معركة كسر الاحتكار في السبعينيّات: كارتيل الأدوية ينتصر على إميل بيطار


2021-05-06    |   

معركة كسر الاحتكار في السبعينيّات: كارتيل الأدوية ينتصر على إميل بيطار

عُيّن إميل بيطار وزيراً للصحة في الحكومة الأولى في عهد الرئيس سليمان فرنجيه والتي ترأسها صائب سلام في تشرين الأول 1970. أطلق سلام شعار “الثورة من فوق” على حكومته التي حملت لقب “حكومة الشباب” نظراً لأنّها ضمّت وزراء من خارج نادي الزعماء التقليديين. حمل هؤلاء الوزراء صفة التكنوقراط وأوكلت إليهم مهمّة تطبيق العديد من الإصلاحات التي طال انتظارها. وضعوا خططاً طموحة، مستهدفين مكامن الخلل ومصالح كبار التجّار والمحتكرين. حمل الوزراء “المجهولون”، كما أسمتهم جريدة “النهار”، الأمل للبنانيين لاسيما بعد أزمة بنك إنترا وتداعياتها على الاقتصاد والمجتمع. لكنهم لم يكونوا مدركين أنّ أصحاب الأعمال الكبار ومن خلفهم حلفاؤهم من المنظومة السياسية أقوى من الإصلاح ومن مؤسّسات الدولة. حاول بعضهم مواجهة النظام فانتهى بهم الأمر إلى التخلّي عن مشاريعهم وتقديم استقالاتهم. كان وزير التربية غسان تويني أوّل المستقيلين بعد مئة يوم من تشكيل الحكومة نتيجة المعارضة الشرسة لمشروعه الإصلاحي لقطاع التربية. تبعه وزير المال الياس سابا الذي سبق أن قدّم خطّة سداسية لإصلاح النظام الضريبي وفرض ضرائب على البضائع المستوردة في ما عرف بالمرسوم 1943. تعرّض سابا لحملة شعواء من قبل التجّار الذين أعلنوا الإضراب الشامل لحوالي 10 أيام ومن قبل النوّاب المساندين لهم. عاد سابا عن استقالته بعد تمنّي رئيس الجمهورية لكن أسقط المرسوم. لم يتمكّن سابا من الحصول بعدها على التأييد اللازم لأيّ من مشاريعه الكبيرة، أبرزها الضريبة التصاعدية على الثروة. لكن فشل تويني وسابا لم يُثنِ إميل بيطار عن المحاولة. حمل وزير الصحة مشروعاً طموحاً لإصلاح قطاعي الاستشفاء والأدوية وكان على عكس سلفيه قد حظيَ بتأييد سياسي وشعبي كبير مكّنه من الوقوف في وجه محتكري الدواء ولكن ليس لوقت طويل بعدما نجحوا في تأليب الرأي العامّ ضده وفي الضغط على أصدقائهم في السلطة لإسقاط مشروع بيطار الرامي إلى تخفيض أسعار الأدوية.

نستعرض في هذه المقالة البحثية مسار إميل بيطار في وزارة الصحة. نتناول في البداية الوضع العام لقطاع الأدوية في لبنان والإصلاحات التي أدخلها بيطار فور تسلّمه الوزارة. ثم نتطرّق إلى القرار 361 والتعميم 411 اللذين أصدرهما بيطار لتنظيم سوق الدواء والمعارضة الشرسة لهما من قبل تجّار الأدوية. ونختم باستقالة بيطار من الوزارة وتبعاتها ومصير مشروعه.

واقع الدواء في لبنان: الإطار العام

جرت محاولات عدّة لتنظيم قطاع الدواء في لبنان قبل تسلّم بيطار وزارة الصحّة. لكن معظم تلك المشاريع بقيت حبراً على ورق أو لم تحقّق أيّ نتيجة تذكر. حاول وزير الصحة في حكومة صائب سلام، الياس الخوري عام 1960 تخفيض فاتورة الدواء ووضع نفسه في مواجهة كارتيل الأدوية: “إمّا أنا وإمّا تجّار الأدوية”، كما قال لصحيفة “الأنوار” في 18 تشرين الثاني 1960[1]. لكن الخوري فشل وانتصر تجّار الدواء عليه وعلى كل من خلفه في الوزارة.

خلال تلك الفترة، كانت 4 شركات تحتكر استيراد معظم أصناف الأدوية في لبنان فتحقق أرباحاً خيالية تزيد عن 9 ملايين ليرة في السنة. وتعود ملكية تلك الشركات لكلّ من فتّال وكتّانة، بيار فرعون (النائب حينها)، أبو عضل ونقيب مستوردي الأدوية آنذاك جوزيف غريب وأنسبائه من آل أبيلا[2]. لا تزال هذه الشركات تسيطر على قطاع الأدوية حتى اليوم وقد انضمّت إليها شركة خامسة. وكان هنالك 111 مستورداً، بينهم 12 يمثلون أكثر من 10 شركات أدوية. وكان نقيب الصيادلة يمثل مع شقيقه ست شركات أدوية[3].

تمكّنت وزارة الصحة خلال الستينيّات من فرض تعرفة للدواء يضاف إليها الربح القانوني للمستورد المحدّد من الوزارة بـ6.15% تقريباً. لكن هذه التعرفة جاءت مضخّمة وبالتالي ساهمت في رفع ربح المستوردين. وقد ارتكبت الوزارة مخالفات أخرى ساهمت في تضخيم الأسعار وتفلّت سوق الدّواء بشكل عشوائي. من هذه المخالفات، موافقة الوزارة على نتائج مختبرات على الأدوية غير مقبولة في بلدانها وتسجيل أدوية غير معترف بها في بلدان المنشأ. وقد أدّت هذه المخالفات إلى أن يكون في حوالي 30 ألف صنف دواء[4]، ما جعل لبنان من أكبر أسواق الأدوية في العالم. وقد استورد لبنان عام 1968، 2.69 طناً من الأدوية قيمتها حوالي 45 مليون ليرة (أي 105 ملايين دولار إذ بلغ سعر الصرف في ذلك العام 2.33 دولاراً)، انخفضت إلى 1.768 طناً في 1969 فيما ارتفعت قيمتها إلى 52 مليون ليرة[5] (137 مليون دولار إذ بلغ سعر الصرف آنذاك 2.64 دولاراً). وهذا ما يشير إلى أنّ المستوردين اتّجهوا إلى اختيار الأصناف الأغلى سعراً.

وقد أشارت جريدة “النهار” في تحقيق إلى أنّ الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار الدواء في لبنان هي “الفرق بين “الأسعار المعلنة في الفواتير والأسعار الحقيقية التي يدفعها المستوردون لبعض الشركات في بلاد المنشأ، التي تتواطأ مع المستوردين؛ وربح المستورد في لبنان الذي يبلغ فعلياً 40%؛ وربح الصيدلي في معظم الأدوية 25% فيما هو 15% في سوريا[6]“.

وشهدت تلك الفترة أيضاً نشوء صناعة محلية للأدوية بدأت في التخفيف من ارتفاع الكميات المستوردة. لكنّها واجهت صعوبات كبيرة أهمّها الرسوم الجمركية المرتفعة الموضوعة على المواد المستعملة لصناعة الأدوية ما ساهم في إبطائها وعدم توسّعها.

