مساء يوم 13 فيفري الماضي، صدرَ على الصفحة الرسمية لوزارة الشؤون الثقافية بيان، ورد فيه: “تَقرّرَ بتعليمات من سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيد تنظيم الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب خلال الفترة الممتدة من 19 إلى 28 أفريل 2024 بقصر المعارض بالكرم كما كان ذلك مقررا من قبل”. ليختتم بذلك سلسلة من القرارات المتضاربة التي بدأت منذ الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي، عندما أعلنت الهيئة المديرة عن موعد الدورة الثامنة والثلاثين، قبل أن يُشاع إعلاميا إلغاء الدورة ويتأكد الخبر رسميا يوم 10 فيفري، مع إعلان أصدرته المؤسسة الوطنيّة لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية. ويلحظ أن الإعلان كان في الواقع مجرد قرار تأجيل غير معلل لأجل غير مسمى، كل ذلك قبل ثلاثة أيام فقط من صدور قرار الإعادة.
وعليه في غضون أقلّ من شهريْن، صدرت ثلاثة بيانات عن ثلاثة هياكل مختلفة وفوقها جميعا تعليمات صادرة من رئاسة الجمهورية، كلّها من أجل تحديد موعد دورة عادية في توقيت عادي، يُفترض فيه بداهة أنه معلوم الزمن والمكان منذ سنوات. جاء ذلك بعد تكرّر إلغاء تظاهرات ثقافيّة أخرى السنة الماضية، بتعلّات مختلفة. إلاّ أنّ فوضى البيانات هذه تكشف الكثير ما وراء الأكمة، سواء حول ظروف هيكلة وتسيير معرض الكرم نفسه أو السياسات الثقافية للدولة التونسية، وصولا إلى طبيعة النظام السياسي وسير دواليب الدولة في “الجمهوريّة الجديدة”.
حصاد سنة من الإلغاءات
لوهلة، بدا إلغاء هذه الدورة من معرض الكتاب الدولي -قبل إعادتها- حدثا فريدا، إلاّ أنه في الحقيقة لم يُمثل إلاّ تتويجا لسنة من الإلغاءات الطارئة للتظاهرات والمواسم الثقافية. إذ أعلنت وزارة الثقافة يوم 19 أكتوبر إلغاء الدورة الرابعة والثلاثين من مهرجان أيام قرطاج السينمائية -وهي أهم تظاهرة سينمائية في البلاد- قبل حوالي أسبوعين فقط من انطلاقها. وبعدها بحوالي شهر، تمّ تأجيل الدورة التاسعة من أيام قرطاج الموسيقية. وفي الحالتين، تمّ ردّ هذا الـتأجيل رسميا للتضامن مع “محنة الشعب الفلسطيني الشقيق”. وهو ما يبدو غريبا، خصوصًا وأنّ أيام قرطاج السينمائية طالما كانت فضاءً للاحتفاء بالنضال والسينما الفلسطينية. وبالتالي كان من الأنجع الاستفادة من التظاهرة كفرصة للتضامن مع القضية الفلسطينية عوض إلغائها.
أما مصير الدورة الخامسة من المعرض الوطني للكتاب التونسي، المعروف بتداخل مواعيده وعدم انضباطها، فلا يزال غامضا، إذ لم تَنشر سلطة الإشراف أو الهيئة المشرفة على المعرض أي بيان حول تأجيله أو إلغائه. مما يُبقي جميع الفرضيات واردة، خصوصًا وأنّ الفترة التي سبق وأن نظم خلالها السنة الماضية (شهر فيفري) شارفت على الانتهاء. وقد امتدّت حالة الغموض لتظاهرة أيام قرطاج الشعرية، التي وقعَ تأجيل دورتها الأخيرة سنة 2022، ولحدود هذه اللحظة لم يقع تداول أي خبر رسمي حول موعد تنظيمها أو إلغائها.
وباستثناء أيّام قرطاج السينمائية والموسيقية التي تم تبرير إلغائها بحرب الإبادة على غزّة، فإنّ حالتي التأجيل المستمرّ لمعرض الكتاب الوطني وأيام قرطاج الشعرية تُوفران مثالين جليّين لغياب الشفافية حول مصير هذه التظاهرات والتعلاّت الحقيقية من وراء تأجيلها. فالوضعيّة الصحّية الحرجة خلال فترة جائحة الكورونا، والتي تحجّجت بها سلطة الإشراف لإلغائها، يبدو من البديهي اليوم أنها زالت، وبالرغم من انتفاء المانع إلا أن التظاهرة لم تر النور بعد.
