برز مؤخّرا باحثون ومفكّرون وناشطون يهود في طليعة مُعارضي العدوان الإسرائيليّ. وقد انتقدُوا ليس فقط الحرب الدائرة في غزّة بل أيضا الفكر الصهيوني والسرديّات التي انبنى عليها. وفيما كانت هذه الأصوات حاضرةً دائما، فإنّ حضورها لم يبرزْ يوما كما برَزَ خلال الأسابيع الماضية، ولا سيما في أوساط اليهود الأميركيين والتحرّكات التي بادروا إليها في واشنطن ونيويورك.
وبالنظر إلى تنامي هذه الحركة، رأينا من المفيد أن نستعيد هنا بعض أعمال المفكّرين والباحثِين والنّاشطين اليهود المناوئين للصهيونية، والذين يتمتّعون بحكم أصولهم اليهوديّة وانتمائهم للثقافة الغربيّة، على قدرة أكبر على تجاوز الحساسيات الموروثة من الحرب العالمية الثانية وتاليا في مواجهة الحواجز السردية الصهيونية. ولعلّ انتشار أعمال هؤلاء على “الإنترنت” خارج نطاق التقييد الإعلامي، كان له دورٌ وصدى في تصاعد الحراكَات اليهوديّة المناهضة للصهيونية في دول الشمال منذ حرب غزّة 2014، وفي خضمّ الحرب الوحشيّة على غزّة اليوم.
وقبل المضيّ في ذلك، تجدر الإشارة إلى نزوع هؤلاء للتكامل فيما بينهم. فتجد على “يوتيوب” محاضرة مشتركة لجدعون ليفي (الصحافي) وآلن بابي (المؤرخ)، أو فيلموثائقي يجمع مؤرخين ينتمون لما بات يعرفبتيار “مابعدالصھیونیة”، ويشرح وقائع حرب 1948 من خلال شهادات حيّة توثّق مجازر الإبادة التي ارتكبها الإسرائيليين، أو تجد عملا بحثيا مشتركا لبابي والمفكّر نعوم تشومسكي، الخ..
أحد الناجين من الهولوكوست حين كان طفلاً: الطبيب والمفكّر الكندي غابور ماتي يدافع عن غزّة
قد يكون غابور ماتي المفكر والطبيب المتخصّص في أمراض “التروما” والإدمان أبلغ من وصف البروباغندا الصهيونية المحرضة على قتل سكّان غزّة عام 2014. ومن الجدير الإطلاع على خلفيّة مشروعه الفكري، والذي يمكن تبسيطه على أنه النقيض لمشروع عالم النفس الشهير جوردن بيترسون. إذ يرى ماتي أن مشاكل الأفراد النفسيّة تعود إلى القلق والتوتّر المتأصّل في بنية النظام القائم (أكثر مما هي مشاكل فرديّة) بحيث أنّ أغلب الأفراد مرّوا في طفولتهم بتجارب “تروما” (جرح لم يشفَ)، وترافقهم دون أن يعوا ذلك[1]. وتكمن أصالة فكره، كونه نشأ طفلاً رضيعاً نجا من الإبادة الجماعيّة النازية، فكانت محاولته الدائمة للإجابة على سؤال: “كيف يمكن للعالم أن يسمح بحدوث مثل هذه الفظائع؟” يقول في أحدمقالاته تعليقاً على أحداث غزّة 2014 وكأنها اليوم: “سواء في فيتنام أو رواندا أو سوريا، تقف الإنسانية متفرجة إما بشكل متواطئ أو بغير وعي أو عاجزة، كما تفعل دائما. وفي غزة نجد اليوم طرقاً لتبرير قصف المستشفيات، وإبادة العائلات أثناء تناول العشاء، وقتل أطفال في سنّ ما قبل المراهقة وهم يلعبون كرة القدم على الشاطئ”.
ويردف ماتيه أن “الحزب القوي في إسرائيل نجح في تصوير نفسه على أنّه الضحية، في حين أصبح من قُتلوا وشوهوا هم الجناة”. ثمّ ينقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوله عن الضحايا “إنهم لا يهتمون بالحياة”، ويضيف أن ذلك يتّم “بتحريض من أوبامات (جمع أوباما) وهاربرات (جمع هاربر) هذا العالم”. ثم يخاطب نتنياهو قائلا أن الأخير وبدقّة جراحيّة يذبح الأبرياء، صغارًا وكبارًا، بعد محاصرة غزة بقسوة لسنوات وحرمانها الضروريات، كما و”حرمان الفلسطينيين المزيد فالمزيد من أراضيهم، ومياههم، ومحاصيلهم، وأشجارهم”. ليسأله في نوع من السخرية “أنت تهتم بالحياة؟” ومؤخراً، جرى تداول مقطعمنمقابلة له كان أجراها مع الكوميدي الشهير راسيل براند، لاقت رواجاً على وسائل التواصل الإجتماعي. ومن تعليقات ماتي المكررة أن أطفال فلسطين لا يعانون من حالة ما-بعد-التروما PTSD (Post-traumatic stress disorder)، لأنّ التروما (كأحداث) يوميّة ومستمرة بالنسبة لهم ولم تتوقف قط.
وفي العام الماضي، نقلت على “يوتيوب” ندوة مشتركة بين ماتي والمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابي، حيث قارن ماتي بين مجازر الإبادة والعنصرية والعنف الذي مورس ضد السكان الأصليين في كندا وأشكال الصمود والمقاومة التي اعتمدها هؤلاء، وما تشهده فلسطين وما يمكن تعلّمه بهذا الصدد. مثلاً ماذا نتعلم من حالة الإنكار التي يعيشها السكان البيض وجهلهم لحجم الفظائع المرتكبة أو لا مبالاة كثير منهم وكأنّ الذين يقتلون ويعنفون ليسوا بشراً؟ وإذ يعطي ماتي معطيات إحصائيّة بشأن هذا الإنكار، فإنه يوضح أنّه إذا كان الناس مبرمجين نفسياً على حالة الإنكار على مستوى جماعي، فهذا يدعم أيضاً الإنكار للوقائع التاريخيّة. يضيف ما حرفيّته “إذا ما سألت المواطن الكندي أو البريطاني أو الإسرائيلي العادي أن يصيغ من ثلاث عبارات جملة واحدة مفيدة حول تاريخ فلسطين فلن يتمكن من ذلك”. ويردف “إذا ما سألت المواطن البريطاني العادي، الذي شاركت دولته في غزو العراق والتي قتل جرّاءها نحو نصف مليون بشري، أن يصيغ ثلاث عبارات مفيدة حول تاريخ العراق أو أفغانستان… فلن يتمكن من ذلك، بسبب “السلبية المتأصّلة” (ingrained passivity) في “كاريكاتيره المجتمعي”. ويوضح أن هذا التصميم النفسي هو الذي تقوم عليه المجتمعات المعتدية. ولكنه يتحدّث في المقابل كيف كان يتعلّم ويفاجأ بأشكال الصمود (resilience) الممارس من قبل الكنديين الأصليين وكذلك من قبل الفلسطينيين.
كاتب العمود في صحيفة هآرتسجدعون ليفي يسخر من الصهيونية
وإذا ما أردنا البحث عن شخص يهودي آخر أكثر بلاغةً في التعبير عن قضايا غزّة وفلسطين من المفكرين العرب أنفسهم، فإن الصحافي الإسرائيلي جدعان ليفي أوّل من يتبادر إلى ذهننا، بخاصة وأن الصحافة العربية على مختلف محاورها السياسيّة تستشهد دائماً بمقالاته في صحيفة “هآرتس”. وهو يعدّ بالتالي مصدر غنى للتقارير الصحافيّة العربيّة حول الداخل الإسرائيلي. ويمكن الإشارة إلى ندوة له، تمحورتْ حول مدى تحكّم الأيديولوجيا الصهيونية في أذهان ووعي الإسرائيليين والمستوي المتدني جداً (حسب تعبيره) الذي وصلت إليه البروباغندا الصهيونية. وقد جرى مؤخراً ترجمة بعض مقاطع الندوة ليتمّ تداولها على نحو واسع على وسائل التواصل الإجتماعي.
يصف ليفي إسرائيل بأنّها دولة مدمنة على الاحتلال. يقول “الأمل في تغيير من داخل المجتمع الإسرائيلي محدود جداً، غير موجود”. ثم ينتقد اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. يقول: “لا يوجد عدو للعدالة والسلام والمساواة أكثر من أولئك الذين يظنون أنك إذا ما زوّدت المدمن بمزيد من المخدّرات فأنت صديقه!”. ويردف “لا هؤلاء ليسوا أصدقاء بل أعداء”. ثم يصف الصهيونية بإحدى الديانتين التي تعتنقها الدولة، والديانة الأخرى هي تأمين الأمن. “وكأيّ ديانة لا تقبل الشك، ومن لديه أي أسئلة حول كلا العقيدتين يوصم بالخيانة”. وتابع، أنه لا يسمح بأدنى تشكيك بأخلاقية الجيش الإسرائيلي، أن “تقول ربما أنه ثاني جيش أخلاقيّةً في العالم!” (يسخر).
ويشير كيف تحوّلت الإيديولوجيا هذه جزءاً من ال DNA، بحيث أنه ومن خلال نشأته وتجربته الشخصيّة، شهد كيف تتمّ شيطنة القلّة القليلة التي لا تقر بالصهيونية، أو “لا سمح الله”، تقول أنها مناهضة للصهيونية. وهنا تبرز خلاصة كلام ليفي “ليس بإمكاني تذكّر أي مثل لأيديولوجيا ما في العالم، توتاليتاريّة لدرجة، (مقدّسة ومكرّسة) لدرجة لا يمكنك بتاتاً طرح أي شك أو تساؤل بشأنها، لا حول الماضي ولا حول المستقبل ولا حول الحاضر، لا شيء، بتاتاً”. ويتابع أنه حين تتعلّق الأمور بالاحتلال، لا يوجد في اسرائيل يسار ويمين والفارق فقط في استخدام العبارات (الندوةكاملة).
ومن المفيد الإشارة إلى ندوة أخرى مشتركة بين ليفي وبابي، تطرح فهماً عميقاً للاحتلال الإسرائيلي. يشير فيها ليفي مثلاً، كيف أنّ اسرائيل هي الدّولة الوحيدة في العالم التي تقوم على ثلاثة أنظمة: “في المقدمّة تجد نظاما (نصف ديمقراطي ليبرالي) تشوبه اليوم المزيد من الشقوق وهو في خطر حقيقي ولكنه لا زال يشتغل على ما يكفي من الديمقراطية والليبرالية -يسخر- كأن يعطيني الحق في التعبير وإن اضطررت لفترة من الزمن إلى الاستعانة بحارس شخصي!”. ويتابع ساخراً “الثاني هو نظام فصل عنصري تجاه الإسرائيليين الفلسطينيين -أي عرب 1948- الذين يعيشون داخل حدود 1967، والذين يتمتعون بكافة حقوقهم المدنية” (في الظاهر)، ثم يقول أن هؤلاء يجري التمييز العنصري تجاههم في أي مجال وحقل ممكن وعلى نحو ممنهج. لكن هذا النظام ليس الأسوأ برأيه، إنما النظام الثالث، والذي “يبدو كنظام فصل عنصري، ويعمل كنظام فصل عنصري وهو فعلاً نظام عنصري”. حيث يتشارك شعبان نفس قطع الأرض و”ينال أحد الطرفين كافة الحقوق الموجودة في العالم، ويحرم الثاني من أيّ حق بالمطلق”. ويتابع أنه لا يمكنه تخيّل كيف أن بعض الناس تناقش حتى إذا ما كان نظام فصل عنصري أم لا…
مؤرّخ الهولوكوست ومجازر الإبادة راز سيغال: ما يجري في غزّة “إبادة جماعية”
في مقابلة له على “democracy now”، يقول المؤرخ الإسرائيلي والباحث في مجال الإبادة الجماعية، راز سيغال، إن لغة القادة الإسرائيليين اللاإنسانية تجاه الفلسطينيين في غزة وسلوك الجيش الإسرائيلي مدعاة للقلق. ويشرح أن اتّفاقية جنيف حول المعاقبة على جريمة الإبادة الجماعية (1948) كانت تتطلب وجود “نوايا خاصّة” لنكون أمام فعل إبادة، نوايا تدميريّة، مثلاً على أساس عنصري أو عرقي الخ.. يضيف أن هذه النوايا هي ما نسمعه اليوم صراحةً على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، ويعطي عدداً كبيراً من الأمثلة حول التصريحات والاعتداءات ويخلص “إنها بالفعل مثال حي (textbook case) للإبادة الجماعية”. كما يصف حصار غزة أنه الأطول في التاريخ. يتابع سيغال أنه تاريخياً أي معتدٍ مرتكب إبادة يصوّر الضحيّة على أنها خطر كبير، وأنه هذا الذي فعلته النازيّة مع اليهود، والأمر نفسه تفعله إسرائيل اليوم مع الفلسطينيين، من خلال استخدام المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين تعابير “محاربة الشر” و”محاربة النازية” و”محاربة داعش”. ويردف أن “دروس المحرقة لم يكن المقصود منها أبدًا توفير الغطاء وتبرير عنف الدولة والإبادة الجماعية، بل حماية المجموعات، وخاصة الجماعات المحرومة من الدولة (stateless) التي لا حول لها ولا قوة، والخاضعة للاحتلال العسكري والحصار من الدول العنيفة”.
وكان كتب سيغال مقالاً حول هذا الأمر، استهجن فيه كيف أن لا أحد يستمع إلى أن ما يجري في غزة هي إبادة جماعية. ووفق تعبيره هو “فصل آخر من النكبة، التي طرد فيها ما يقدّر بنحو 750 ألف فلسطيني من منازلهم خلال حرب عام 1948 التي أدّت إلى إنشاء دولة إسرائيل”. كما كتب سيغال مقالاً في الغارديان شرح فيه كيف أنّ “التسلّح بالهولوكوست” (weaponizing the holocaust) قد قلب الوقائع رأساً على عقب في الغرب، فلم يعد الأمر أن دولة هي من الأقوى في العالم ومع أقوى الحلفاء تحارب شعباً منزوع الدولة، شعباً رازحاً تحت الاحتلال المسلّح والحصار ووفقاً لقواعد المستعمر، بل أصبح الأمر كما لو أن النازية (وهو التعبير الذي استخدمه نتنياهو) تحارب اليهود. ويعطي أمثلة حول استخدام إسرائيل التعابير نفسها في سياقات أخرى مثلاً خلال حربها على لبنان عام 1982. وينتهي بالقول أن المزيد والمزيد من الباحثين الذين يدرسون موضوعا “الهولوكوست” ومجازر الإبادة يعبرون عن رفضهم لهذا الاستخدام الأداتي الخطر ل”الهولوكوست” تشويهاً للتاريخ وتبريراً لجرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين.
منظور شاملللعنصرية داخل إسرائيل يقدمه المؤرخ السفاردي جدعون جلعادي
يُشير ما سبق إلى حاضر المجتمع الإسرائيلي. أمّا تاريخ ولادة إسرائيل فلا يشبه تاريخ أي دولة. فأغلب الدول كانت مجتمعات نشأ فيها مؤسسات حربيّة وسياسيّة وإقتصاديّة بينما أخذت نشأة إسرائيل مساراً عكسياً. يشرح المؤرّخ “الإسرائيلي” جدعون جلعادي (وهو سفاردي إسرائيلي) في كتابه ” Discord in Zion ” (1990) كيف ساعد الاستعمار البريطاني الصهيونيّة العالميّة بالسيطرة على اليهود المحليين وتوطيد أسس حكم ذاتي للأشكناز (الغربيين) في أرض عربيّة. ويعدد جلعادي مؤسسات الحكم الذاتي التي وجدت قبل وجود المجتمع الذي نعرفه اليوم وهي سبعة: 1. المنظمة الصهيونية العالمية. (في عام 1929، تأسست الوكالة اليهودية لتمثيل الصهيونية العالمية في فلسطين وتشكل ذراعها التنفيذي بموجب المادة الرابعة من الانتداب) 2 . المجلس الوطني (يشبه مجلس الوزراء) 3. الصندوق القومي اليهودي (كان الغرض منه هو شراء الأراضي العربية واستيطان الصهاينة عليها، بشرط ألا يتم بيع الأراضي أو تشغيلها من قبل غير اليهود. 4. مجلس النواب 5. صندوق المؤسسة (الذي يمول ويجهز المستوطنات بالآلات الزراعية والماشية وغيرها) 6. الهاغانا (الجيش السري الذي تديره الوكالة اليهودية. وقد تظاهر البريطانيون بأنهم لا يعرفون شيئًا عن هذا الجيش. كما أنشأت الهاغانا شاي، أي جهاز المخابرات، الذي أصبح بعد تأسيس الدولة جهاز المخابرات المحلية شين بيت 1 والموساد) 7- الهستدروت (النقابة العامة) ومكوناتها. المنظمات الاستيطانية (الكيبوتسات والقرى) والتسويق والمنظمات المصرفية، وصندوق المرضى والمدارس والمصانع الاشتراكية وما إلى ذلك. (وتعد الهستدروت إمبراطورية مع أهم مراكزها الاقتصادية في أيدي الصهاينة الأشكناز، تحت مسمّى الاشتراكية نظراً لقيامها على نقابات وتعاونيات).
لكن هذه المؤسسات وحدها لا تصنع دولة في ظل غلبة عدد السكان المحليين، فكيف تم تأمين ما يكفي من السكان للدولة الجديدة؟ الجواب من خلال بروباغندا الهجرة إلى أرض الميعاد.