وكشفت “النهار” في تحقيق آخر أنّه في مطلع الستينيّات تأسّست في بيروت شركة لاستيراد الأدوية قوامها 20 من زوجات أطباء. وقد أدّى هذا التشابك في المصالح إلى لجوء بعض الأطبّاء إلى وصف الأدوية التي تعود عليهم بالربح، إما بشكل مباشر، بفضل “المستورد”، أو غير مباشر، عن طريق توزيع النسب بين مختلف المستفيدين. واتّهمت الصحيفة تلك الفئة من الأطباء، إلى جانب المستوردين، بعرقلة كلّ محاولة لتصنيع الأدوية محلّياً[7].

وبدل تقديم شرح علمي لأسباب ارتفاع فاتورة الاستيراد، لام رئيس نقابة مستوردي الأدوية وأصحاب المستودعات جوزيف غريّب المريض وحالته النفسية “غير المرتاحة، فتؤثر هذه الحالة في نظرته الآنية المتشائمة ويعتبر أنّ سعر الدواء مرتفع حتى ولو كان هذا السعر ضئيلاً جداً في بعض الأحيان[8]“. وقد بات توجيه الملامة إلى اللبنانيين على مشاكلهم بدل تحمّل مسؤولية السياسات المجحفة، أحد أبرز أساليب المستوردين، حتى اليوم. يكفي أن نذكر أنّ نقيب مستوردي الأدوية الحالي كريم جبارة عاتب اللبنانيين مؤخراً على تهافتهم على شراء كميات كبيرة من الأدوية ما أدّى إلى اختفائها من السوق.

إصلاحات بيطار في الوزارة

كان بيطار مطّلعاً على واقع القطاع الطبي والدوائي قبل تعيينه. وبالتالي، تمكّن فور تسلّمه الوزارة من إجراء سلسلة من الإصلاحات ومنها إلغاء شهادة فقر الحال في تشرين الأول 1970 حيث اعتبر أنّ لكلّ المواطنين الحقّ في العلاج من دون الحصول على شهادة من المختار. كما خفّض حصّة المستشفيات الخاصّة من موازنة وزارة الصحة مقابل رفعها للمستشفيات الحكومية، بعدما كانت “50% من موازنة الصحّة تعطى لمعالجة المرضى في المستشفيات الخاصّة التي أصبحت متطوّرة بفضل مال الدولة بينما بقيت المستشفيات الحكومية في حالة أدنى[9]“. أمّا الإجراء الأهمّ الذي شرع بيطار بتنفيذه، فهو تطبيق نظام الضمان الصحّي في 1 شباط 1971، بعد سلسلة مفاوضات بين الحكومة وأرباب العمل والعمّال. وأعلن بيطار أنّ الحكومة أحالت مشروع قانون على مجلس النواب يمنح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الحق في استيراد الأدوية لمصلحة وزارة الصحّة والمؤسّسات العامّة وأنّ الوزارة تعمل على خفض أسعار بعض أنواع الأدوية بحيث توازي الأسعار التي تُباع بها في سوريا، بخاصّة أنّ عدداً كبيراً من اللبنانيين كان يتوجّه إلى سوريا لشراء أدويته. بدأ كارتيل الأدوية بمحاربة الوزير فور إعلانه عن قراره الأخير. وهاجم نقيب مستوردي الأدوية جوزيف غريّب القرار بالقول: “إذا كان الوزير يريد مجدّداً حسم 10 إلى 12% من سعر الدواء أي أكثر من نسبة الأرباح التي حدّدتها وزارة الصحّة وتحميل المستوردين فرق أسعار العملات الأجنبية، فلا يبقى أمامنا إلّا أن نسلّمه مفاتيحنا ومحلّاتنا[10]“. وعلاوة على ذلك، اتّهمت النقابة الصندوق باستيراد أدوية قديمة التواريخ يهمّ المصانع المنتجة لها التخلّص منها قبل انتهاء مدة فعاليتها لتوزيعها على المضمونين؛ الأمر الذي نفاه مدير الصندوق[11]. لكن بيطار مضى في تطبيق خطته وأطلق في الأوّل من أيّار 1971، إلى جانب قرار تخفيض أرباح المستوردين، العمل بالبطاقة الصحّية التي تسمح بمعالجة حامليها من ذوي الدخل المحدود في جميع المؤسّسات الصحّية المتعاقدة مع الدولة. وطرح بيطار بطاقتين: واحدة عائلية وتشمل الوالدين والأولاد ممّن هم دون الـ18 وفردية، لمن تجاوز الـ18. وأعلن أنّها ستصبح إلزامية ابتداء من 15 أيار 1972 وأنه سيعمل بها لمدة 4 سنوات من تاريخ إصدارها[12].

 

بيطار يصدر القرار 361

بقيت الخلافات بين وزير الصحّة ونقابات مستوردي الأدوية محدودة إلى حين صدور القرار 361 في 31 تموز 1971، الذي حدّد بيطار بموجبه أرباح المستورد بنسبة 10%. فيما أصبحت أرباح الصيدلي 30% على أساس سعر كلفة الصيدلي، ما اعتبره الوزير صوناً كاملاً لنسبة أرباح الصيدلي التي كانت 25% على بعض المستحضرات و20% على البعض الآخر. ونصّ القرار أيضاً على ضرورة ضبط أعمال الرقابة فطلب من الصيادلة المفتشين وضع تقارير دورية حول التقيّد بالأسعار المحدّدة. وأنشأ القرار لجنة لتصنيف المصانع غير اللبنانية بغية الحدّ من الفوضى في استيراد الأدوية والتنبّه إلى جودتها والتأكّد من فعاليتها. وأشار إلى أنّ نسبة تخفيض سعر مبيع الدواء من العموم تتراوح بين 30% و15%[13]. وأوضح بيطار بأنّ القرار نصّ على ثلاثة مبادئ أساسية: اعتماد سعر مبيع المستحضر من العموم في بلد المنشأ كأساس لتحديد سعر مبيعه من العموم في لبنان، اعتماد سعر فاتورة الاستيراد، وإذا ظهر تباين بين السعرين يعتمد السعر الأدنى[14]. وكشف بيطار بأنّ التلاعب يحصل في فواتير أسعار هذه الأدوية عن طريق تزوير تلك الفواتير والاتفاق مع مصانع الأدوية على إعطاء المستوردين أو الصيادلة فاتورتين بسعر الدواء، “الأولى توضح سعره الحقيقي وتبقى بحوزة المستوردين والصيادلة والثانية لا تعكس السعر الحقيقي وتبرز إلى وزارة الصحّة لتحديد الأرباح القانونية على أساسها[15]“.

وأعلن الوزير أنّه سيبدأ بإرسال الجداول بالأسعار الجديدة للأدوية إلى الصيدليات اعتباراً من 5 أيلول ويفترض بالصيدليات أن تبيع وفق التسعيرة الجديدة بعد أسبوع من تاريخ تسلّمها الجدول وأنّ مهلة الأسبوع هي لتمكين الصيدلي من نزع السعر القديم عن سعر الدواء ووضع السعر الجديد.