مسألة جدية أسباب الإلغاء تُطرَح أيضا بخصوص إلغاء الدورة الحالية من المعرض الدولي للكتاب وإعادتها. فقد تزامن الإعلان الرسمي عن إلغائه، يوم 10 فيفري الماضي، مع إلغاء عدة معارض حرفية، وقع تبريرها بأسباب لوجستية تتعلق بفضاء قصر المعارض بالكرم والذي يستوجب إجراء إصلاحات مؤكدة للحفاظ على سلامة مرتاديه. وبالرغم من خطر “السقف”، إلا أنّ البيان الأخير لوزارة الشؤون الثقافية المنشور بعد ثلاثة أيام فقط، أعاد المعرض لنفس الفضاء وفي موعده الأصلي، من دون الإشارة لأي إجراء وقع اتّخاذه لتفادي مشاكل الصيانة. وهو ما يطرح التساؤل حول ما الذي حدث خلال هذه المدة الوجيزة، وأدّى لهذا التغيير الجوهري: هل وقعت خلالها صيانة الفضاء مما يهيئه لاستقبال الحدث أم أن مخاطر السلامة وقع تجاهلها؟ أم أن الأخيرة ليست سوى تعلة لمشكل قابل للحل والتجاوز، لو وجدت الرغبة والإرادة اللازمة لذلك؟
ما بعد الاضطراب، تبعات بالجملة
من البيّن أن لإلغاء معرض الكتاب تأثير كبير على الحركيّة الثقافية والاقتصادية لقطاع كامل. وعلى عكس المتوقع، فإنّ القرار بإعادة برمجة المعرض لا تعني إعادة الأمور لنصابها بشكل أوتوماتيكي، بل إنّ هذا الاضطراب ربّما ساهم في تعميق هذا التأثير. وعلى المستوى الثقافي، يُمثل الأخير أهم حدث ثقافي على المستوى الوطني والأكثر جماهيرية، لذلك فإنّ حركية نشر وطباعة الكتب تتصاعد بشكل مستمر خلال المدّة السابقة له، حتى يتسنىّ عرض وتقديم الأعمال الجديدة خلاله. وتعمَد دور النشر -عادة- إلى وضع روزنامة عمل تَسبق المعرض بعدّة أشهر لتحقيق هذه الغاية، تصل حتى شهر ديسمبر. وهذا ما أكّده اتّحاد الناشرين في بيان مشترك مع نقابة الكتبيّين والموزعين. وقد نبّه في ذات البيان إلى أن هذا الاضطراب من شأنه أن يؤدي حتى لإفلاس عدد من مؤسسات القطاع. وبسبب الحديث عن الإلغاء الأخير للمعرض، تعرضت دور نشر عدة لاضطراب في وتيرة العمل داخلها، ممّا حدا ببعضها إلى تأخير عدد من عمليات النشر والتصريح بذلك علنا في محاولة لاحتواء ذلك.
الارتباك ذاته عرفتْه المكتبات والموزعون، تحديدا المكتبات المختصّة في توريد الكتب الأجنبية لتوزيعها وعرضها أثناء المعرض. والتي عمدت أثناء فترة “الريبة” السابقة لتخفيض قيمة وارداتها من الكتب. وهو ما أكدته للمفكّرة السيدة سماح قطفاوي، الممثلة التجارية لمكتبة الشبكة العربية فرع تونس، التي شرَحَت كيف أدى الاضطراب الأخير لتفويت بعض المؤسسات آجال شحن الكتب من القاهرة وبيروت، أو على أقلّ تقدير لمضاعفة العمل للّحاق ببعضها، ولو من خلال شحن طلبيات غير كاملة.