يفصّل الكاتب تاريخ الهجرات اليهودية إلى فلسطين سواء لأسباب دينية (بروباغندا أرض الميعاد)، أو لأسباب أمنية (عمليات أمنية قامت بها البريطانيون أنفسهم ضد اليهود في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لإشعال الفتن الدينية)، أو لأسباب اقتصادية (مثل يهود اليمن ويهود أفريقيا الذين أتوا في ظروف صعبة موعودين برغد العيش، فكانت ظروفهم أشبه بالعبودية وكانت المستعمرات تحتاجهم للعمل الزراعي، بناء على النظريّة الاقتصادية الكلاسيكية التي تقول أن الزراعة أساس نشوء الدولة القوميّة). ويوضح جلعادي أن أولى الجماعات الصهيونية من الأشكناز أتت من روسيا إلى فلسطين عام 1882، وأطلقوا على أنفسهم تسمية the first Aliya. ويعود أصلها لحركة hovevei Tsion وهي الحركة الصهيونية الأولى، المحرك الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أول نشاطاتها في فلسطين هو بناء وحدة طائفية معزولة إسمها البنيان الجديد hayishuv hedadash، للدلالة على التفوق العرقي النوعي على السكان اليهود المحليين الذين أطلق عليهم تسمية البنيان القديم. (عام 1904، وصلت موجات جديدة من اليهود second Aliya وتتالت بعدها عمليات الترانسفير لليهود إلى فلسطين). وبعد الحرب العالمية الثانية، قرّرت الصهيونية استقدام مزيد من السفاردي إلى فلسطين مُستخدمين كلّ وسائل الترهيب والخداع والابتزاز إذ لم يكن لدى يهود الاتّحاد السوفياتي وأميركا وبريطانيا نيّة بالهجرة. وقد تمكّنت بين عامي 1948 و1975 من جلب نحو 819000 أشكنازي، لكن ذلك لم يكن كافياً خاصة وأن أغلب هؤلاء لا يعملون أعمالاً يدوية. فقرروا الإتيان بيد عاملة رخيصة من السفاردي، ووصل عدد السفاردي الوافدين إلى 751000 أي حوالي 48% من مجموع الوافدين. بالتالي تراجعت نسبة اليهود الفلسطينيين من 70% إلى 11% من مجمل اليهود بعد هذه الفترة.
دولة ديمقراطيّة؟!
كما يشرح جلعادي في كتابه النظام الانتخابي الحزبي القائم في الكيان الناشئ، حيث يجري الانتخاب وفق لوائح أحزاب لا أفراد، ليقوم بعد ذلك كل حزب منتخب بتعيين ممثليه، وفي ذلك الوقت لم يكن من أحزاب سوى تلك التي أسسها الأشكناز وهي ذاتها التي استمرّت اليوم. وعليه، أقصي السفاردي عن الحكم. ويروي جلعادي واقعة مقاطعة السفاردي لانتخابات عام 1945. لكن كل الأجهزة المذكورة، إضافة إلى استخدام البروباغندا والإعلام كانت بيد الأشكناز، الأمر الذي أجهض محاولات السفاردي في الدفاع عن جماعاتهم أو في الوصول إلى السلطة، وتم اتهامهم بالخيانة والانتهازية والطائفية وضغطوا على البعض من خلال افتقادهم لوظائفهم. ويضيف أنه رغم هجرات الأشكناز الكثيفة، بقي السفاردي يمثلون ثلث السكان. ويروي كذلك كيف أنه في إحدى الانتخابات البلدية -تتم أيضاً وفقاً للوائح الأحزاب- وبعد مقاطعة الإنتخابات من قبل السفاردي واحتجاجات عدة تم التوصل إلى تسوية وعدّل قانون الإنتخابات حيث بقي الانتخاب على أساس اللوائح لكنه أصبح مداورة بين الاشكناز والسفاردي. فاستطاع السفاردي أن يخرقوا ب19 مقعداً من أصل 30، ما أدّى إلى حالة ذعر لدى الصهيونية، وقرّرت الحكومة على الإثر إلغاء الانتخابات وإلغاء مبدأ المداورة. وجرى العمل لاحقاً على تشتيت وحدة السفاردي. ثم في عام 1948 تم إلغاء البلديات وتم تعيين ديفيد بن غوريون حاكما عسكريا على القدس. كما يشرح الكاتب التفاوت في الدعم المادي بين منظمات الأشكناز ومنظمات السفاردي، حتى أن أحزاب السلطة كانت تتلقى مساعدات مالية من الحكومة. ويتحدث كيف كانت تمنع مؤتمرات أو يمنع السفاردي من تشكيل أحزاب ومنظمات، حيث وصل عدد منظمات الأشكناز إلى 164 منظمة بمقابل 12 منظمة للسفاردي فقط. كما يعطي جلعادي وقائع حول إقصاء السفاردي عن الوزارات، أو إعطائهم عددا قليلا منها لإعطاء انطباع بوجود ديمقراطية أحياناً. ومثلاُ عام 1954 كان للسفاردي وزير واحد من أصل 16، و11 عضو في البرلمان من أصل 120 بسبب هذا النظام الانتخابي. وتفسّر كل الوقائع التي ذكرها الكاتب التصاعد المطرّد لليمين المتطرف في إسرائيل اليوم.