كارتيل الأدوية يتصدّى لقرار بيطار

حاول صائب سلام عرقلة مشروع بيطار من خلال تجميد القرار وعدم نشره في الجريدة الرسمية متحجّجاً بـعدم استشارته كرئيس حكومة. “أنا لا أقبل أن يتجاهلني أحد. ولا أسمح لوزير أن يصدر قراراً يتّصل بسياسة الحكومة العامّة وأن يحيله على النشر دون أن أكون على علم به. أنا مع تخفيض سعر الدواء وأوّل المنادين به. ولكن أنا، أولاً، مع الانضباط الوزاري، ومع معرفة كلّ وزير حدّه ووقوفه عنده[16]“. اعتبرت الصحف حينها أنّ سلام لجأ إلى هذا التكتيك لأنّه تعرّض لضغوط من كارتيل الأدوية الذي كانت تربطه به علاقات صداقة وطيدة. لكنّ فرنجيه تصدّى لسلام عبر عرض المشروع في مجلس الوزراء الذي وافق بالإجماع على القرار ممّا أجبر سلام على التراجع. وعليه تمّ الإفراج عن عدد الجريدة الرسمية في 12 آب 1971.

لجأت نقابات الصيادلة ومستوردي الأدوية والمنتجين في بادئ الأمر إلى تنفيذ إضراب رمزي في 12 آب. ووجهت نقابة الصيادلة برئاسة النقيب أديب قدّورة برقية إلى رئيس الجمهورية طلبت فيها تشكيل لجنة لوضع تشريع نهائي ودائم لتسعير الأدوية لأنّ الصيادلة لا يريدون “أن يكونوا كلّ مرّة عرضة لرغبات وزير الصحّة[17]“. وأصدرت بياناً رأت فيه أنّه سيكون من المستحيل على الصيادلة تنفيذ القرار لأنهم اشتروا الأدوية مسبقاً بأسعار أغلى من سعر المبيع المفروض من الوزارة. وطالبت الحكومة باستلام “المؤسّسات الصيدلانية (مستودعات المستوردين – المستودعات العامّة للتوزيع – الصيدليات) لتقوم بتنفيذ القرار فيها ضمن الشروط التي يحدّدها النقيب ومجلس النقابة بحيث تتحمل الدولة بصورة نهائية ديون الصيدليات والموجبات والخسائر التي تنتج عن تطبيق القرار والطلب من السلطات تحديد أجور الطبابة والصيدليات والمستشفيات والتحاليل والتصوير، هذه الأمور التي تبلغ عشرة أضعاف ثمن الدواء والمتروكة دون أي تحديد ومراقبة لحماية المريض[18]“. وكما جرت العادة عند أيّة محاولات إصلاح، اتّهم غريّب وزير الصحّة بأنّه يريد تأميم الدواء وضرب النظام الاقتصادي الحرّ وهي الحجّة التي يتمسّك بها أصحاب الكارتيلات والسياسيون الداعمون لهم عند كلّ محاولة لضرب الاحتكار. رفض بيطار ابتزاز النقابات وهدّد باللجوء إلى مصادرة الصيدليات في حال إقدام هذه الأخيرة على الإضراب.

بموازاة ذلك، حاول المستوردون المماطلة من خلال تأجيل تسليم الوزارة لوائح بالأدوية بهدف دفع بيطار إلى تأجيل قراره لبضعة أشهر. وأوحى نقيب الصيادلة بأنّ الوزير تعهّد بدفع فروقات أسعار الأدوية التي اشترتها الصيدليات بين 5 آب و5 أيلول والتي تبلغ قيمتها حوالي نحو 45 مليون ليرة. تجدر الإشارة إلى أنّ الرقم الذي وضعه قدّورة يبلغ مجموع قيمة الأدوية التي كان لبنان يستهلكها آنذاك في سنة كاملة. نفى بيطار هذا الادّعاء موضحاً بأنّ الصيدليات تشتري الأدوية من المستوردين بموجب فواتير على الحساب ولا تدفع نقداً، بمعنى أنّ الدفع يتمّ بعد بيع الأدوية[19]. لكنّ نقابة الصيادلة لم تسأم فلجأت في بيان أصدرته في 10 أيلول إلى حجّة جديدة وهي عدم التقيّد بقرار تخفيض أسعار الأدوية “إلّا بعد أن يخفّض المستورد سعره[20]“. ردّ بيطار في تصريح لجريدة “الحياة” بأنّ “النيابة العامّة أخذت علماً بالموضوع وهي ستتحرّك فوراً لتنفيذ أي محضر يصلها بحقّ أي مستورد أو صيدلي يخالف التعرفة الجديدة[21]“.

لم تؤدِّ هذه المناورات إلى تغيير الموقف الرسمي فارتأت النقابات التصعيد بعد توجّه مجلس الوزراء إلى تنفيذ القرار. وهدّد أصحاب المستودعات بصرف الموظفين والعمّال بحجّة أنّ نسب الأرباح المتبقّية لا تسمح لهم بتلبية حاجات موظفيهم. علاوة على ذلك، استعانت النقابات برئيس مجلس شورى الدولة السابق جان باز، الذي كان صُرف من الخدمة في عهد الرئيس شارل حلو خلال ما عرف بحملة تطهير القضاء عامي 1965-66، لمواجهة قرار الوزير. واعتبر باز في مؤتمر صحافي بأنّ قرار بيطار غير قانوني وغير شرعي وأنّ فيه أربعة عيوب يكفي كلّ واحد منها لإبطاله وهي: “عدم الصلاحية، خرق القانون والدستور، العيب الشكلي وتحوير السلطة أي إساءة استعمالها[22]“.

مواقف مؤيّدة لقرار بيطار

في بادئ الأمر، لم تنجحْ جميع تلك المحاولات بسبب التأييد النيابي والعمّالي والشعبي لقرارات بيطار. فقد رأى النائب كميل شمعون أنّ الأخير تمكّن من تحقيق المصلحة العامّة، فيما اعتبر النائب بيار الجميل أنّ نقابة الصيادلة تحوّلت إلى نقابة تجارية[23]. وهنّأت لجنة الصحّة النيابية الوزير على “جرأته وصموده[24]” ودعتْه إلى الإصرار على تخفيض أسعار الأدوية. واعتبرتْ الإذاعة اللبنانية أنّ “ضرب احتكارات الأدوية واجب وطني[25]“. وأكّد نقيبا الصحافة رياض طه والمحرّرين ملحم كرم أنّ الرأي العام بأكمله يقف إلى جانب وزير الصحة إذ “لا يجوز أن تظلّ سلعة تجارية خاضعة للإتجار والاستغلال[26]“.

وأعلن رئيس الاتحاد العمالي العام غابريال خوري تأييد الاتحادات العمّالية المطلق ودعمها لسياسة وزير الصحّة. ورفضت الهيئات الاقتصادية تأييد موقف مستوردي وتجّار الأدوية.