أما على المستوى الخارجي، فقد سبق لاتحاد الناشرين العرب أن أعلن رسميا في بيان موجه لأعضائه من مختلف الدول العربية، أنّ المعرض قد وقع تأجيله. وهو إعلان سبق الإعلان الرسمي بعدة أيام، بل إنّ الهيئة المديرة وفي مراسلة خاصة للاتحاد أعلمتهم بقرار التأجيل منذ يوم 24 جانفي الماضي. مما يؤكد أنّ قرار التأجيل قد تم اتخاذه منذ مدة طويلة. وبالرغم من الإعلان الرسمي عن عودة المعرض، إلا أنّ اتحاد الناشرين العرب لم يصدر بيانا إعلاميا في الغرض لحدود هذه اللحظة. وهذه الضبابية من شأنها أن تزيد من عرقلة مشاركة الناشرين الأجانب، الذين يُعانون أصلا من تأخيرات وصعوبات لوجستية تتعلق بشحن الكتب والإجراءات الديوانية، بل وحتى الحصول على التأشيرات للعارضين أنفسهم القادمين من بعض الدول العربية، مما أدّى إلى تناقص ملحوظ في أعداد الناشرين الأجانب سنة بعد أخرى، وتحوّلِ معرض الكرم -تدريجيا- من معرض دولي إلى معرض شبه وطني يطغى عليه الطابع المحلي.
أمام كلّ ما سبق، وفي غياب الإعلان الرسمي عن إجراءات خاصة لتلافي التأخير الحاصل أو تقديم تسهيلات لجذب العارضين المحليين أو الأجانب مثل تخفيض رسوم كراء الأجنحة، يبدو أنّ الهدف المرسوم يتمثل في “تمرير” الدورة كرقم في سلاسِل الدورات بقطع النظر عن مدى نجاحها أو قدرتها على المحافظة على طابعها الدولي والتنافسي.
ما وراء “السقف”: الصراع حول ملكية المعرض
منذ السنة الماضية، عرف المشهد الثقافي مزيدا من التقييد والرقابة، إما بشكل مباشر من خلال حجز ومنع عرض عدد من الكتب أو حتى توريدها وتتبع عدد من الكتاب والشعراء إما تأديبيا أو جزائيا. أو بشكل غير مباشر من خلال الضغط على الناشرين عبر آلية الدعم. إلاّ أنّ هذه التضييقات لم تحُل دون وجود ردود فعل من داخل القطاع ضدّ قرار الوزارة إلغاء معرض الكرم، وصلتْ حدّ التهديد بمقاطعة أيّ معرض قادم في غير موعده الحالي. كما تمّ التنديد بالإلغاء باعتباره ضربا لأحد آخر المَنَافِس الحيوية لقطاع يعاني أصلا من صعوبات هيكلية عميقة، بل إنّ بيان اتحاد الناشرين السابق لم يتردّد في وصف ما حدث بكونه استمرارا “لقرارات عكسية” تتخذها سلطة الإشراف للضغط على القطاع.
أما تدخّل رئاسة الجمهورية فيبدو أنه لا ينجح في حلّ المشكل بل فقط تأجيله. ففي تدوينة نشرها بعد قرار إعادة المعرض، أشار رئيس اتحاد الناشرين رياض بن عبد الرزاق إلى أنه قد “حان الوقت في تونس لأن تُعهَد هذه المهمة إلى مهنيّي القطاع لإنقاذ معرض تونس الدولي للكتاب”. والمقصود بذلك ضمنيا الإشراف على تسيير وإدارة التظاهرة على عكس الوضع القائم حاليا، والذي يَخضع فيه المعرض للإشراف المباشر للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنيّة. وهي مؤسسة تم إحداثها سنة 2014 لتُساهم في “معاضدة الجهد العمومي في تنظيم التظاهرات الثقافية وإبراز دورها الثقافي… خصوصًا وأنّ تنظيم التظاهرات قبلها كان لا يخضع لأيّ إطار تنظيمي أو قانوني”، كما صرّحَ بذلك الوزير لدى رئيس الحكومة وقتها.
