كثيرا منه.
وبالطبع، وفق الاقتراحيْن، تنطبق هذه القواعد حصْرا على المصارف التي يمكنها متابعة أعمالها أو تكون قابلة على الاستمرار. أما المصارف الأخرى فمآلها وضع اليد عليها تمهيدا لتصفيتها. وعليه، جاز القول أن مسؤوليات الأطراف الأخرى تكون في هذه الحالة مكمّلة ولا يتمّ استدعاؤها إلا في حال تعثر المصارف وعجزها عن الإيفاء بموجباتها وفق ما ندرسه أدناه.
ثانيا: توزيع المسؤوليات في حال تعثّر المصارف
في هذا السياق، من يتحمّل مسؤولية تعثّر المصارف في تسديد حقوق المودعين؟ وأكثر تحديدًا ما هي مسؤولية الدولة أو مصرف لبنان أو مؤسسة ضمان الودائع في هذا الخصوص؟ هل من واجب هذه المؤسسات العامة ضمان الودائع عوضا عن المصارف التي تعثرت؟ وفي حال الإيجاب، بأية حدود ولأي فئات؟ بمعنى هل تكون الضمانة العامة في حال وجودها هي نفسها لجميع المودعين من دون تمييز وفق وضعيّتهم أم أنّ ثمّة تمييزا ضروريّا بين الودائع على خلفيّة مدى جدارتها بالضمانة؟ بذلك، نعالج هنا مفهوم الوديعة المضمونة من السلطة العامة بعدما عالجنا أعلاه مفهوم الوديعة الجديرة بالحماية. وهنا، نسجل اختلافا كبيرا بين الاقتراحين.
إذ أن الاقتراح الأول لا يميّز إطلاقا بين الودائع “المؤهلة” مجرّدا إياها كلها من أيّ ضمانة عامّة، إلا ما نصت عليه القوانين الناظمة لمؤسسة ضمان الودائع وهي لا تتعدّى حالياً 75 مليون ليرة لبنانية. وهو لا يتعرّض مطلقًا لمسؤوليات مدراء المصارف تاركا ذلك لأحكام القانون العام.
بخلاف ذلك، عالج اقتراح نقابة المحامين أولا مسؤولية مدراء المصارف، قبلما يتناول المسؤوليّة العامّة في ضمان الودائع وفق وضعيّة أصحابها وقيمتها ومدّة إيداعها.
فعلى صعيد مسؤولية المدراء، نصّ الاقتراح على حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لفئات واسعة من المدراء القانونيين أو الفعليين للمصارف المتعثّرة خلال الخمس سنوات السابقة لتاريخ التوقف عن الدفع، وتحصّل جميع الأموال التي قد تتأتّى عن هذه المسؤوليّة لصالح مؤسسة ضمان الودائع لتوزّع لاحقا على المودعين وفق أحكام الاقتراح التي نبينها أدناه في معرض درس المسؤولية العامة. كما أقصى الاقتراح المذكور ودائع هؤلاء وعائلاتهم من فئة الودائع المضمونة ضمانة عامة. وهذا الأمر يجد ما يبرره في العلم والمعرفة اللذين يفترض أن هذه الفئة حظيت بهما، مما يوجب تحميلها المسؤولية الكاملة عن خسارة ودائعهم الناتجة عن مجازفتِهم في إيداع أموالهم في المصارف رغم علمهم المفترض بوجود مخاطر تعثر عالية.
وعليه، تأتي المسؤولية العامّة (الدّولة أو مؤسّسة ضمان الودائع) كمسؤوليّة استلْحاقية، وقد عمد الاقتراح إلى الممايزة بين الودائع لجهة مدى أحقيتها بالضمانة العامة. ففيما تصل الضمانة العامة بالنسبة لغير المحترفين إلى 30%، لا تتعدى ضمانة غير المحترفين نسبة 5%. وقد اعتمد الاقتراح معايير عدة للتمييز بين هاتين الفئتين: المعيار الأول تمثّل في الغاية من الوديعة، وهي الودائع العائدة لمؤسسة تعليميّة أو عامة أو بلدية أو نقابة مهنية أو صندوق تعاضد أو ضمان اجتماعي أو جمعية لا تبغي الربح ذو صفة منفعة عامة مهما بلغت قيمتها. المعيار الثاني، اتصل بقيمة الوديعة بحيث أن الاقتراح اعتمد قرينة قوامها أن الوديعة تعدّ غير محترفة في حال لم تتجاوز قيمتها مبلغ …. د.أ. المعيار الثالث، تمثل بسبب نشوء الوديعة وتوقيته، وهي الودائع التي انتقلت بالإرث والمسددة الرسوم والضرائب المترتبة عليها أو نتيجة تفرّغ صاحب الوديعة المقيم في لبنان عن عقار كان مخصصا لسكنه الشخصي مهما بلغت قيمتها، على أن يكون التفرغ قد تم ما بين 17 تموز 2019 و17 تشرين الأول 2019.