وقابلت صحيفة “الحياة” عدداً من الأطباء لاستطلاع آرائهم حول قرار بيطار، فرأى أحدهم أنّ “أسعار الدواء بالفعل مرتفعة للغاية. إنّنا جميعاً نعلم أنّ المقياس ليس المبيع في بلاد المصدر بل سعر الإنتاج الذي لا يتعدّى في بعض الحالات كسوراً من الدولار. إنها خطوة جريئة للوزير يشكر عليها[27]“. في حين اعتبر طبيب آخر أنّ “الدواء يباع في البلدان المجاورة بأسعار زهيدة. إنني على يقين أنّ المحتكرين “بتوّفي” معهم[28]“.

دخول القرار حيّز التطبيق

بدأ تطبيق القرار في 12 أيلول 1971 وأصدرت وزارة الصحّة أسعار 1154 دواء مقسّماً على لائحتين. وكانت الوزارة قد أصدرت “الدليل الصيدلاني” الأوّل في 4 أيلول لحظت فيه تجاه كلّ صنف السعرين القديم والجديد للدواء، وقد وزّع على نقابتي الصيادلة والمستوردين كما على الصيدليات في بيروت وجميع المحافظات[29].

وعلى الفور فُقِدَت من الصيدليات كلّ الأصناف التي شملتْها التسعيرة الجديدة. واختفى عدد من الأدوية الأساسية كالإنسولين وأدوية القلب بحجّة أنّ هذه الأصناف غير مربحة وبالتالي على “الحكومة تأمينها بالأسعار التي تراها مناسبة[30]“. أراد المستوردون من خلال إخفاء الأدوية تحريض الناس على وزير الصحّة ونجحوا بذلك. وارتفعت الشكاوى؛ المرضى يطلبون الدواء والصيدليات تعجز عن تأمينه بسبب امتناع المستورد عن تسليمه. وأجمعت شكاوى الصيادلة على مستودعين للأدوية، “ماديكا” الذي فقدت أكثر الأصناف التي يقوم بتوزيعها، والآخر مستودع “مترو” الذي كانت نسبة فقدان أصنافه أقلّ. وكشف عدد من أصحاب الصيدليات أنّ مندوب “فتّال” اتّصل بهم محذّراً إياهم من البيع بالسعر الجديد ومصرّاً على الأسعار السابقة كما كانت مسجّلة على الأدوية[31]. ولم يلتزم عدد كبير من الصيدليات بقرار وزير الصحّة بحجّة أنّها لا تستطيع تطبيقه قبل أن يخفّض المستورد سعر الدواء وقبل أن تدفع لها الحكومة فروقات أسعار الدواء الموجودة قبلاً في الصيدليات، حسب ما نقلت “الحياة[32]“.

حاول بيطار التصدّي لمواربات الكارتيل فقدّم في 15 أيلول عدداً من الاقتراحات إلى مجلس الوزراء: الترخيص لصيدليات جديدة تتعهّد بتطبيق قراره وكلّ قرار تتّخذه وزارة الصحّة لمصلحة المواطنين؛ قيام الوزارة بمهمّة استيراد الأدوية من الخارج بالأسعار التي تتّفق مع قرار التخفيض ومصادرة المستودعات التي توقّفت عن تزويد الصيادلة بالأدوية التي وردت في اللوائح المرفقة بقرار التخفيض[33].

وفي محاولة منه لضبط المخالفات، وجّه بيطار طلباً إلى وزير العدل لإصدار تعميم على المحاكم للبتّ بمخالفات التعرفة الجديدة للأدوية خلال أسبوع. كما وجّه كتاباً آخر إلى وزير الاقتصاد ليطلب إلى مصلحة حماية المستهلك مراقبة تطبيق التعرفة. كما أنشأ في وزارة الصحّة مكتباً خاصّاً لتلقّي الشكاوى.

في المقابل، نفّذ أصحاب المستودعات تهديدهم وصرفوا عدداً من العمّال فتدخلت وزارة العمل وجمّدت إشارات الصرف. وطلب وزير العمل من أصحاب المستودعات وقف الصّرف بانتظار حلّ الأزمة[34].

التعميم 411

بغية الضغط على المستوردين، أصدر بيطار التعميم 411 الذي نصّ على سحب رخص استيراد الأدوية من كلّ من يمتنع عن استيراد الأصناف التي كان يستوردها قبل قرار خفض الأسعار. وألزم التعميم المستوردين بالحصول على فاتورة منشأ تظهر سعر المبيع المباشر أو سعر البيع للعموم بعد تنزيل حسم الصيدلي وحسم الموزّع في بلدان المنشأ. وبالتالي منع التعميم أيّ تلاعب بأسعار الأدوية وأخذ في الاعتبار فقط الزيادات الفعلية التي تقرّرها المصانع على أسعار مستحضراتها وتعمّمها على بلدان العالم بما فيها بلدان المنشأ. فجّر التعميم غضب المستوردين وراهن الكارتيل على قيام ضجّة في أوساط المستهلكين بسبب فقدان الأدوية من السوق وعلى تراجع بيطار بفعل الضغط عليه داخل الحكومة، إذ إنّ وزراء الاقتصاد نديم جارودي والمال الياس سابا والتربية نجيب أبو حيدر ومعهم رئيس الحكومة تحفّظوا على التعميم.

وبموازاة ذلك، قرّرت النقابة الفرنسية لمصانع الأدوية وقف التصدير إلى لبنان، بحجّة أنّ معامل الأدوية الفرنسية لم تعد قادرة على تصدير الأدوية التي تنتجها إلى لبنان بعد القرارات الأخيرة التي أصدرها بيطار والتي استهدفت جميع المعامل الأجنبية وفرضت توحيد سعر الأدوية المستوردة مع أسعارها في الدول المنتجة لها. ويترتّب على هذه القرارات تخفيض أسعار بيع الأدوية الفرنسية في لبنان بنسبة 20%. وكان لبنان، حسب نقيب الصيادلة، يستورد حوالي 300% من الأدوية من المصانع الفرنسية، معظمها أدوية لمعالجة الأمراض الرئيسية[35].

كشف بيطار في تصريح إلى “الوكالة الوطنية للأنباء” أنّ مقاطعة بعض شركات الأدوية الفرنسية للسوق اللبنانية هي خطّة سبق ولوّح بها عدد من مستوردي الأدوية. وعلى إثره، استدعى بيطار إلى مكتبه 15 مستورد أدوية بشكل فردي لمناقشة قرار النقابة الفرنسية وطلب من كلّ منهم تحديد إن كان باستطاعته الاستمرار في تأمين استيراد الأدوية والعودة بإجابة ضمن مهلة 24 ساعة. واعتبر بيطار في حديث للإعلام بأنّ “المستوردين يلجؤون إلى إيهام الرأي العام بأنّ المعركة هي بين الوزير وبين شركات الأدوية الأجنبية، في حين أنّ المعركة هي بين الوزير والقوى التي تحتكر الدواء وهي معركة الشعب اللبناني بأسره. ولن أقبل بأن يصبح بعض المحتكرين للدواء أولياء على صحّة هذا الشعب وحياته وكرامته[36]“.

ودفع هذا التدبير بيطار إلى اتّخاذ سلسلة من الإجراءات في حال امتناع المستوردين عن متابعة تأمين الدواء، أبرزها:

– “إلغاء العقد بين الشركة المنتجة والوكيل اللبناني بحيث يمكن توكيل سواه.

– إلغاء صنف الدواء خصوصاً إذا كانت هناك أصناف مماثلة في السوق وعندها يمتنع الأطباء من وصف الصنف الملغى ويعتمدون أصنافاً مماثلة.

– إلغاء إجازة مزاولة المهنة لوكيل الأدوية في حال امتناعه عن الاستيراد[37]“.

في المقابل، اقترح سلام والوزراء اللجوء إلى وسائل أخرى لا تضعهم في مواجهة مع مجلس النواب أو المستوردين ومنها إعطاء رخص جديدة لمستوردين جدد أو تخويل صندوق الضمان استيراد الأدوية المفقودة. رفض بيطار هذه المقاربة وشدّد على ضرورة استعمال الشدّة مع المستوردين وعدم الرضوخ لضغوطهم ولوّح بالاستقالة بعد اجتماع لمجلس الوزراء: “بما أنّه لم يؤخذ بمشروعي، فإنّي أجد نفسي مضطراً إلى إعادة النظر في بقائي في الحكومة[38]“.

استقالة بيطار

لم يجد بيطار الدّعم الذي كان يتوخّاه من زملائه في الحكومة ومجلس النوّاب على حد سواء، حيث اتّهم بعض الوزراء بيطار بـ”اعتناق مبادئ يسارية ومحاولة تفجير صراع طبقي[39]“، وهي “التهمة الفزّاعة” الجاهزة التي غالباً ما يتسلّح بها أعيان النظام الحاكم لمنع أيّ محاولة إصلاح في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. يشير نجل الوزير بيطار، د. كريم بيطار، مدير معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، في مقابلة مع “المفكرة القانونية” إلى أنّه تبيّن “أنّ 3 أو 4 وزراء شكّلت مواقعهم تضارب مصالح مع قطاع الأدوية، فمثلاً بعض الوزراء كانوا محامي تجّار أدويّة أو يعملون مع تجّار الأدوية في بعض الملفات الأخرى[40]“. فيما كشف وزير المال الياس سابا في معرض مقابلة مع “المفكرة” بأنّ جورج أبو عضل كان من أقرب أصدقاء الرئيس فرنجيه، “كل جمعة بيعزمنا على الغدا، وجورج أبو عضل من أكبر تجّار الأدوية بلبنان[41]“.

طلب بيطار مناقشة خطّته في مجلس النواب وفي بداية الجلسة التي عقدت في 14 كانون الأول 1971، طرح بيطار الثقة بنفسه على أساس بيان قرأه أمام النوّاب، ولكنّ الثقة لم تطرح بسبب عدم اكتمال النصاب.

فقدّم بيطار استقالته خطياً إلى رئيس الجمهورية في 23 كانون الأول 1971 مؤكّداً أنّ سياسته “كانت دائماً مستوحاة من البيان الوزاري الذي وضع في طليعة أهدافه تنظيم الاقتصاد الحرّ، محافظةً على أسسه السليمة[42]“.

قبل فرنجيه الاستقالة الرابعة (كان سبقه إلى الاستقالة كلّ من غسان تويني وهنري إده وحسن مشرفيه) لأحد أعضاء حكومته واعتبرت “النهار” أنّها “هزيمة جديدة لأفكار التغيير التي استهلّ بها العهد ولايته تضاف إلى هزائم مشاريع التغيير الأخرى[43]“. يؤكّد د. كريم بيطار أنّ العائق الأساسي أمام الوزير بيطار أتى من رئيس الحكومة ومن بعض السياسيين المقرّبين من محتكري الأدوية. “ولكن بعد الاستقالة هناك من انتظر حدوث موجة استنكار واسعة. استنكر البعض ونظّم عدد من الإضرابات. لكن اعتقدوا أنّ الناس ستنزل إلى الشارع وسيكون غضباً كبيراً. جرى شدّ حبال على بضعة أيّام لكن لم تسقط الحكومة[44]“.

من جهته، انتقد سلام أسلوب بيطار في إدارة الأزمة. وأوضح أنّ المشكلة لم تعد مع المستوردين وحدهم إنما أصبحت مع مصانع الأدوية الفرنسية والسويسرية والألمانية التي امتنعت عن بيع لبنان الأدوية. ونفى سلام أن يكون مجلس النواب قد أيّد التعميم 411 كما جاء في نص استقالة بيطار الذي أكّد على أنّه حصل على تأييد المجلس في جلسة 14 كانون الأول 1971 “ولم يصوّت خلالها على الثقة رسمياً لأسباب تعلمونها[45]“، كما جاء في بيان بيطار. ووجه انتقاداً غالباً ما يلجأ إليه نظام الزعامات حين يتصدّى له أحد من خارج المنظومة، فقال في ندوة مع الإعلام إنّ “الجميع يعلم أنّ بيطار دخل الحكم على أساس أنّه وزير تكنوقراطي أي يقوم بمسؤوليته على أساس العلم المجرّد والاختصاص والتجرّد عن السياسة، وإذ بنا نجد بيطار يتخلّى عن العلم والتجرّد وعن الاختصاص ويتّجه إلى أسلوب السياسة واصطناع البطولات لتحقيق أهداف سياسية[46]“.

ونال بيطار حصته من الانتقاد من وزير المال الياس سابا أيضاً الذي اعتبر أنّه “لم يعد واقفاً على الأرض خصوصاً بعد وقفته الشهيرة في المجلس وقوله إنّه يصرّ على طرح الثقة بشخصه على أساس سحب الرخص من كل مستورد يمتنع عن استيراد دواء كان يستورده[47]“. فردّ بيطار متّهماً الحكومة بالجبن لأنها خافت أن يصيبها ما أصابها عند إقرار المرسوم 1943، “لكن الفارق بيني وبين الوزير سابا، إنني لا أختبئ وراء غيري[48] وأنني إميل بيطار وليس الياس سابا وأعرف كيف أضع قراراتي[49]“، ملمّحاً إلى عودة سابا عن استقالته وقبوله بسحب المرسوم بسبب صداقته الوطيدة بفرنجية. تجدر الإشارة إلى أنّ بيطار كان سبق ودعم سابا خلال الحملة الشرسة التي تعرّض لها من قبل التجّار عند إصداره المرسوم 1943. ورأى سابا في المقابلة مع “المفكرة” أنّ مشروع بيطار لم يكن واقعياً وأنه كان سيسمح للمستوردين بإقامة دعاوى على الدولة والفوز بها. لذا اقترح عليه فكرة إنشاء مكتب للدواء يسمح للحكومة باستيراد الأدوية[50].