أمور كثيرة أخرى يشرحها الكاتب في كتابه حول البروباغندا الصهيونية التي ساقت سرديّة حول أنّ العرب تاريخياً اضطهدوا اليهود، ليقدّم إزاءها شرحاً مسهباً عن حالة الانسجام التاريخي بين اليهود والخلافات الإسلاميّة ما عدا حالات قليلة نسبياً في التاريخ وتتعلّق بقبائل يهوديّة بعينها، جرى تضخيمها في البروباغندا الصهيونية. ويتحدّث الكاتب أيضاً حول عكس عملية التعليم de-education عموماً أو القمع الثقافي الذي مارسته الصهيونية على اليهود الفلسطينيين أو اليهود العرب، مشيراً إلى علاقة التعليم بالفصل العنصري والتمييز العنصري الهرمي تبعاً للقومية السابقة لهؤلاء قبل اندماجهم تحت قومية إسرائيلية. ويعطي جلعادي العديد من الأمثلة حول المقاومة السفاردية للنظام والتضامن مع الفلسطينيين وصولاً إلى أعمال عنف ومنها العنف المسلّح. وقد استلهمت معظم المنظمات اليهودية المسلّحة المناصرة للفلسطينيين أفكارها من حركة “بلاك بانثر” الراديكالية في الولايات المتحدة. وبعد القمع الشديد لهذه الحراكات المقاومة، حلّ مكانها حراكات داعية للسلام. لكن حتى الحراكات الفكرية والنقاشات بين السفارديم والفلسطينيين حول السلام منعت. بخاصة بعدما أقر الكنيست في 6 آب 1986 قانوناً يمنع مثل هذه الاتصالات سمي بقانون مكافحة الإرهاب.
مؤخراً لحظنا أن الفكر المناهض للصهيونية لدى الطلاب الإسرائيليين لم يُمحَ تماماً، على الرغم من التعتيم الكامل للمؤسسات التربوية الإسرائيلية لتاريخ اليهود العرب، والقمع الفكري و”عبْرنة” و”صهْينة” التعليم. فلم تتمكن البروباغندا من تصفية فكرة “اليهودي المناهض للصهيونية” تماماً. نقع على سبيل المثال على شهادة على وسائل التواصل الاجتماعي لأحد الطلّاب الإسرائيليين يتحدّثعلى مدى هزل وانحطاط البروباغندا الصهيونية التي يتلقّونها في المدرسة، مستهزئاً بطريقة التعليم التي تستخفّ بذكاء الطلاب. ونستدلّ أنها ليست حالة فرديّة، إذ نقع مثلاً على مقالفي صحيفة جيروزاليم بوست، حول تكرّر ظاهرة هذا النوع من الطلاب الرافض لبروباغندا الدمج بين اليهودية والصهيونية.
الأستاذ الجامعي والمؤرّخ الدبلوماسي أفي شلايم يتحدّث عن معضلة اليهودي العربي الإسرائيلي
أثناء بحثنا عن مؤرخين إسرائيليين آخرين، وقعنا على مقابلة مع أفي شلايم وهو عراقي حتّى سن الخامسة من عمره. يسعى في أعماله إلى تفسير الأزمة الوجوديّة التي عاشها العراقيون اليهود (والعرب اليهود عموماً)، فيقدّم بذلك معطيات أكثر تفصيلاً من جلعادي من حيث الشهادات والوثائق التي تمكّن من جمعها. وكان بدأ مشروع شلايم البحثي من فكرة تدوين سيرته الذاتية، بخاصة وأنّه عاصر أحداثا مهمّة في العراق أواخر أربعينيّات القرن الماضي. وعاصر إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، وعاصر الصراعات العربيّة العربيّة إثر نكبة 1948. وقد استوحى شلايم من عمل المؤرخة الإسرائيلية أوريت باشكين حول يهود العراق وكتابها بعنوان “البابليون الجدد”. وكانت فكرته هي مواءمة قصّته الخاصة مع ما تعلمّه حول تاريخ العراقيين اليهود من الكاتبة.
يقول شلايم في إحدى المقابلات، “يسهل تعريف هويّة العربي اليهودي، هو يهودي عاش في دولة عربية، لذا أنا عربي يهودي لأنّي عشت في العرق حتى الخامسة من عمري. لكن الإسرائيلي الذي عاش أهله في العراق، أي العراقي الذي ولد في إسرائيل، سيكون والداه يهودا عربا ولكنه لن يكون كذلك”. ويأسف على تضاءل عدد العرب اليهود اليوم، لكن، يضيف، “مفهوم العربي اليهودي تثار نزاعات عليه (very contentious). الإسرائيليون لا يحبون هذا المفهوم”، ويشرح أنه عوضاً عن ذلك كل شيء يقوم على ثنائيات (binary) عربي/إسرائيلي، مسلم/يهودي، عربي/عبري الخ.. ويضيف “لكن يعود لي شخصياً أن أحدّد هويتي لا للآخرين!”. ويسرد أنه ولد في بغداد عام 1945، “أنا من عائلة عربية يهودية، تتحدث العربية في المنزل، وثقافتها عربية، وأصدقاؤها عرب، ولم يكن من مشكلة أن تكون يهودياً في العراق”. ويسهب في شرح كيف أن العراق لم تكن لديها إشكالية تتعلّق باليهود، إنما أوروبا كانت لديها هذه الإشكاليّة.
من الأمور المهمة التي يسلط شلايم الضوء عليها، هي أن يهود العراق كانوا يتوزّعون على طبقات اقتصاديّة مختلفة، وأنّ الانتماء الوطني في العراق كان يسبق الانتماء الديني. وكان اليهود عنصرا حيويا وإيجابيا من عناصر بناء الدولة العراقية، وساهموا في ذلك على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية. لكن كانت نقطة التحوّل بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، والأحداث التي أدّت إلى هجرة اليهود إلى الدولة الناشئة. وتكمن أهميّة عمل شلايم في تفاصيل أكثر لمسببات هذه الهجرة، من خلال مقابلات أجراها مع أعضاء من جماعات صهيونيّة متطرّفة كان لها الدور الأكبر في نشر البروباغندا الصهيونية وافتعال أحداث أمنيّة وسلسلة تفجيرات والتحريض على اعتداءات ضد اليهود. وكلّ ذلك بات موثقاً بشهادات لصهاينة أقروا بمشاركتهم بهذه الأعمال. (المقابلةكاملة)
ومن الأعمال الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، فيلم وثائقي بعنوان “1948: الإنشاء والكارثة”، ويقوم الفيلم على مقابلات مع مجموعة مؤرخين إسرائيليين (من بينهم شلايم) لكن أيضاً على شهادات من مواطنين فلسطينيين من ضحايا النكبة، وكذلك شهادات لإسرائيليين وصهاينة تتضمن إقراراً بالمجازر والممارسات الوحشيّة التي ارتكبها الصهاينة في تلك الفترة.
إيلان بابي يقدّم النصح حول القضيّة الفلسطينيّة
إيلان بابي هو أحد أبرز المؤرخين في التيار المناهض للصهيونية، وهو يتولّى منصب مدير للمركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة “إكزتر” (Exeter) في المملكة المتحدة، ومساعد مدير مركز “إكسزر” للدراسات العرقية والسياسية. وقد أجرى مؤخراً مقابلةمع المؤرّخ أسامة مقدسي في الجامعة ذاتها، قارب فيها مسألة الحرب الدائرة على قطاع غزّة، ووجّه خلالها مجموعة نصائح للناشطين عموماً في الغرب في مناهضة الصهيونية. يقول “علينا ألّا نتخلّى أبداً عن تصميمنا على تقديم تعريف دقيق للصهيونية، هذا أمر في منتهى الأهميّة”، وتابع أنه لا يجب أن نسمح بأيّ نقاش حول فلسطين- إسرائيل دون الكلام حول الصهيونية. وعليه لا يستغرب بابي الجهد الذي تبذله إسرائيل والدول الحليفة الكبرى في المعادلة بين مناهضة الصهيونية ومناهضة الساميّة، بحيث أنّ مجرد ذكر الصهيونية يعرّض الشخص لوصمه أنّه مناهض للسامية ويتم العمل على إسكاته. لكنه يقول أنه ليس المكان الوحيد للبدء برواية القصّة.
يقول بابي أن “القصّة تبدأ من أيديولوجيا عنصريّة، تنتمي إلى جينيولوجيا العنصريّة في جوهرها، لا لتاريخ الحركات التحرريّة كما يتمّ تعليمها في معظم الجامعات الأميركيّة، ولا لتاريخ الحركات القوميّة كما يتمّ تعليمها في معظم جامعات دول الشمال، أو كما يغطيها ويرويها الإعلام الغربي، بل تنتمي للعنصريّة لا في أصلها إنما بالطريقة التي تمظهرت فيها على أرض فلسطين”. ويردف أنّ هذه العنصريّة هي جزء مكوّن لحركة الاستيطان/ الاستعمار الصهيوني”. ويوضح أنها ليس استثناء تاريخياً كحركة. فقد شهدتها قارة أميركا تاريخياً، مع حركات الاستعمار الأوروبيّة، و”هي اللحظة التي جرى فيها تنشيط منطق إبادة الجماعات المحليّة”. وهذا ينطبق على الفلسطينيين، حيث تمّ استحضار منطق ال DNA الصهيوني في مواجهة ال DNA الفلسطيني منذ نشأة الحركة أواخر القرن التاسع عشر. بالتالي، كان الهاجس الديمغرافي حاضراً دائماً إلى جانب الهاجس الجغرافي، ومنذ البداية.
ويستطرد بابي، أنه لا يمكن عزل ما يجري في غزّة اليوم عن سياسة إسرائيل الإلغائيّة للسكان المحليين (elimination policies). وهنا يعطي ملاحظة حول أن عدد من “الكيبوتز” التي شنّ عليها هجومٌ في السابع من تشرين الأوّل، أنشئت في الأساس عام 1958 على أنقاض بيوت وقرى السكّان الأصليين. كما أنّ عدداً من المهاجمين هم من الجيل الثالث لسكّان القرى المدمّرة في هذه المنطقة. ويخلص بابي إلى أن هذا جزء من القصّة، وأنه لا يجب أن نعالج عوارض المشكلة، بل مصدرها، ومصدرها الأساسي هي تلك الأيديولوجيا الصهيونيّة، والتي تحمل في جوهرها فكرة إبادة السكان المحليين.
تشومسكي يتحدّث عن الحريّة الأكاديميّة وعن تغيّر في الرأي العام في الولايات المتحدة
ولا يتسع المجال هنا لتقديم واف لكافة أعمال بابي، أو آخرين من المناضلين ضد االصهيونيّة. ويوجد بلا شك مناضلون أكثر شهرة في دفاعهم عن القضيّة الفلسطينية، مثل المفكر اللغوي والمؤرّخ السياسي الشهير نعوم تشومسكي، أحد أكبر الداعمين للقضيّة الفلسطينية، ليس فقط لناحية التفنيد الإمبريقي والتحليل الدقيق للتاريخ السياسي للصهيونية إنما كمشروع فكري نضالي متكامل. ونكتفي بالإشارة إلى مقابلةمنذ عامين جمعت بابي وتشومسكي، تحدّث خلاله الأخير حول التضييق على الأكاديميين منذ عام 1967، وكيفيّة استغلال مصطلح معاداة الساميّة للقمع الفكري، وذلك إثر نشر مقال لوزير الخارجية الإسرائيلي “أبا إبن” عام 1972 يرشد فيها اليهود الأميركيين حول مسؤولياتهم، وهي في أن يظهروا أنّه لا يوجد فارق بين مناهضة السامية ومناهضة الصهيونية، وأعطى أمثلة عن “اليهود الكارهين لذواتهم” وكان تشومسكي أحدهم وفق المقال، وتعمم الأمر منذ ذلك الوقت. ويردف: “تغيّر الأمر بعض الشيء، وبات يسمح بنشر بعض الكتابات، وكلما كانت تزداد حدّة الاعتداءات الإسرائيلية كلما كان الرأي العام لدى اليمين الليبرالي (الحزب الديمقراطي) يميل أكثر لدعم الحقوق الفلسطينية. ويقول أنه “لم يكن الأمر سابقاً مجرّد حظر لكتاباتي بل كان عليّ أيضاً أن أكون تحت حماية الشرطة إذا ما أردت التكلّم حول الموضوع وإن داخل جامعتي وهذا كلّه تغيّر”.
كما لا بدّ من الإشارة إلى أحد أشهر تلاميذ تشومسكي، نورمان فنكلشتاين والذي كتب بدوره حول الحريات الأكاديمية. وهو نفسه كان طُرد من الأوساط الأكاديمية لأنه كشف سلسلة من عمليات الاحتيال والخداع في أعمال أكاديميّة متعلقة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وله مجموعة كتب حول غزة وفلسطين و”صناعة الهولوكوست”، علماً أنه بدأ نضاله في الدفاع عن القضيّة الفلسطينية بناء على تجربة والديه الناجينمن المحرقة النازيّة. ومؤخراً كان له حصّة كبيرة من تداول مقاطع من مقابلاته وندواته على وسائل التواصل الإجتماعي.
تصاعد الحراك اليهودي المناهض للصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة
وبعيداً عن العمل الفكري والثقافي، برز مؤخراً عمل الجمعيات والناشطين الحقوقيين اليهود المناهضين للصهيونية. ما بدا استمراراً للحراك الذي قاموا به إثر عدوان 2014 على غزة، لكن بزخم أكبر هذه المرّة. فقامت إحدى التظاهرات اليهوديّة في نيويورك تحت شعار “ليسباسمنا“، عبّر فيها المتظاهرون عن أنهم ضدّ “تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم”. تظاهرة أخرى قام بها يهود يساريون في واشنطن في 16 تشرين الأوّل، حيث عمد 1500 إلى 2000 من الناشطين الحلفاء مع If Not Now ومنظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” بقطعالممراتإلى البيت الأبيض، وقامت الشرطة باعتقال 50 ناشطاً، وألحقت بمظاهرة أخرى في 18 تشرين الأوّل (اليوم نفسه الذي قام فيه رئيس الولايات المتحدة جوزيف بايدن بزيارة إسرائيل) حيث جلسالمتظاهرونداخل قاعة “الكابيتول هيل” في “الكونغرس” وأنشدوا الأغاني المطالبة بوقف التطهير العرقي وتحرير فلسطين، واعتقل نحو 500 منهم. وقامت مظاهرات في عدد من الجامعات الأميركيةـ، بينها تظاهرة حاشدة بدعوة من طلاب هارفرد، والتي قامت رغم تعرضهم للضغط من مؤيدي الصهيونية داخل الجامعة لوقف تحركاتهم. كما عبّر طلابيهود في جامعة ميشيغان من خلال مقال عن رفضهم التطهير العرقي الذي يتعرّض له أهل غزّة.
وتحت شعار “ليس باسمي”، شارك اليهود الأوروبيونبالتظاهرات الضخمة التي قامت في مدن أوروبيّة عدّة من غلاسكو (اسكوتلندا) إلى لندن، إلى برشلونة الخ.. لإدانة حرب إسرائيل على غزة، أمّا يهود ألمانيا فكانوا الحلقة الأضعف في الحراك اليهودي: فقد تعرضت التظاهرات للحظر وتعرّض الداعمون لفلسطين للعنف والاضطهاد من السلطات الألمانية. وعموماً كان لليهود المشاركين في هذا الحراك نصيبهم من الاضطهاد، هذا ما يوثّقه مقال على موقع newarab، مشيراً إلى أن الاعتداءات على هؤلاء بدأت حتّى قبل العدوان على غزّة. عليه، قام أكثر من 100 مثقفيهوديألمانيبانتقاد الحظر المستمر على المظاهرات المؤيدة لفلسطين في العديد من المدن الألمانية، بما في ذلك برلين. ويوجد ما يكفي من التقارير التي تشير إلى تعرّض اليهود المتضامنون في أوروبا وأميركا إلى القمع والاضطهاد بأشكال متنوّعة، من طردمن العمل إلى التنمّروالتهديد، الخ..
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال موجة التضامن، ظهرت منظمات جديدة مناهضة للصهيونية مثل منظمة“يهود ضد استعلاء البيض” JEWS AGAINST WHITE SUPREMACY. ومارس عدد من المواقع الإعلامية دوره المعتاد، مثل موقع “Mondoweiss” والذي يعرّف نفسه كموقع إخباري وتحليلي مستقل مخصص لإطلاع القراء على التطورات في إسرائيل/فلسطين، نما داخل المجتمع اليهودي التقدمي وأصبح موردا مهماً للحركة من أجل العدالة للفلسطينيين. وقد ساهم الموقع في العديد من التقارير والتحقيقات المفنّدة والناقضة للبروباغندا الصهيونيّة، أبرزها على سبيل المثال مقاليشير إلى تقارير مختلفة تثبّت تورّط إسرائيل في العدد الكبير من القتلى المدنيين أثناء العملية على “الكيبوتز” (المستعمرات) في 7 تشرين الأوّل. واستخدم ناشطون آخرون الأفلام الوثائقية لتظهير واقع المجتمع الفلسطيني تحت الإحتلال، ولعلّ فيلم “خارطةالطريقللفصلالعنصري” (تأليف مشترك بين المخرجة آنا نوغيرا وهي جنوب أفريقية بيضاء والمخرج إيرون ديفيدسون وهو يهودي إسرائيلي يعيش في الولايات المتحدة)، أحد أفضل الأفلام الذي يصوّر هذا الواقع، عبر تفنيده التشابهات الملفتة بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإسرائيل.
