شكل فشل مجلس النواب في القيام بواجبه الدستوري بانتخاب رئيس للجمهورية منذ أيلول 2022 مناسبة من أجل إطلاق مبادرات من مختلف القوى السياسية من أجل تسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية عبر طرح أفكار حول التشاور والحوار من أجل التوافق مسبقا على مرشح محدد.
ومن بين هذه المبادرات تلك التي أطلقتها “قوى المعارضة” بتاريخ 9 تموز الجاري التي تقضي بتبني واحدة من مقاربتين: المقاربة الأولى تقول باجتماع النواب من دون دعوة رسمية في المجلس النيابي بغية التشاور خلال 48 ساعة ” يذهب من بعدها النواب، وبغض النظر عن نتائج المشاورات، إلى جلسة انتخاب مفتوحة بدورات متتالية وذلك حتّى انتخاب رئيس للجمهورية كما ينص الدستور، من دون إقفال محضر الجلسة، ويلتزم جميع الأفرقاء بحضور الدورات وتأمين النصاب”. أما المقاربة الثانية فتنطلق من دعوة رئيس مجلس النواب إلى جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، “ويترأسها وفقًا لصلاحياته الدستورية، فإذا لم يتم الانتخاب خلال الدورة الأولى، تبقى الجلسة مفتوحة، ويقوم النواب والكتل بالتشاور خارج القاعة لمدة أقصاها 48 ساعة، على أن يعودوا إلى القاعة العامة للاقتراع، في دورات متتالية بمعدل 4 دورات يوميا، دون انقطاع ودون إقفال محضر الجلسة وذلك إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية، ويلتزم جميع الأفرقاء بحضور الدورات وتأمين النصاب”.
وقد حرصت هذه المبادرة على عدم مأسسة عملية التشاور بأيّ شكل من الأشكال من أجل عدم خلق أعراف جديدة من خارج الدستور. فالتشاور كما يتمّ تقديمه يؤدّي إلى إيجاد آليّات لم يلحظها الدستور من أجل انتخاب رئيس الجمهورية، إذ من الواجب أن يجتمع مجلس النواب فقط في جلسة انتخاب ويعمد إلى عقد دورات اقتراع متتالية من أجل حصول أحد المرشّحين على الغالبية المطلوبة حتى لو احتاج ذلك إلى جلسات عديدة.
ولا شك أن هذا التشديد على عدم مأسسة التشاور ينطلق من رفض “قوى المعارضة” لفكرة رئيس مجلس النواب نبيه بري بعقد طاولة للتشاور تضم ممثلين عن جميع الكتل البرلمانية من أجل التوافق على رئيس جديد للجمهورية على أن يتمّ تكريس هذا التوافق السياسي لاحقا في مجلس النواب.
لكن هذا الحرص على عدم مأسسة التشاور لم يحدّد بوضوح ما هي المآخذ على ذلك: فهل الأمر يتعلق باستحداث آليات لا ينص عليها الدستور أم أن المشكلة تكمن في التوافق نفسه الذي يفضي إلى اختيار مرشح وحيد سيفوز حتما في جلسة الانتخاب؟
والحقيقة أن الدستور لا يمكن أن يلحظ كل التفاصيل المتعلقة بالحياة السياسية التي تظلّ أوسع من أن يتمكّن نصّ قانوني أن يضبطها مسبقا ضمن أطر محكمة. فالتشاور بين النواب هو ظاهرة ملازمة للحياة البرلمانية علما أن ذلك قد يحصل ليس فقط قبل انتخاب رئيس الجمهورية لكن أيضا قبل التصويت على القوانين أو منح الثقة للحكومة. ومن الأمثلة أيضا على ذلك الاستشارات النيابيّة التي كان يجريها رئيس الجمهورية قبل تسمية رئيس الحكومة علما أن هذه الآلية كانت وليدة الأعراف ولم يتمّ تكريسها في نص دستوري إلا مع تعديلات 1990 عقب اتفاق الطائف.
وقد عرفت التجربة الفرنسية خلال الجمهورية الثالثة (1870-1940) ظاهرة شديدة التنظيم بخصوص انتخاب رئيس الجمهورية من خارج أي نص دستوري. لا بل أن هذه الظاهرة كانت ممارسة تتخطى بأشواط التشاور البسيط بين النواب من أجل التحضير لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية الرسمية. فقد عمدت الكتل السياسية بعد استشارتها والحصول على موافقتها في كل من مجلسي الشيوخ والنواب إلى التداعي للاجتماع بشكل منفصل في قاعة خاصة داخل مبنى البرلمان من أجل تنظيم انتخابات تجريبية تؤدي إلى اختيار المرشح الذي ستصوت عليه الكتلة في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى لاحقا. ففي 16 كانون الثاني 1906 مثلا، أي قبل يوم واحد من جلسة الانتخابات الرسمية، اجتمعت كلّ كتل اليسار في كلّ من مجلسي الشيوخ والنواب بدعوة من رؤسائها من أجل إجراء اقتراع تمهيديّ بغية اختيار مرشحها. وقد شارك 649 شيخا ونائبا في التصويت الذي جرى بشكل سري وانتهى باختيار المرشح الذي فاز بالأغلبية المطلقة من أصوات المقترعين. وتكرر الأمر أيضا سنة 1913 حين تمّ عقد ثلاث دورات اقتراع بين 15 و16 كانون الثاني كون أيّ من المرشحين لم يتمكّن من الحصول على الغالبيّة المطلقة في الدورتيْن الأولى والثانية. وقد شارك 748 شيخا ونائبا في عملية الاقتراع التمهيدي هذه التي امتدّت على ساعات طويلة مع تجهيز أربعة مكاتب اقتراع مقسّمة أبجديا على أسماء الشيوخ والنواب مع رئيس لكل مكتب من تلك المكاتب يتم اختياره مناصفة بين هؤلاء[1].