واعترف بيطار بأنّ المستوردين قد نجحوا في تحريض الرأي العامّ ضدّه وجعلوا المواطنين لا يهتمّون برخص الدواء بقدر ما يهتمّون بوجوده[51]. وأصرّ على أنّ طرح الحكومة إعطاء رخص جديدة للاستيراد “غير واقعي إذ لا يمكن إعطاء هذه الرخص ما لم تسحب الوكالة من المستورد الأساسي[52]“. وشرح أنّ التعميم 411 جاء من منطلق منع المستوردين من التحايل في الأسعار إذ “كّلما حاول وزير أن يخفّض سعر الدواء، كان المستوردون يتحايلون عن طريق زيادة سعر الفواتير[53]“. ورأى أنّه “لا يمكن أن تكرّس سيطرة 100 مستورد على الدولة وهم يربحون سنوياً 25 مليون ليرة[54]“. وهاجم بيطار رئيس الحكومة في مقابلة مع “النهار” محمّلاً إياه مسؤولية فشل مشروعه. “لسوء الحظ لم أتّفق مع رئيس الحكومة إطلاقاً لأنّه يقدّم دائماً المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة، إن بالنسبة إلى المستشفيات أو المدارس أو التجّار. رئيس الحكومة فضّل أيضاً مصلحة بعض أصدقائه من تجّار الأدوية على المصلحة العامّة[55]“.

مصير سعر الدواء بعد استقالة بيطار

بسحر ساحر، عادت الأدوية الفرنسية وغير الفرنسية إلى معظم الصيدليات وقبِل المستوردون بتطبيق القرار 361 في مقابل إلغاء التعميم 411 بعد استقالة بيطار. وصرّح غريب بأنّ النقابة تمنّعت عن القبول بهذه الإجراءات بسبب المواقف المتصلّبة لوزير الصحة. ووعد بإخراج البضائع من الجمارك وبتأمين كلّ الأدوية اللازمة في الأسواق[56].

وعادت المفاوضات بين الحكومة ومستوردي الأدوية، فأكّد المستوردون أنّ بعض الأدوية ستبقى مفقودة إلى أن تتوصّل وزارة الصحة إلى حلّ لتسعير الدواء ترضى به الحكومة والمستهلك والمستورد والشركات المصدّرة. وقبل المستوردون بإخراج البضاعة من الجمارك وبيعها وفق الأسعار التي حدّدها القرار 361 لمدّة شهرين فقط. وقرّر وزير الصحة بالإنابة هنري طربيه بالاتفاق مع نقابة مستوردي الأدوية إعطاء نسبة معيّنة من الربح لصاحب مستودع الأدوية عن طريق اقتطاع نسبة من ربح المستورد ونسبة من ربح الصيدلي وتحويل الرسم البلدي المفروض على استيراد الأدوية إلى أصحاب المستودعات وبهذه الطريقة يكون الوزير ضمن نسبة ربح معيّنة لصاحب المستودع.

لكن المستوردين لم يفوا بوعودهم. ففُقد عدد كبير من الأدوية مجدّداً وعاد نقيب الصيادلة إلى طرح تأمين الدواء إلى الفقراء وذوي الدخل المحدود مجاناً وإبقاء أسعار الأدوية على ما هي عليه كحلّ للأزمة[57]. على إثره، قرّرت الحكومة اتخاذ تدابير استثنائية لتأمين أصناف الأدوية التي نفذت من الصيدليات وذلك في إثر فشل المفاوضات التي جرت لحمل المصانع الفرنسية والسويسرية على استئناف تصدير الأدوية إلى لبنان. فأرسلت وزارة الصحة وفداً إلى جنيف لاستيراد كمية من الأدوية بواسطة منظمة الصحّة العالمية. وأعلن طربيه في 17 شباط 1972 أنّ الموفدين إلى سويسرا أبلغوه أنّ جميع الأدوية المفقودة ستؤمّن تباعاً خلال هذا الأسبوع إلى الصيدليات كافّة. وأصدر كلّ من سابا وطربيه قراراً يقضي بتأليف لجنة مهمّتها رفع مشاريع التنظيمات الفنية والإدارية والمالية اللازمة إلى وزير الصحّة لتسلّم وحفظ وتوزيع وبيع الأدوية والمستحضرات الطبية التي تستوردها وزارة الصحّة على أن يتمّ بيع تلك الأدوية والمستحضرات الطبية من الصيدليات بالأسعار التي حدّدها قرار بيطار[58].

علّق بيطار على إجراءات الحكومة في مؤتمر صحافي كاشفاً أنّ “معظم الأدوية “المفقودة” من الأسواق أو المجمّد استيرادها (والأصح أن يقال المخبّأة في المستودعات) تأتي من مصانع يمثلها رئيس نقابة مستوردي الأدوية جوزيف غريّب والمرشح للانتخابات في بيروت جورج أبو عضل[59]“. ورأى بيطار بأنّ الحلّ هو في إنقاذ “المواطن من احتكار أبو عضل وفتّال وغريّب وقدّورة[60]“. وطالب بيطار بتبنّي مشروع القانون المعجّل المكرّر الذي يخوّل وزير الصحة سحب رخصة الاستيراد من المستورد الذي يمتنع عن تأمين الدواء. وتمنّى على الحكومة فتح الاعتمادات اللازمة لمتابعة الاستيراد المباشر للدواء وتوزيعه على الصيدليات والمستودعات بسعر الكلفة وبالإفراج عن الدليل الذي انتهى طبعه قبل أسابيع. كما دعا إلى إجراء تفتيش للمستودعات التي أكّد أنّها تضمّ كمّيات كبيرة من الأدوية المدّعى فقدانها من الأسواق، وإلى ملاحقة الصيادلة الذين لا يتقيّدون بالسعر المخفّض وإحالتهم إلى النيابة العامّة، وإلى الإسراع في محاكمة المستوردين والصيادلة الذين أحيلوا إلى النيابة العامّة قبل استقالته[61].

سلمان يطيح بمشروع بيطار ويخضع لكارتيل الأدوية

لم تتمكّن وزارة الصحة بواسطة الوزير الجديد صلاح سلمان، الذي أكّد على تطبيق القرار 361 والتعميم 411، سوى تأمين 10% من الأدوية المفقودة. وأمام الأخذ والرد بين الوزارة والمستوردين، أعلن سلمان فجأة في أيار 1972 توصّله إلى حلّ لأزمة الدواء يرضي المستهلك ونقابات الأدوية على حدّ سواء. فأكّد أنّ الوزارة اتّخذت التدابير اللازمة لتأمين أصناف الأدوية كلّها في الصيدليات وبالأسعار التي حدّدها القرار 361. لكنّه قرّر إلغاء التعميم 411، معتبراً “أنّ لا مبرّر لوجوده ما دام سعر الدواء يبنى إمّا على سعر المبيع من العموم في بلد المنشأ، أو على سعر الفاتورة، ويعتمد في ذلك السعر الأرخص[62]“. وأكّد سلمان على أنّ التعميم 411 كان جمّد بيطار مفعوله بموجب مذكّرة صادرة عنه في 4 كانون الأول 1971 أي بعد نحو شهر على إصداره وكان العمل بموجبه متوقفاً منذ ذلك الوقت حتى تاريخ إلغائه. وانتقد الوزير القرار 361 “وتصويره بأنّه كيان لا يمسّ[63]“، مُلمّحاً إلى أنّ بيطار زاد أسعار بعض المستحضرات بعدما خفّضها القرار. وصرّح سلمان بأنّ هناك أدوية ومستحضرات كان يجب أن تخفّض أثمانها أكثر ممّا خفّض وأنّه قد باشر في تصحيح وتقويم الجداول بحيث يصار إلى تخفيض أكثر في أسعار بعض الأدوية وبنسبة تفوق التخفيض الذي نصّ عليه القرار[64].