يستشفّ من المعايير المُستخدمة أنّ التصنيف يهدف إلى التمييز بين المودعين ليس فقط على أساس المشروعيّة أو دورهم في إدارة المصارف أو الرقابة عليها، ولكن أيضا على أساس مسؤوليّة الدولة تجاههم، وهي مسؤولية متنوعة المصادر، منها ما هي مسؤولية اجتماعية لأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة أو أيضا الودائع المستخدمة في خدمات اجتماعية واضحة، ومنها مسؤولية قانونية ناجمة عن إخلال مؤسساتها العامة عن ضمان حقوق المودعين وسلامة القطاع المصرفي. وفي حين تتحدّد الموجبات المترتبة على المسؤولية الأولى على ضوء نسبة التضامن الاجتماعي والموارد المتوفرة، تتحدد الموجبات المترتبة على المسؤولية القانونية بصورة جزئية، تزيد أو تقلّ على ضوء مسؤولية المودعين أنفسهم. فهل للمودع إمكانات مالية تخوّله معرفة المخاطر الناجمة عن الإيداعات لدى المصارف؟ هل لديه خيار بين إيداعها في مصرف لبناني أو الخارج؟ ومن هنا، نلحظ أنّ الاقتراح حدّد هذه المسؤوليّة بنسبة 30% لغير المحترفين مقابل 5% للمحترفين.
فأن يكون المودع محكوما بدرجة أو بأخرى بإيداع أمواله في المصارف اللبنانية بفعل إقامته في لبنان أو محدودية وديعته أو طبيعتها أو قدراته على الاستعلام حول مخاطر المصارف، يجعله أكثر أحقية في مطالبة الدولة في تحمل مسؤوليتها تجاهه في إخلال مؤسساتها في تنظيم القطاع المصرفي وضمان سلامته.
بالمقابل، يحمّل المودع الذي كان له خيار في إيداع أمواله أو عدم إيداعها في لبنان للاستفادة من الفوائد العالية، تماما كما يحمّل أي تاجر مسؤولية خياراته المهنية والمخاطر التي ترشح عنها، وبخاصة أنه كان بإمكانه أن يستعلم بالنظر إلى قدراته المالية عن مخاطر إيداعها في المصارف اللبنانية. ومن شأن هذا الأمر أن يزيد من مسؤوليته في تحمل الخسارة وأن يقلل تاليا من أحقيته في مطالبة الدولة في ردّها.
ومع التسليم بأهمية هذا التصنيف، إلا أنه يجدر مراجعة التعريف المعتمد لودائع غير المحترفين، لتشمل بالضرورة تعويضات نهاية الخدمة، وإن كان أغلبها يبقى مشمولا بالودائع التي لا تتجاوز قيمتها الحدّ الذي يخرجها عن مفهوم ودائع غير المحترفين.
كما بإمكاننا التساؤل فيما إذا كان يتوجب ضمان حماية أكبر للودائع التي تهدف إلى ضمان الحقوق الاجتماعية أو المتصلة بغايات التغطية الصحية أو الخدمات التعليمية. فهل يصحّ التعامل معها مثل أيّ وديعة لغير محترف أم أنّه يجدر منحُها حمايةً أكبر انطلاقا من المسؤولية الوطنية في ضمان هذه الحقوق؟
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أنّ الاقتراح الثّاني يفتح الباب لمساهمةٍ أكبر من قبل مؤسسة ضمان الودائع، بعضها محتمل وبعضها بحاجة إلى تنظيم لاحق. ففيما يتمّ توزيع المبالغ التي قد تحصّلها الدولة من أعمال تصفية المصارف ومن تنفيذ الأحكام الصادرة على الأشخاص المسؤولين فيها مهما بلغت قيمتها على المودعين، يضاف إلى ذلك مساهمات من الأموال التي قد يتمّ تحصيلها من ملاحقة الجرائم التي وقعت إضرارا بحقوق المودعين. واللافت أنّ الاقتراح نصّ علاوةً على ذلك على إمكانيّة منح ائتمان ضريبيّ لفئةٍ من المودعين، هم أصحاب الودائع العائدة للمؤسسات التجارية والصناعية والمهنيّة والمكلّفين الخاضعين لنظام الربح الحقيقي الملتزمين ضريبيّاً، وهو ائتمان يمكن حسمه من الضرائب التي قد تتوجّب عليهم لاحقا، كما يمكن تسنيده تسهيلا للتداول به بيعاً وشراءً. ومن البيّن أن هذه الآلية تطرح إشكالات قانونية عدة., فعدا عن أنها تؤدي في حال تفعيلها إلى تمييز هذه الفئة من المودعين من خلال تمكينها من استيفاء ودائعها من خلال التبرّؤ من العبء الضّريبي بخلاف سائر المودعين، فإنها أيضا تطرح إشكالا آخر لا يقل خطورة وهو رهن عائدات الخزينة المستقبلية وتاليا حقوق الأجيال القادمة لتسديد ودائع هؤلاء. من هذه الزاوية، بدت هذه الإضافة وكأنها زجّت زجّا في الاقتراح على نحو يتعارض تماما مع الأسس التي كان انبنى عليها.