وهكذا يتبين أن هذه “المأسسة” التفصيلية لعملية اقتراع غير رسمي كانت تفضي إلى تحديد اسم مرشح من دون الاكتفاء فقط بتشاور لن يؤدي بالضرورة إلى أي نتيجة ملموسة. لا بل أن هذا الاقتراع التمهيدي قد يترك تداعيات سياسية ودستورية كبيرة كما حصل في 17 كانون الثاني 1920 عندما خسر رئيس الوزراء الفرنسي الشهير كليمنصو التصويت بحصوله على 389 صوتا بينما حصل خصمه على 408 صوتا ما دفع بكليمنصو إلى مقاطعة جلسة الانتخاب الرسمية التي عقدت في اليوم التالي وانتهت بفوز دوشانيل كرئيس للجمهورية الفرنسية.
فمأسسة اختيار المرشحين ذهبت أبعد بكثير من التشاور لكنها ظلّت ضمن الأطر الديمقراطية كون الكتل البرلمانية كانت تجتمع وفقا لتوجهاتها السياسية من أجل اختيار المرشح الذي يحظى بدعم أغلبية الشيوخ والنواب. ولم يعتبر أحد أن هذا الانتخاب التمهيدي يشكل خرقا للدستور أو يؤدي إلى استحداث أعراف تناقض الآلية التي يلحظها الدستور. لا بل أن البرلمان الفرنسي حافظ على حياته الديمقراطية وكانت الانتخابات الرئاسية تتّسم دائما بالتنافس بين مرشحين جرى اختيارهم مسبقا بطريقة ديمقراطية أيضا من قبل الكتل السياسية المختلفة.
جراء ما تقدم يصبح جليا أن المشكلة لا تكمن في الآليات التي يتمّ اعتمادها مسبقا من أجل اختيار المرشح ولا في أن هذه الآليات لا ينص عليها الدستور، لكن المشكلة تظهر عندما تكون هذه الآليات غير ديمقراطية بحيث تصبح الانتخابات في مجلس النواب مجرّد إجراء شكلي، ما يعني تهميش المؤسسات الدستورية واستبدالها بمنطق التوافق بين مختلف أركان السلطة الحاكمة كما حصل في لبنان خلال الانتخابات الرئاسية السابقة.
فمبادرة قوى المعارضة التي تقول بالتشاور قبل الجلسة أو بين دورات الاقتراع تطرح أمرا بديهيا يفترضه الدستور إذ لا يعقل أن يتحوّل النائب إلى كائن منفصل ومنعزل كليا عن سائر النواب خلال جلسة الانتخاب. لكن المشكلة في المبادرة تكمن في النقاط الأخرى التي تثيرها والمتعلقة بنصاب الجلسة والدورات المتتالية وعدم إقفال محضر الجلسة. فهذه المواضيع هي الإشكالية الكبرى والحقيقية التي تطرحها جلسة انتخاب رئيس الجمهورية من الناحية الدستورية والتي لا يمكن التوافق عليها بل ينبغي أن يتم حسمها دستوريا أولا في الهيئة العامة لمجلس النواب وثانيا في المجلس الدستوري في حال تم الطعن بنتيجة الانتخاب. فمبادرة “قوى المعارضة” ترفض مأسسة التشاور خوفا من خرق الدستور لكنها تطالب في الوقت عينه بالتوافق السياسي المسبق على النصاب وعدم إقفال المحضر، أي أن المبادرة بحد ذاتها في حال تم تبنيها تؤدي إلى حسم نقاط دستورية من خارج الدستور نفسه وبطرق غير ديمقراطية.
وقد سبق للمفكرة القانونية أن شرحت مسألة النصاب في الدورة الثانية، وعالجت اعتباطية رئيس مجلس النواب بإعادة الدورة الأولى في كل جلسة جديدة بدل استكمالها والانتقال مباشرة إلى الدورة الثانية، ما يظهر أن خرق الدستور يتم تحديدا في هذه المواضيع التي تطالب “قوى المعارضة” بالتوافق المسبق عليها. فالحل الدستوري السليم كان يقضي بطرح تلك الإشكاليات خلال جلسات الانتخاب ورفض تفرّد رئيس مجلس النواب بتفسير الدستور والنظام الداخلي وفقا لمصالحه السياسية وليس بمناشدة الكتل النيابية الأخرى، بمن فيها كتلة رئيس المجلس، للتوافق على آليات دستورية ظرفية قد يتم التراجع عنها في المستقبل.
خلاصة القول، لا تكمن المشكلة في الآليات السياسية التي يتم اعتمادها من أجل تحديد المرشحين لكنها تتجلى في إفراغ المؤسسات من طبيعتها الديمقراطية. فعندما تكون الجهات السياسية المسيطرة على البرلمان غير ديمقراطية في طريقة عملها وتفكيرها لا يمكن التعويل على عدم مأسسة التشاور من أجل الحفاظ على الدستور.
[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1919, p. 456.