وأشار سلمان إلى أنّ كلّ أصناف الأدوية ستعود إلى الصيدليات، وأّنه أخذ تعهدّات خطّية وقانونية من جميع المستوردين مع فرض غرامة مالية في حال تخلّفهم عن استيراد أيّ صنف من أصناف الدواء. وكشف بأنّ الوزارة حصلت على إسقاط 22 دعوى كان المستوردون أقاموها على الدولة بحجّة أنّ قرار تخفيض الأسعار ألحق بهم أضراراً بالغة[65]. لكن سرعان ما تبيّن أنّ وزير الصحّة أعاد أسعار الأدوية إلى ما كانت عليه وكشفت “النهار” أنّ ارتفاع الأسعار وصل إلى نسب تتراوح بين 10 و25% تقريباً وأنّ غالبية هذه الأدوية هي من الأصناف الضرورية[66]. وعليه، نجح كارتيل الأدوية في منع تطبيق القرار 361 بحجة تغيّر سعر العملات الأجنبية وأسعار الأدوية في بلاد المنشأ.

خاتمة

يعتبر كاتب “Citizen Hariri: Lebanon’s Neoliberal Reconstruction” الباحث وأستاذ العلوم السياسية هانس بومان أنّ النيولبرالية تسعى إلى دولة قائمة على سياسة التدخّل والتي تزيل أيّ عوائق تعترض آلية السوق. فالنيوليبرالية ليست سياسية فقط لأنّها تعيد هيكلة الدولة، بل هي أيضاً مشروع سياسي يهدف إلى تهيئة الأرضية المناسبة لمراكمة رأس المال ولتبسط النخب الاقتصادية قوّتها على المجتمع. فطبيعة النيوليبرالية كمذهب اقتصادي وكمشروع سياسي تشكّّل مصدراً للتناقضات، ما يسمح بتبرير ممارسات غير ليبرالية واحتكارية مع الحفاظ على خطاب حرّية السوق[67].

عرّف الدستور النظام الاقتصادي اللبناني بأنّه “ﻧظﺎم اﻗﺗﺻﺎدي ﺣرّ ﯾﻛﻔل اﻟﻣﺑﺎدرة اﻟﻔردﯾﺔ واﻟﻣﻠﻛﯾﺔ اﻟﺧﺎﺻﺔ”. لكن ما نراه على الأرض هو نقيض لهذا النظام بسبب سياسة عدم التدخّل التي اعتمدتها الدولة أو سياسة “اليد المرفوعة” (laissez-faire) كما ترجمها الأستاذ والباحث في الاقتصاد د. ألبير داغر. سيطرت بضعة عائلات على التجارة والمالية العامّة وحصرت تدخّل الدولة بالحدّ الأدنى وبتأمين التوازن الطائفي في المؤسّسات. فهذه “دولة الحد الأدنى” ” (minimal state) لا دخل لها في شؤون التجارة والتدفقات المالية والمحسوبيات السياسية والبنية الاحتكارية[68]. فيما تجد الباحثة في تاريخ لبنان الحديث كارولين ل. غيتس في كتابها The Merchant Republic of Lebanon أنّ الاستراتيجية اللبنانية التي جمعت بين الدولة غير الناشطة (non-activist state) والقطاع الخاص الحرّ أدّت إلى تحويل النموذج اللبناني من نموذج عدم تدخّل الدولة (laissez-faire) إلى نموذج تخلّي الدولة عن دورها (laissez-aller). وهذا النموذج لم يخدم سوى مصالح النخبة الاقتصادية فيما أهمل تماماً حاجات أغلبية المجتمع اللبناني[69].

لطالما تسلّحت المنظومة السياسيّة بحجّة عدم المساس بالنظام الاقتصادي الحرّ لتعطيل مشاريع الإصلاح. وقد أثبتت تجربة إميل بيطار أنّ الاحتكار اكتسب قوّة يصعب كسرها في ظلّ النموذج اللبناني للاقتصاد الحرّ، وأنّ هذه القوّة تسمح له بمنع الإصلاح من ضمن النظام. فعلى الرغم من التأييد الشعبي الكبير له، اصْطدم بيطار بالمحتكرين وخلفهم المنظومة السياسية. أثبتَتْ تجربة بيطار أنّ هذا النظام يقيّد الحريّات، حرّية المنافسة وحرية الاختيار وأنّه يضع مصير اللبنانيين في أيدي عدد قليل من المحتكرين يتحكّمون في مفاصل الدولة واقتصادها. وأنّ هذا النظام يحظر التغيير لأن التغيير سيؤدي إلى كسر الاحتكار وكفّ يد قلّة قليلة من النافذين عن التحكّم بالاقتصاد. وعليه، يلجأ النظام إلى خلق الأزمات لإثبات أنّ أيّ عملية إصلاح ستؤدّي إلى عقبات وخيمة وأنّ أيّ محاولة لتحريك ملف الاحتكارات يسيء إلى سلامة النظام الاقتصادي وأّنه وحرصاً على سلامته وازدهاره، يجب ترك كلّ مقوّماته وركائزه على حالها. تختصر قضية إميل بيطار سطوة الكارتيلات على النظام، فهي نجحت في تحويل مساندة اللبنانيين لقرارات وزير شجاع إلى نقمة عليه بعد فقدان الأدوية من السوق. ونجحت من خلال التفاف الكارتيلات ومن خلفها السياسيين وعلى رأسهم رئيس الحكومة بدفعه إلى الاستقالة وإسقاط مشروعه بالضربة القاضية.

 

نشر هذا المقال في العدد 68 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. احتكارات المحاصصة الشاملة

 