وخلال عشر سنوات من عملها، يبدو أنّ دَور هذه المؤسسة لم يُساهم جدّيا في تغيير واقع المَعارض المتتالية، والتي ظلّت محكومة برؤية “رسمية وأحادية تتعامل مع قطاع النشر كقطاع خاصّ بحت” كما أكد ذلك الناشر منصف الشابي، أي باعتباره مجرّد قطاع ربحي لا يلعب دورا “بيداغوجيا وطنيا”. لكنّ الدولة، في الوقت ذاته، مستقيلة في الواقع من مسؤوليّاتها الثقافية، كما يؤكد الشابي، بخاصة مع التراجع المطّرد في الدعم المالي لقطاع النشر خلال السنة الماضية والتراجع الكبير لشراءات مؤسسات الدولة المختصة للكتب أو عبر الإلغاء والتخلي على عدد من التظاهرات والمناسبات الثقافية الكبرى.
إلاّ أنّ موقف الناشرين ونقابة الكتبيين على أرض الواقع لم يحمل تصعيدا ميدانيا، لأنّ قرار المقاطعة الذي تمت الدعوة له في البداية كان مرتهنا فقط بشرط إعادة المعرض في موعده الأصلي. أما المطالب بعيدة المدى فلم تذهب للأقصى، أي طلب الفصل الكلي بين المعرض وسلطة الإشراف، خصوصًا وأنّ موقف رئيس اتحاد الناشرين يبدو مهتما أكثر بالتركيز على ربط أزمة المعرض بتعيين المشرفين عليه، إذ درجَت الوزارة خلال الفترة الماضية على تعيين شخصيات من خلفيات أكاديمية على رأس الهيئة المديرة، حيث شهد “تدهورًا ملحوظًا وخطيرا من دورة إلى أخرى”، مقارنة بالفترة السابقة والتي كان فيها “حدثا ثقافيا بارزا” تحت إشراف الرئيس السابق لاتحاد الناشرين، وفقا لتعبيره. وهو رأي يستوجب كثيرا من التنسيب، خصوصًا وأنّ اتحاد الناشرين طرف رئيس في هيئة التنظيم، وتحديدا في شخص رئيسه الذي لم يغب تقريبا عن أي هيئة مسيرة له في الدورات الأخيرة.
لا يبدو أنّ اتحاد الناشرين بصدد ترفيع مطالبه والدفع بها نحو الأقصى: إلغاء إشراف وزارة الثقافة الكلي على معرض الكتاب. بل ربما يرضى في أحسن الأحوال بتدعيم حضوره وافتكاك رئاسة الهيئة المديرة، من دون الاستعداد لخوض مخاطرة تحمّل المسؤولية بشكل كلي ومطلق على إنجاح الحدث من عدمه، إذا تخلت الدولة رسميا عن الإشراف عليه.
وإلى ذلك الحين، ربما تبقى وضعية الالتباس التي تحيط بمعرض الكرم وغيره من التظاهرات الثقافية مفيدة للجميع سواء لتبادل تحميل المسؤوليات وتشتيتها، إلى حدّ يطرح فيه السؤال حول حقيقة الطرف الماسك بسلطة القرار هنا: هل هي المؤسسات المخوّلة قانونيا ونظريا ذلك، أم أنّ وزارة الشؤون الثقافة وهياكلها لم تعد في النهاية سوى منفذة لـ”تعليمات” رئاسة الجمهورية؟
معطيات كثيرة ترجح الرأي الثاني، خصوصًا وأنّ الرئيس قيس سعيد عمل وفي مناسبات عدة، ومن أبرزها معرض الكرم وتحديدا دورته السابقة، على تجذير ممارسة التدخل المباشر في الشأن الثقافي سواء من خلال فرض رقابة مباشرة عبر حجز ومنع عرض عدد من المؤلفات، قبل التراجع عن ذلك علنا وتحميل المسؤولية للهيئة المديرة التي فُرضَ عليها التعامل مع تبعات ذلك القرار. أو عبر طرح مشاريع لم تر النور لليوم، من قبيل إحياء الشركة التونسية للنشر والتوزيع، وما يعنيه ذلك ظاهريا من إعادة تفعيل دور الدولة الثقافي أو ربّما كتحذير لقطاع النشر الخاص وتطويع له.
في الختام، يمنحنا ملف معرض الكرم مثالا نموذجيا للحالة الراهنة للمؤسسات الثقافية والتوظيف السياسي للفعاليات الثقافية بهدف تدعيم صورة الرئيس ليس فقط عبر “إشرافه السامي” على افتتاحها، وإنما كمنقذ وراع له وللثقافة.