ناشطون آخرون عبّروا عن مواقفهم من خلال مقالات في عدد من الصحف. منها مثلاً مقالنشرته “الغارديان” في 18 تشرين الأوّل للناشطتين اليهوديتين آلين بروتسكي وأرييل كورين وهما تعرّفان نفسيهما بأنّهما مناهضتان للحركة الصهيونيّة. واستهجن المقال تجاهل السياسيين الأميركيين ل”المذبحة” في غزة واصفاً ما يجري على أنه “مجزرة إبادة مكشوفة” (unfolding genocide). وتجدر الإشارة إلى أنه يمكننا أن نجد العديد من آراء ليهود متضامنين مع غزة نشرت في صحفإلكترونية أقل شهرة. كما أن عددا من الناشطين الاسرائيليين ضد الإحتلال قدّموا شهادتهمإلى “لجنةالتحقيقالدولية المستقلّة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة”، حول انتهاكات الإسرائيليين لحقوق الإنسان وحول مدى صعوبة “فتح أعين الناس” على واقع الاحتلال داخل المجتمع الإسرائيلي، والقمع الثقافي الممارس في النظام التربوي.
مؤخراً، عقب قطع الإتصالات عن غزة وإمطارها بالقنابل في 27 تشرين الأوّل، قامت تظاهرة جديدة من تنظيم المجموعات اليهوديّة المناهضة للصهيونية في محطة غراند سنترال في نيويورك، حيث جلس آلاف المتظاهرين في قاعة المحطة، وقد حوّل هؤلاء شعارات “حرروا فلسطين” و”أوقفوا إطلاق النار الآن” إلى تراتيل، فكانت القاعة تضج بأصواتهم، وجرىاعتقال 400 منهم، كما رفع البعض الشعار الشهير لليهود “لن تحصل مجددا” (never again)، لكن مع إضافة تعبير “لأي أحد” (For anyone).
ماتي يعبّر عن غضبه مجدداً بعد إمطار غزّة بالقصف
مؤخراً، أيضاً في 27 تشرين الأوّل، قال ماتي حول قصف غزّة أنه “أسوأ شيء رأيته قط طوال حياتي”. وأردف في مقابلة أنّ المقارنة لا تجوز فيما يتعلّق بمجازر الإبادة الأخرى[2]. لكن المختلف أن “المجازر التي تحصل اليوم علانيّةً وتعرض على التلفاز، ويتمّ تقديم الضحيّة على أنها الجلّاد!”. وتابع أنها “مشهديّة إمّا مدعومة أو مسكوت عنها من قبل وسائل الإعلام الغربية الكبرى وكل السياسيين”. وانتقد التركيز الغربي على إدانة الجهة الفلسطينية في وقت لم يطلب من أحد سابقاً أن يدين اقتحام “حوارا”، أو يدين قتل الأطفال الفلسطينيين على يد المستوطنين، وتابع: “هل من يدرك أن نائب رئيس الأركان السابق في الجيش الإسرائيلي قال أن وضع الفلسطينيين في الضفة الغربية ذكّره بوضع اليهود في ألمانيا؟”. ومعنى ذلك أنّ المستوطنين أحرار في مهاجمة الفلسطينيين تماماً كما كان الألمان أحراراً في مهاجمة اليهود، ولم يكن الجيش يمنعهم بل حتى يساعدهم على ذلك. و”هل ذكرت وسائل الإعلام الغربيّة أن آلاف اليهود، من إسرائليين وحاخامات ومؤرخين وقعوا على وثيقة مؤخراً وصفوا فيها الوضع القائم حالياً بأنه بوضوح نظام فصل عنصري؟! وهل تدركون أنّ رئيس الموساد السابق ذكر أن وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال هو نظام فصل عنصري؟!”. وأضاف ماتي أن منافقي الجيش الإسرائيلي اليوم “بإمكانهم إعطاء دروس لغوبلز أستاذ البروباغندا”. وتابع أنه على أي طرف كنت من الصراع، “عليك أن تتخطى مشاعرك إذا ما أردت الحقيقة والعدالة والسلام، لأنّ العواطف محكومة بعقود من البروباغندا”. وانتهى بالقول أن “ما يجري هناك ليس بسرّي، تمّ توثيقه على يد مؤرّخين إسرائيليين”، فالوقائع لا يوجد تنازع بشأنها من منظور تاريخي. و”واقع أننا نعيش داخل فقاعة (bubble)، نفس الفقاعة التي أنشأها الإعلام الغربي وجرتنا إلى حرب العراق واستخدام أسلحة الدمار الشامل وأدت إلى قتل 500 ألف مدني عراقي، وسائل الإعلام نفسها التي جرتنا إلى حرب الفيتنام…”، واستطرد: “هل تذكرون ما قالته نيويورك تايمز عن مارتن لوثر كينغ حين تحدّث ضد الحرب على فيتنام، لقد قالت: (هذه المرة تجاوزت الحدود)”، وهي الصحافة نفسها اليوم التي تغض النظر أو تؤيّد الإبادة الجماعية اليوم.
[1] على سبيل المثال، وعلى عكس بيترسون، يرفض ماتي تماماً فكرة تجاهل الطفل حين يهم البكاء، يقول أنها الطريقة الوحيدة التي يتواصل بها الطفل مع العالم، وأنّ طبيعتنا كبشر هي الإستجابة لنداء الطفل، وهي فطرة الحيوانات في تصرّفهم مع أبنائهم. أمّا عدم الإستجابة فمناقض للفطرة البشريّة وفطرة الحيوان على حد سواء، يستتبعه مشاكل نفسيّة، إذ لا يمكن فصل النظام النفسي عن النظام البيولوجي للبشر. ويستعين ماتي دائماً بالمعطيات العلمية والإحصاءات التي تتجاهلها المؤسسات الطبيّة، ويُشتهر في تفسيره للإدمان (على أنواعه) كأحد أشكال الدفاع إزاء عنف النظام، بينما علاجه لا ينفصل عن معرفة مكمن العنف البنيوي الذي يدفع إلى الإدمان.
[2] “سواء لناحية قتل 5 مليون يهودي على يد النازيّة أو قتل 3 مليون فييتنامي على يد الولايات المتحدة، أو مجازر الإبادة التي لم يذكرها حتّى الإعلام الغربي مثل مذابح المذابح في تيمور الشرقيّة، أو قتل مئات الآلاف من السكان المحليين في غواتيمالا عام 1990 على يد الولايات المتحدة والجيوش المدرّبة من الإسرائليين”
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.