  1. المناقشات النيابية، 8 كانون الأول سنة 1970.
  2. حرب الدواء: الحلّ في تأميم الاستيراد، جريدة الأنباء، 18 أيلول 1971.
  3. البيطار يوضح ويتهم، جريدة الحياة، 23 شباط 1972.
  4. رؤوف أبو زكي، هل يظل أخطبوط الدواء أقوى من سلطان الدولة؟ جريدة النهار، 14 تشرين الثاني 1970.
  5. دراسة مقارنة لأسعار الأدوية تناولت 129 نوعاً، جريدة النهار، 28 شباط 1971.
  6. المستوردون يربحون 40% وأصحاب الصيدليات 25%، جريدة النهار، 28 شباط 1971.
  7. الدواء: بدأ سباق الحواجز، جريدة النهار، 29 آب 1971.
  8. رئيس نقابة مستوردي الأدوية يتحدث بصراحة: المستوردون لا يربحون كثيراً والأسعار غير مرتفعة نسبياً، جريدة النهار، 19 حزيران 1971.
  9. بيطار يعلن في مؤتمر صحافي عن خطة للتنمية الصحّية، جريدة النهار، لا تاريخ.
  10. نقابة الأدوية ترد على وزير الصحة، جريدة النهار، 23 أيار 1971.
  11. انفجر الصراع بين صندوق الضمان ونقابة مستوردي الأدوية، جريدة الحياة، 9 نيسان 1971.
  12. يستوفى عنها: ليرتان لبنانيتان عن البطاقة الفردية و3 ليرات عن البطاقة العائلية، ويدفع عنها ليرة واحدة عند تقديم الطلب. تجدّد البطاقة كل 4 سنوات بعد إعادة البحث الاجتماعي.
  13. تخفيض أسعار الأدوية بنسبة 30 و15% وإعادة النظر بأرباح الصيادلة والمستوردين، جريدة الحياة، 6 آب 1971.
  14. المناقشات النيابية، الدور التشريعي الثاني عشر، العقد العادي الثاني، محضر الجلسة السادسة، 14 كانون الأول 1971.
  15. وزير الصحة يصرّ على موقفه من تخفيض الأرباح، جريدة الحياة، 3 حزيران 1971.
  16. سلام يجمّد قرار التخفيض لأنّ البيطار لم يستشره بشأنه، جريدة الحياة، 10 آب 1971.
  17. إضراب رمزي للصيادلة ومستوردي الأدوية غداً، جريدة النهار، 11 آب 1971.
  18. الصيادلة يدعون الحكومة إلى تسلّم مؤسساتهم، جريدة النهار، 13 آب 1971.
  19. وزير الصحة ينفي التعهد بدفع فروقات أسعار الأدوية، جريدة النهار، 5 أيلول 1971.
  20. الجمعية العموميّة لنقابة الصيادلة ترفض التقيّد بالتخفيض، جريدة الحياة، 11 أيلول 1971.
  21. المرجع نفسه.
  22. نقيب الصيادلة يعلن استحالة تنفيذ قرار وزير الصحّة، جريدة النهار، 10 أيلول 1971.
  23. الصيادلة يدعون الحكومة إلى تسلّم مؤسّساتهم، جريدة النهار، 13 آب 1971.
  24. سلام في إهدن متجاهلاً تجميده قرار أسعار الأدوية، جريدة الحياة، 11 آب 1971.
  25. المرجع نفسه.
  26. سلام يجمّد قرار التخفيض لأن البيطار لم يستشره بشأنه، جريدة الحياة، 10 آب 1971.
  27. الأطباء بين مؤيّد ومعارض ومتحفّظ، جريدة الحياة، 11 آب 1971.
  28. المرجع نفسه.
  29. وزير الصحّة يصرّ على تخفيض أسعار الأدوية، جريدة الأنباء، 11 أيلول 1971.
  30. الصيادلة يدعون الحكومة إلى تسلّم مؤسّساتهم، جريدة النهار، 13 آب 1971.
  31. “النهار” تنقل صورة عن اليوم الأوّل لتطبيق قرار وزير الصحة، جريدة النهار، 13 أيلول 1971.
  32. رفضت الصيدليات الاستجابة إلى القرار حتى يخفّض المستوردون الأسعار واختفت بعض أصناف الأدوية من السوق، جريدة الحياة، 13 أيلول 1971.
  33. مجلس الوزراء يدرس اليوم قضية الدواء، جريدة الحياة، 15 أيلول 1971.
  34. وزارة العمل تطلب وقف تسريح مستخدمي الأدوية وتؤكد تمسّكها بضمان ديمومة العمل لهم، جريدة الحياة، 8 أيلول 1971.
  35. فرنسا توقف تصدير الأدوية إلى لبنان، جريدة الحياة، 11 كانون الأول 1971.
  36. البيطار ينذر المستوردين بالغاء إجازاتهم لمزاولة المهنة، جريدة الحياة، 12 كانون الأول 1971.
  37. حرب الدواء، جريدة النهار، 12 كانون الأول 1971.
  38. الدواء: رفض مشروع بيطار فاعتبر الوزير نفسه مستقيلاً، جريدة النهار، 23 كانون الأول 1971.
  39. وزراء يتّهمون بيطار بالعمل على تفجير صراع طبقي، جريدة النهار، 30 كانون الأول 1971.
  40. مقابلة مع الدكتور كريم بيطار في 19 أيار 2020.
  41. مقابلة مع وزير المال السابق الياس سابا، شباط 2020.
  42. استقالة طرية، جريدة النهار، 24 كانون الأول 1971.
  43. الحكومة تبحث عن بديل لبيطار، جريدة النهار، 24 كانون الأول 1971.
  44. مقابلة مع الدكتور كريم بيطار في 19 أيار 2020.
  45. استقالة طرية، جريدة النهار، 24 كانون الأوّل 1971.
  46. سلام ينفي الخلاف مع فرنجية ويهاجم بيطار، جريدة الحياة، 4 كانون الثاني 1972.
  47. إميل البيطار هو الوزير الرابع الذي يستقيل لاصطدام مشروعاته بتحفظات مجلس الوزراء، جريدة النهار، 24 كانون الأول 1971.
  48. بيطار يتهم الحكومة بالجبن والتخاذل، جريدة النهار، 25 كانون الأول 1971.
  49. إميل بيطار يفشّ خلقه بوزير المال والدفاع، جريدة النهار، 25 كانون الأول 1971.
  50. مقابلة مع وزير المال السابق الياس سابا، شباط 2020.
  51. إميل بيطار يفشّ خلقه بوزير المال والدفاع، جريدة النهار، 25 كانون الأول 1971.
  52. المرجع نفسه.
  53. بيطار: آه من سلام، جريدة النهار، 14 أيار 1972.
  54. المرجع نفسه.
  55. المرجع نفسه.
  56. أصرّ فرنجيه فوافق المستوردون على تأمين الأدوية بالأسعار المخفضة، جريدة النهار، 29 كانون الأوّل 1971.
  57. وزير الصحة ونقيب الصيادلة: الأدوية مفقودة، جريدة النهار، 18 شباط 1972.
  58. وزير الصحة يعد بتأمين الأدوية المفقودة هذا الأسبوع، جريدة الحياة، 18 شباط 1972.
  59. البيطار يوضح ويتهم، جريدة الحياة، 23 شباط 1972.
  60. المرجع نفسه.
  61. المرجع نفسه.
  62. سلمان يرد على بيطار ويعد بتأمين الدواء مجاناً للفقراء، جريدة النهار، 6 أيار 1972.
  63. المرجع نفسه.
  64. وزير الصحة يؤكد انتهاء أزمة الدواء، جريدة الحياة، 22 نيسان 1972.
  65. المرجع نفسه.
  66. رؤوف أبو زكي، أخطبوط الدواء ينتصر، جريدة النهار، 21 أيار 1972.
  67. Baumann, Hannes. Citizen Hariri: Lebanon’s Neoliberal Reconstruction. London: C. Hurst&Co, 2016
  68. Citizen Hariri, p. 54
  69. Gates, Carolyn L. The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy. Oxford: The Centre for Lebanese Studies, 1998
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مجلة ، الحق في الصحة والتعليم ، سياسات عامة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، قطاع خاص ، تشريعات وقوانين ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، حقوق المستهلك ، مجلة لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني