معركة المقالع تستمرّ قضائيًا: معركة نموذجية لإنهاء نظام اللادولة واللاشرعية


2024-12-18    |   

معركة المقالع تستمرّ قضائيًا: معركة نموذجية لإنهاء نظام اللادولة واللاشرعية

بتاريخ أمس، سجل لدى مجلس شورى الدولة طعن على قرار الحكومة بمنح شركات الترابة مهلة سنتين لاستثمار المقالع والكسّارات خارج أيّ إطار قانوني. وقد قدّم الطعن اتّحاد بلديّات الكورة والجمعيّة البيئيّة “وصيّة الأرض” بالتعاون مع المفكّرة القانونيّة ضدّ القرار الصادر عن الحكومة في تاريخ 5/12/2024 وسجّل تحت الرقم 25895. ويهمّ المفكرة القانونية في هذا الإطار التأكيد على أمرين: 

أولًا، دعوى كجزء من معركة قضائيّة طويلة

تأتي هذه المراجعة بمثابة جزء من معركة قضائية طويلة الأمد التزمت بها المفكرة القانونية ومنظمات بيئية ومعهما اتحاد بلديات الكورة بهدف وضع حدّ لتعمّد الحكومات المتعاقبة تحويل قطاع الصناعات الاستخراجية إلى قطاع خارج القانون، من خلال منح امتيازات دورية لشركات الإسمنت باستثمار مقالع وفق ما تراه مناسبا في تعارض تامّ مع القوانين والأنظمة المرعية الإجراء. وبالنظر إلى خطورة هذه الممارسات وضررها الأكيد والجسيم على جبال لبنان وبيئته وحق مواطنيه بالصحة، لا نبالغ إذا قلنا أنّ هذه الممارسات باتت رمزًا للادولة واللاشرعية (أو الدولة الفاشلة) فيما تتوخّى المعركة تحقيق انتصارات قضائية مؤدّاها كبح ممارسات الحكومة تمهيدا لاستعادة الدولة القادرة وحكم الشرعية.

ومن المهمّ إثباتا لذلك أن نذكر أنّ اتحاد بلديات الكورة والجمعيات البيئية سبق أن استحصلُوا بالتعاون مع المفكرة القانونية على 4 قرارات نهائية بإبطال قرارات حكوميّة ووزاريّة بمنح امتيازات كهذه لصالح شركات الترابة. وقد صدرت هذه القرارات تباعا  في تواريخ (19/1/2022 و20/1/2022 و15/3/2022 و20/4/2023). ورغم ذلك، تجاهلت الحكومة هذه القرارات وعادت لتصدر في 28 أيار 2024 قرارا جديدا بمنح شركات الترابة امتيازا باستثمار المقالع خلافا للقانون لمدة سنة كاملة. هنا أيضا، نجحت جمعيات بيئية بالتعاون مع المفكرة في الاستحصال على قرار جديد بوقف تنفيذ القرار الحكوميّ كما نجحت للمرة الأولى في فرض تنفيذ القرار القضائي على أرض الواقع.  إذ بخلاف القرارات السابقة التي كانت تصدر بعد انتهاء مدة السماح الممنوحة لشركات الإسمنت (وكانت قصيرة نسبيا تتراوح بين شهر وثلاثة)، فإن قرار 28 أيار 2024 قد منح مهلة سنة وتم وقف تنفيذه قبل انقضاء 9 أشهر منها وقد عممت وزارة الداخلية بعد 20 يوما من صدوره وجوب فرض الالتزام به.  

إلا أنه هنا أيضا، عادت الحكومة لتتجاهل فحوى هذا القرار رغم التزامها رسميّا بتنفيذه لتعود وتمنح الامتياز نفسه للشركات نفسها مع فارق واحد تمثّل في مضاعفة مدّة الامتياز لتصل إلى سنتين بدل السنة الواحدة. وعليه، بدا أنّ الحكومة التي وجدت حرجا في استمرار تمرّدها على القانون والقرارات القضائيّة المتتالية فالتزمت بقرار وقف التنفيذ في 9 أيلول 2024، عادتْ لتجد في “الدّمار الهائل” الذي أحدثتْه الحرب الإسرائيلية ذريعةً تحرّرها من واجب احترام “الشرعية” وتخوّلها معاودة مخالفة القانون والقرارات المذكورة، كل ذلك خدمة لمصالح شركات الإسمنت. ولئن افترضت أن ذريعةً كهذه لا تتوفّر دائما، فإنها سارعت إلى مضاعفة مدة السماح لشركات الإسمنت (يعني استباحة الجبال) عما كانت عليه قبل الحرب لتصل إلى “سنتيْن” بدل السنة. فكأنّها ردّت على تدخّل القضاء لوقف تنفيذ قرارها بمنح سماح لسنة من خلال إصدار قرار جديد وهي عالمة كل العلم بعدم قانونيته، بمضاعفة المخالفة وتحديدا من خلال منح سماح لسنتيْن. 

ومن هنا، تعكس مواصلة المعركة القضائية مرة بعد مرة مثابرة وتصميما على تثبيت وجوب احترام الشرعية في قطاع الكسارات والمقالع وشركات الإسمنت. وهي ضرورة يفرضها أداء الحكومات المتعاقبة التي شاركت فيها على استباحة القانون بشكل كامل، مرة بعد المرة، بهذه الذريعة أو تلك. وهذا ما ينقلنا إلى الأمر الثاني الذي نودّ التأكيد عليه وهو أن الدمار الحاصل ليس ضرورة تبرر المحظور كما يوحي به القرار الحكومي الجديد بل مجرّد ذريعة واهية تستغلّها الحكومة لمواصلة استباحة هذا المحظور.  

ثانيًا، الدمار الهائل ليس سوى ذريعة لمواصلة استباحة المحظور 

الأمر الثاني الذي نودّ مناقشته هنا هو تبرير تجاوز المحظور من خلال منح امتياز لشركات الترابة بمخالفة القانون لسنتين. وهو تبرير غير صحيح للأسباب الآتية: 

  • إن الحكومات المتعاقبة طالما دأبت على إعطاء الامتياز المذكور بحجة أو بغير حجة. ولطالما تحدث وزراء فيها، عن ضغوط سياسيّة تمارس عليهم من أجل الموافقة على انتهاك القانون. وفي ظلّ أوضاع كهذه، يبدو أي قرار مماثل بمثابة وسيلة لتحقيق الغاية الأساسية التي هي أولا مصلحة شركات الترابة، فيما يكون أيّ مبرّر مجرد ذريعة لتحقيق هذه الغاية. وليس أدلّ على ذلك من أن قرارها السابق في أيار 2024 صدر في ظلّ أزمة اقتصادية بمعزل عن أي حاجة وطنية لمواد البناء.
  • لا يجوز القول بأن الدمار والحاجة التي تتولد عنه لتوفير مواد بناء، يشكل ضرورة أو قوة قاهرة تبيح المحظور، طالما أنه يبقى ممكنا توفير مواد بناء بطرق قانونية.   

فما الذي يمنع الحكومة من منح تراخيص قانونية على أساس المرسوم 8803، بعد التثبت من مراعاة الشروط البيئية والحفاظ على حقوق خزينة الدولة؟ العائق الوحيد يتمثل في إصرار الشركات على تواجد المقالع قرب معاملها أي في مناطق مسكونة وحسّاسة بيئيا وتاليا في مناطق يحظر الترخيص فيها وفق المرسوم. وفيما قد يزيد هذا العائق من كلفة الإنتاج بفعل زيادة كلفة النقل، فإنّه يحدّ بالمقابل من الأضرار البيئيّة سواء على صعيد الثّروة المائية أو التلوّث أو الصحّة العامّة في المناطق المأهولة. ولا نحتاج إلى كثير من الجهد لنرى أنّ الوفر الحاصل لدى شركات الإسمنت الخاصة  من خلال تمكينها من استثمار مقالع قريبة من معاملها أعلى بكثير من الخسائر البيئية والمالية في خزينة الدولة. ولو توسلت الحكومة مبادئ الحوكمة والإدارة الحسنة للشؤون العامة، لأمكن استخدام الموارد التي هدرت الدولة تحصيلها من مستثمري المقالع خارج القانون (وقد تم تقديرها بأربعة مليارات د.أ قبل 2020) لتطوير شبكة نقل تغطي مجمل الأراضي اللبنانية، مؤدّاها تخفيف كلفة نقل الحجارة على الشركات وتمكين الدولة من التوفيق بين جميع المصالح والقيم من دون تغليب أي منها على أخرى، فضلا عن انعكاسات تطوير شبكة نقل وطنية على حقوق المواطنين كافة. 

وعلى فرض أن منح التراخيص أو تنظيم نقل الحجارة من منطقة إلى أخرى يحتاج إلى وقت، فما الذي يمنع الحكومة من إلغاء حظر استيراد الإسمنت عملًا بمبادئ حريّة المنافسة، بما يضمن ليس فقط توفير السّلعة المطلوبة بانتظار استكمال الإجراءات الضرورية لتأمين ظروف الإنتاج بصورة صديقة للبيئة وللقانون، إنما أيضا توفيرها بأسعار معقولة تكاد تصل إلى نصف الأسعار التي تتداول بها الشركات بعدما ضمنت احتكار السوق بفعل هذا الحظر. وهنا أيضا، من المؤكد أن الخسارة الاقتصادية التي قد يتحمّلها لبنان تبعا لفتح الاستيراد لفترة معينة يبقى أقلّ من الخسارة المالية والبيئية والإنسانية التي يتحمّلها من جرّاء استمرار ممارسات استثمار المقالع خارج أي إطار قانوني.   

  • أخيرا، يسجّل أن القرار الذي برّر المحظور بضرورة إعادة الإعمار، على فرض صحته، قد خلا من أيّة تفاصيل تضمن حصر المسموح به بحدود ما تقتضيه الضرورة. وليس أدل على ذلك من خلوه من أي سقوف لكمية المواد المسموح إنتاجها أو منع التصدير إلى الخارج. وهو بذلك فتح الطريق أمام استباحة جبال لبنان لتوريد كميات من مواد البناء إلى الخارج، كل ذلك تحت غطاء ضرورة إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل في أرض لبنان. من هذه الزاوية، بدت الحكومة معنية بمواصلة التدمير أكثر مما هي معنية بإعادة الإعمار. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، بيئة ومدينة ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني